كانت الشمس تطل من شرفتها في برج العذراء، وكان القمر يضرب موعدًا مع العقرب، والمشتري بدا متوجًا بإكليل النصر في الأسد، عندما عزمت على قضاء نهار مجيد مع صاحبي في الحدائق الملكية في مدينة لندن.
نحن في أول أيام الطرف، آخر منازل الصيف المؤذنة بدخول الخريف، وإن كان ثمة بداية فليس هناك أجمل من وقفة في "البيركلي سكوير" كوقفة بدوي يقرئ الطلل السلام، ولكن أي طلل! إنها شجرة دلب عملاقة تخبر عن القرون الأولى، بها يبدأ الذكر الجميل ويختتم.
هي أقدم شجرة في لندن، شهادة ميلادها تقول إنها من مواليد 1789، أي أنها عاصرت الثورة الفرنسية، إنها أم الأشجار، الشجرة التي فاضت عنها أشجار لندن -بتعبير فلاسفة القرون الوسطى- أو تلك القديسة التي أرادت أن تبارك الأرض بنضرتها فوزعت جسمها على الشريط الغابي عندما احتاجت لندن أن تطرد من رئتيها دخان العصر الصناعي.
"إنها شجرة الدلب" قلت لصاحبي.
تفرسنا في جذعها الذي انتشر عليه الدرن، في دلالة على أنها عملت طوال قرون على تنقية هواء لندن من سحب الفحم، عندما كانت تلك السحب هي أوكسجين لندن..
قلت لصاحبي: لقد اجتهد قدامى الإغريق في رسم صور دايونيسوس إله الخمر الإغريقي على أشجار الدلب، في إشارة إلى ولادة الإله الطفل من رحم الشجرة. إنها شجرة هيلين ابنة زيوس، يا صديقي. فعلى رغم أن هيلين تتمثل في أشجار أخرى، لكن الدلب هي الشجرة الرحم، لذا.. فهي أم الأشجار كما أسلفت.. في إسبارطا كانت هيلين تقترن بالدلب، هيلين الإلهة الإغريقية النباتية التي منحت اسمها لكثير من الأشجار.
يرى الباحثون في الأشجار وسلالاتها أنها من الأشجار المجهولة الأصل، ويختلفون في الطريقة التي وصلت فيها إلى الجزر البريطانية.
ثم قطعنا جولةً عبر شوارع لندن لنعرج على الهايد بارك، واخترنا مدخل كامبرلاند جيت، باتجاه الـ "سبيكر كورنر"، منبر الخطباء الأحرار القادمين من شتى أركان الأرض، لنشاهد المكان الذي قيل إن كارل ماركس وقف فيه خطيبًا ذات يوم، فإذا الخطباء اليوم من رعاع القوم وهواة اللغو والثرثرة.
هنا في 1872، أباح الملك للناس حرية الكلام من هذا المنبر..
هنا تنتشر قبيلة من الدلب في كل مكان، هي بالتأكيد من سلالة تلك الأم.
ثم اتجهنا في الطريق الشمالي بمحاذاة ستانهوب بليسجيت للاطمئنان على شجرة دلب معمرة هناك. وفي مقابل شارع البيز ووتر، شاهدنا دير التايبرن، أصغر دير في لندن، ثم اتجهنا إلى البيون جيت فكليرندون جيت الصغيرة فشاهدنا انعكاس أشعة الشمس في سحابة من ملايين الحشرات التي كانت تملأ سماء الحديقة، تلك الفراشات الطائرة التي لقصر عمرها لن ترى شمس النهار التالي، عندها سأل صاحبي: ما اسم هذه الشجرة الباكية؟ فقلت: إنه الليمون "اللايم"، فقال: ولكن لا يبدو على مظهره شيء مما نعرفه عن الليمون، فاستدركت سريعًا وقلت: إنه الليمون الإنكليزي يا صديقي، وهو لا يمت بصلة إلى الليمون الذي نعرفه إلا بالإسم.
وهناك على يميننا كانت تقف شجرة بلوط، والبلوط من الأشجار التي لا نذهب لرؤيتها فحسب، بل إنها من النوع الذي يصح فيه القول: شجرة نقصدها لنأنس بها ونتملى منظرها.. ويقصدها الناس ليلتمسوا منها شيئًا من البركة.
إنها شجرة مقدسة عند كثير من الشعوب الأوروبية، وأخشابها تعد من أجود أنواع الأخشاب، وتستعمل في صناعة الأبواب، بل إن لفظة الباب "Door" في اللغات الهندوأوروبية مشتقة منها. ولا ريب أن تكون أساطيل بريطانيا، التي جعلت هذا البلد إمبراطوريةً لا تغيب عنها الشمس، كانت مصنوعةً من البلوط، تمامًا مثل قلوبهم البلوطية! قلت لصاحبي.
لقد كانوا يلبسون قلوبهم فوق صدورهم ويغنون أغنية "قلوب من البلوط" عندما يركبون البحر، ويتوجهون إلى حرب أعدائهم، فليس هناك أقسى من البلوط لتشبيه قلوب تهرول نحو الموت، إنها إشارة إلى تماهي الجنود مع مراكبهم وكأنهم يشكلون معها جسدًا واحدًا لا يمكن النيل منه لصلابته. ومن البلوط قلت لصاحبي تصنع سدادات قناني النبيذ، بل وهناك نوط شرف تتخذ من شكل ورقته.
كان غلاظ الألمان يصنعون من ثمار البلوط القهوة، وأما الإنكليز فكانوا يقدمونه علفًا للخنازير.
قلت لصاحبي: لو علم الإنكليز أن أسماء القساوسة الدرويديين Druids في بريطانيا القديمة، مشتقة من المفردة الدالة على البلوط، لما قدموا ثماره زادًا لخنازيرهم، بل إن كلمة شجرة Tree مشتقة من اسم البلوط باليونانية.
لقد عرف أسلافنا البلوط، وأطلقوا عليه اسم "آنو"، ومنها اشتقّ اسم أحد الشهور الأكدية وكان يعرف بـ "الآناتو" أي شهر البلوط، ولقد اقتات عليه الإنسان قديمًا قبل أن يهتدي إلى زراعة الحبوب. وتذهب الأسطورة إلى أن "يورينوما" إلهة الأشياء كلها، خلقت الشمس والكواكب كلها، ثم نهض "بيلاسغوس" من تربة "أركاديا" جنوب اليونان فعلمهم صناعة الأكواخ وأكل البلوط، لقد كانت عقوبة الموت مصير من يقطع شجرة بلوط مقدسةً. قلت لصاحبي.
قلت: أتعلم أن الأنواط أو المعاليق تعود إلى الإلهة اليونانية أرتميس ربة الصيد؟ فلقد كان لها أنواطها ومعاليقها، ولها قيود من الصفصاف أيضًا. بل إن هيلين ابنة زيوس ذاتها تظهر في صور مقدسة، وبيدها حبال أو أغصان ليفية مدلاة نحو الأرض.
وربما من موروثات الإغريق التي كانت شائعةً في بلاد الشام، أخذ العرب فكرة المعاليق والأنواط على أشجارهم، فلقد كان العرب يفزعون في كل حول إلى شجرة سدر أطلقوا عليها ذات أنواط ولا يعودون منها قبل أن يقلدوها أسلحتهم وملابسهم وهدايا متنوعةً، حتى أنهم جاؤوا إلى النبي محمد "ص" يسألونه أن يجعل لهم شجرةً ذات أنواط كما لخصومهم ذات أنواط.
أما قيود الصفصافة التي شاهدناها في حديقة الريجنت تلك التي باركتها الإلهة الإغريقية أرتميس، فلقد خبرها عن قرب شاعرنا أبو الطيب في صباه بعد أن قبض عليه ابن علي الهاشمي في قرية يقال لها "كوتكين"، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، فقال ساخرًا:
زعم المقيم بكوتكين بأنه من آل هاشم بن عبدمناف
فأجبته مذ صرت من أبنائهم صارت قيودهم من الصفصاف
فقال: خبرني عن الهايد بارك.
فقلت: في عام 1536 اتخذ هنري الثامن الهايد بارك منتجعًا لقنصه، وفي 1637 قام الملك شارل الأول، والذي كان أكثر أريحية من سلفه فأباحه للجمهور، وفي 1690 أضيء طريق "روتن رو" بثلاثمئة مصباح صناعي، وفي 1730 تم بناء "السربنتاين"، وهي بحيرة اصطناعية عملاقة تبدو كمرآة ضخمة تعكس وجه السماء، ولو أنها غيبت في غياهبها زوجة الشاعر بيرسي شيللي، ففي صبيحة يوم كهذا من صباحات أيلول/ سبتمبر العام 1816 انتشل جثمان هاريت شيللي التي قضت غرقًا في هذه البحيرة.
ها قد بلغنا بوابة فيكتوريا جيت العظيمة، وعبرنا إلى الجنائن الإيطالية فعرجنا على شجرة جميز باسقة، فقلت لصاحبي: ليس في وسعك أن تعثر عليها إلا بالقرب من ساقية أو على مقربة من نهر، هناك فحسب ستجد الجميز الباكي، والجميز من الأشجار الضخمة الكثيفة الأغصان والدائمة الخضرة، وله ثمر يؤكل، وأوراقه تأخذ في شكلها هيئة القلب.
لقد عرفناه منذ عصور سابقة، وكانت له قداسة عندنا شبيهة بقداسة البلوط عندهم، قلت لصاحبي. فلقد زرعه المصريون من عصر ما قبل تأسيس الأسرات. وكان الجميز رمزًا لشجرة الحياة التي تنتصب بين عالمي الأحياء والأموات، وكما استمد قساوسة بريطانيا أسماءهم من البلوط، فلقد أطلق بعض الفراعنة اسم الجميز على مواليدهم، كما في اسم العلم "سينوحي" الذي يعني في اللغة المصرية القديمة "ابن شجرة الجميز". ولقداسته استعمله المصريون في صنع توابيتهم. كذلك، لا تخلو الكتب المقدسة من ذكر البلوط، فلقد ذكر في سفر عاموس وسفر الملوك الأول وسفر المزامير وإنجيل لوقا. ومنه تصنع أجود مضارب الكريكيت الذائعة الصيت. أما الإنكليزيات فيجدلن أماليده الطرية ليصنعن منه السلال، ومنه يصنع الأسبيرين.
في الجنائن الإيطالية في حديقة الرويال كنسنغتون، كانت النوافير تعزف لنصب "إدوارد جنر" الذي راح ينصت إليها في خشوع، وهو العالم الفذ الذي فك شفرة وباء جدري الماء، فالتفت الى صاحبي وقلت: لو وقف أبو العلاء المعري أمام نصب إدوارد لدبج فيه قصيدة ثناء، فالمعري فقد بصره صغيرًا بسبب هذا الوباء. لقد أمر الملك ألبرت بإقامة هذا النصب عام 1862م.
وعرجنا بعد ذلك على شجرات "غبيراء" مزهرة، ولقد أثر عن مصادرنا العربية أنه متى ما أزهرت الغبيراء اغتلمت النساء.
ثم عبرنا الجهة الأخرى من "السربنتاين"، وسرنا في الطريق الشمالية السفلى في حديقة الكنسنغتون، جاوزنا "مارلبورو جيت"، فعرجنا للسلام على السناجب هناك، تلك المخلوقات التي حدثني عنها الصديق الراحل نزار قباني ذات يوم قائلًا: يا صديقي، سناجب لندن تأكل من يديك البندق، وتتسلّق كتفيك، والطيور في العالم العربي تفر منك من بعد ميل.. قالها وأنا أهمّ بوداعه في شقته الصغيرة قرب هانز، عندما دخل عصئئفور من النافذة.
أرسل تعليقك