ربما لم يدر بخَلد المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ، مخرج فيلم "الذكاء الاصطناعي" في عام 2001، والمأخوذ عن قصة قصيرة لكاتب الخيال العلمي البريطاني برايان أولدس صدرت عام 1969، أن تقنيات هذا النوع من "الذكاء" يمكن أن تستخدم في العلوم الطبية لعلاج ذوي الإعاقات الحركية.
وقد كثر عدد المراكز البحثية العلمية، بالإضافة إلى عدد من الشركات الخاصة، التي تحاول الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفه، ليس فقط في التحكم في أجهزة الروبوت والسيطرة عليها، وإنما في علاج بعض الأمراض المستعصية أيضا.
وقد توصلت دراسة حديثة نشرتها دورية "برين" العلمية البريطانية المعنية بدراسة الدماغ البشري، والصادرة عن جامعة أكسفورد، في فبراير/شباط الجاري، إلى أن الجمع بين تقنية التحفيز العميق للدماغ والذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم في التنبؤ بحركة الأطراف، وبالتالي التحكم في الحركة بالنسبة لمرضى الشلل، أو مرضى باركنسون، أو التحكم في الأطراف الاصطناعة الروبوتية التي قد يستخدمها فاقدو الأطراف.
وكشف الباحث الأردني، سائد الخوالده، وهو الباحث الرئيسي في هذه الدراسة التي أعدها مع زملاء آخرين في جامعتي أكسفورد، وأدنبره بالمملكة المتحدة، وجامعة بيرن في سويسرا، لبي بي سي عربي، أن الجمع بين هاتين التقنيتين يمكن أن يستخدم في ترجمة إشارات الدماغ المسؤولة عن تحريك الأطراف لدى الأشخاص المصابين بالشلل، أو المصابين بمرض باركنسون، وهو ما يَعدُ بالتوصل إلى نجاحات جديدة على صعيد تمكين هؤلاء من التحكم في الحركة.
نتائج "تنير الطريق"
لقد أصبحت فكرة توظيف الذكاء الاصطناعي في التوصل لعلاج الأمراض أو الإصابات التي تؤدي إلى إعاقات حركية تستحوذ أيضا على اهتمام كثير من الشركات الخاصة، والتي تحاول أن يكون لها السبق في هذا المضمار.
فقد أطلق إيلون ماسك، صاحب شركتي "سبيس إكس" لرحلات الفضاء، وتيسلا للسيارات، شركته الخاصة التي تحمل اسم "نيورالينك" في 2016، بهدف الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في مساعدة المرضى المصابين بالشلل في التحكم في الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر عن طريق إشارات الدماغ، من خلال تقنية التحفيز العميق للدماغ.
ورغم مخاوف أبداها ماسك سابقا من قدرات الذكاء الاصطناعي في المستقبل، في نقاش شهير بينه وبين رائد الأعمال الصيني جاك ما، رئيس شركة على بابا الصينية العملاقة، أكد جاك أنه في عصر الذكاء الاصطناعي "ستصل أعمار الناس إلى 120 عاما"، بسبب ما يمكن أن توفره تقنيات هذا النوع الذكاء للبشر.
ويقول الخوالده لبي بي سي إن هناك نتائج إيجابية "تنير الطريق نحو تقنيات تستخدم إشارات الدماغ من منطقة تعرف باسم العقد القاعدية في الدماغ، وتقنيات ما يعرف بتعلم الآلة، التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، من أجل تقديم حل لمرضى الإعاقات الحركية من خلال التنبؤ المسبق بالحركة التي يفكر فيها هؤلاء المرضى".
ويضيف الباحث أن تقنية التحفيز العميق للدماغ، والتي تعمل عن طريق زرع مجسات كهربائية داخل مناطق معينة في الدماغ، يمكنها أن تسهم في تنظيم النشاط الدماغي غير الطبيعي الذي يعاني منه أصحاب الأمراض الحركية، مثل باركنسون، وكذلك استغلال الإشارات العصبية المسجلة للتنبؤ بالحركة المراد تنفيذها لمرضى الشلل عموما، مما يعطي أملا في المستقبل لهؤلاء المرضى.
ويقول الخوالده إنه باستخدام هذه التقنية "يستطيع المريض التفكير فقط في الحركة التي يريد القيام بها، ليقوم الجهاز المطور المسؤول عن التنبؤ بالحركة بإرسال إشارات كهربائية من الدماغ تساعد في تحريك هذا الطرف أو ذاك. وهذا الجهاز يمكنه أن يقوم بعملية التنبؤ هذه قبل مدة قد تصل إلى أربع ثوان من عمل الحركة المطلوبة، مما يتيح الإمكانية لاستخدامه في أنظمة أخرى تتطلب استجابة سريعة".
وعمل الخوالده في مجال بحث وتطوير التكنولوجيا الطبية والعصبية ودمجها بالذكاء الاصطناعي منذ عام 2014، وبالإضافة إلى عمله الحالي في قسم علم الأعصاب الإكلينيكي بجامعة أكسفورد، عمل أيضا في مراكز بحثية أخرى مثل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، ومعهد ماكس بلانك لأبحاث الدماغ في ألمانيا.
واستعان الباحثون من أجل إعداد هذه الدراسة بعدد من مرضى باركنسون، بلغ عددهم 18 مريضا، ممن خضعوا قبل ذلك لجراحة لزراعة جهاز للتحفيز العميق للدماغ داخل منطقة العقد القاعدية بهدف العلاج من ذلك المرض.
وأشارت نتائج الدراسة: "إلى وجود نشاط زائد في إشارات بيتا العصبية على شكل نبضات دماغية غير طبيعية، تشبه نبضات القلب، والتي تؤثر سلبا على تحكم مرضى باركنسون في أطرافهم، مما يؤدي إلى بطء الحركة لديهم، وارتعاش الأطراف كذلك".
وقال بيتر براون، المشرف الرئيسي على هذه الدراسة، والأستاذ في علم الأعصاب التجريبي في قسم علم الأعصاب الإكلينيكي بجامعة أكسفورد، لبي بي سي عربي: "استخدمنا في هذه الدراسة تقنية التحفيز العميق للدماغ مع تقنيات تعلم الآلة، لفهم تأثير نوع محدد من النبضات العصبية في الدماغ لدى مرضى مصابين بمرض باركنسون".
وأضاف براون، وهو أيضا مدير وحدة مجلس الأبحاث الطبية لشبكات الدماغ الديناميكية في جامعة أكسفورد، لبي بي سي، أن هذه التقنيات "يمكن أن تُستخدم لترجمة إشارات الدماغ المسجلة عند محاولة تحريك الأطراف من قبل المصابين بالشلل، أو المرضى الذين فقدوا أطرافهم نتيجة بترها. وهذه الإشارات المترجمة يمكن أن تستخدم للتحكم في أجهزة كالأطراف الاصطناعية الروبوتية".
صورة لتسجيل الإشارات العصبية باستخدام المجسات المستخدمة في التحفيز العميق للدماغ وتبين المهام الحركية التي قام بها المرضى خلال التجارب العلمية التي أجريت خلال البحث
تحديات التطبيق العملي
لكن بعض الباحثين يرى أن هذه الدراسة تتعامل مع جزء محدد فقط من تكنولوجيا الدماغ والأعصاب، كما أنها تتعامل مع عينة من مرضى باركنسون فقط، دون غيرهم من مرضى الإعاقات الحركية.
يقول الدكتور جيرد تنكاوزر، وهو طبيب في قسم الأعصاب في مستشفى جامعة بيرن السويسرية، لبي بي سي عربي، إن ترجمة رغبة المرضى الذين يستعينون بأطراف اصطناعية روبوتية في الحركة من خلال إشارات الدماغ، "هو أحد أهم التطبيقات في هذه الدراسة".
لكن تنكاوزر يرى أيضا ضرورة أن نأخذ في الاعتبار أن هذه الدراسة تتعامل مع جزء محدد من تكنولوجيا الدماغ والأعصاب، "والذي يعتمد على فكرة أن منطقة العقد القاعدية هي الخيار الفعال للحصول على الإشارات اللازمة للتوصل للتنبؤ الدقيق بحركة الأطراف".
كما يشير طبيب الأعصاب إلى أن هذه الدراسة تواجه نقطتين: "أولا، بيانات المرضى في الدراسة مأخوذة من مرضى باركنسون فقط، وليس من مجموعة من مرضى مصابين بالشلل أو فقدان الأطراف الذين يمكن لهم الاستفادة من هذه التكنولوجيا المقترحة. ثانيا، ناقشت الدراسة التنبؤ بحركة أحد الأطراف مقارنة بطرف آخر، لكن لم تتطرق إلى معلومات بشأن ديناميكية حركة الأطراف واتجاهاتها بشكل عام"، وهو الأمر المهم في مسألة التحكم في الأطراف الاصطناعية.
ويؤكد تنكاوزر أن أهم ما يميز هذه الدراسة، أنها تثبت أنه يمكن ترجمة المعلومات المسجلة من منطقة العقد القاعدية في الدماغ "بدقة كبيرة باستخدام تقنية التحفيز العميق للدماغ، على عكس الطرق الأخرى التي تعتمد على مجسات كهربائية تسجل الإشارات العصبية من قشرة الدماغ".
كما يرى أن استخدام هذه الطريقة يبدو حلا مناسبا إلى أن نستطيع في المستقبل أن نرى كم من الممكن أن تتحول هذه المعلومات والنتائج "إلى تطبيق إكلينيكي، يمكن المرضى من الحصول على حياة أفضل".
ويؤكد الخوالده أنه بالإضافة إلى ما يمكن الحصول عليه من تطبيقات عملية في المستقبل من خلال هذه الدراسة، فإن النتائج التي توصلت إليها تساعد بشكل كبير أيضا في فهم أعمق لطبيعة مرض باركنسون، وتأثيراته المختلفة على المصابين به، مما قد يفتح الباب أمام التوصل لطرق جديدة لعلاجه، وعلاج غيره من الأمراض العصبية عبر تقنية التحفيز العميق للدماغ، كمرض الوسواس القهري والاكتئاب.
ولا يزال الأمل معقودا على تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها تقديم حلول عملية أكثر تساعد مرضى الإعاقات الحركية المختلفة في التغلب على مشكلاتهم، وجعل حياتهم أفضل.
قد يهمك ايضا : المخرج ستيفن سبيلبرغ يحصد ذهبية "جمعية المونتيرين"
باحثون يكتشفون "مفترس" البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية المتوافرة في الوقت الراهن
أرسل تعليقك