تقبع بعض المواقع الاثرية والمتاحف في العديد من البلدان العربية التي عاشت أوضاعا أمنية وسياسية استثنائية تحت وطأة التدمير والتشويه والنهب والتخريب والانتهاكات، ما ينذر بتهديد أكبر موروث ثقافي وكنوز حضارية عربية كوّنت هوية تراثية ضاربة جذورها في عمق التاريخ وسط دعوات عالمية وعربية لتحييد التراث الثقافي عن دائرة النزاعات والتشديد على التضامن من اجل مواجهة محاولات طمس ذاكرة وهوية المجتمعات العربية .
وتعرضت الاثار والمتاحف في كل من العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا الى محاولات طمس الهوية التراثية، إذ أن المتتبع لملف سرقة المتاحف العربية يذهل من الطريقة الممنهجة التي اتبعت في الاستحواذ على قطع تاريخية نادرة لا تقدر بثمن .
وفي العراق تشير مصادر عراقية ذات صلة الى أن عدد القطع الأثرية المسروقة من المتحف الوطني العراقي بعد العام 2003 هي بحدود (200) ألف قطعة أثرية، فيما ترجح مصادر أخرى أن عدد المسروقات قد يتجاوز هذا العدد، كما وسرقت أحجار مختومة بأسماء ملوك ومعابد سومرية وتركت مسلة حمورابي الموجودة معها في نفس الواجهة الزجاجية، اذ ادرك السارقون ان الأحجار المختومة التي نهبوها أصلية أما المسلة فهي نسخة جبسية منقولة عن النسخة الأصلية الموجودة في متحف اللوفر الفرنسي، لذلك تركوها.
ورغم صعوبة الوصول الى سراديب المتحف الوطني العراقي، تمت سرقة (5000) ختم سومري منها، وتعرضت قيثارة اور السومرية للتحطيم، الا ان الرأس الأصلي لها كان موضوعا في مكان آمن، وما حُطم هو رأس ذهبي محاكي، فضلا عن تدمير آثار النمرود التي يصعب اعادتها وفقا لعلماء الاثار، لأنها من طابوق طيني عكس آثار تدمر الحجرية، والمشكلة ايضا في العراق انه لم يتم توثيق آثار الموصل بشكل جيد وبالأخص الآثار الإسلامية فيها، ومن اللافت ايضا ان الأرشيف اليهودي في المتحف لم يسرق منه أي ورقة .
وفي مصر تعرض المتحف الذي يقع قرب ميدان التحرير بالعاصمة المصرية، إلى اقتحام عام 2011 اثر أحداث أمنية، وسرقت منه 18 قطعة أثرية بما فيها تمثال مصنوع من الخشب المذهب للملك "توت عنخ امون" وأجزاء من تمثال آخر للملك توت وهو يصطاد السمك برمح، كما كسرت قطعة أثرية معروضة داخل قاعة العصور المتأخرة، وقد تم استرجاع جمجمتين، اثريتين كانتا موجودتين في مخازن المتحف بغية فحصها من قبل الباحثين، وهما بحالتهما الاصلية دون اضرار، ويحتوي المتحف المصري على الكنوز الذهبية التي لا تقدر بثمن للملك "توت عنخ امون" الذي تم اكتشاف ضريحه في عام 1922، وغيرها من الآثار الفرعونية النفسية .
وفي سوريا التي تعيش اوضاعا سياسية وامنية صعبة منذ عام 2011 فإن الواقع ليس افضل حالا من بقية البلدان السابقة، فقد اعتدى مجهولون على متاحف في مدينة حماه حيث تعرّض متحف أفاميا للسرقة والسلب وسرقت لوحات ذات قيمة عالية منه ,وتمثال صغير يعود للقرن السادس للميلاد للإله "بعل" مكسو بالذهب وهو ذو قيمة اثرية عالية، وكذلك الحال بالنسبة لمتحف دير الزور الذي تعرض للسرقة واختفت منه لوحة كبيرة هامة، ولم يقتصر الامر على حماة ودير الزور بل إن متحفي كل من حمص وادلب قد تعرضا للسرقة وسط عجز الجهات المعنية عن توفير سبل الحماية اللازمة في ظل الاوضاع الامنية المتردية .
قطع اثرية نادرة
وتتعرض المواقع التراثية في سوريا لهجمات من كل أطراف الصراع بالاضافة الى اللصوص ومنتهزي الفرص، تماما كما يحدث في تدمر، من تخريب وتدمير وتهريب لمئات القطع الأثرية القيمة خارج البلد، لتباع دوليا في الاسواق العالمية السوداء، فقد تعرض معبد (بعل شمين ) هناك لخراب كبير وفقا لما تظهره صور الاقمار الصناعية، كما دمرت مجموعات متطرفة الكثير من القطع الاثرية، للتغطية على سرقة قطع اثرية نادرة وهامة والتي استخدمت لاحقا كمصدر دخل لهم، الامر الذى دعا مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة الى اصدار بيان حذر فيه كل من يضبط بشراء قطع مهربة من سوريا بأنه سيقع تحت طائلة القانون الفيدرالي الأمريكي بتهمة تمويل منظمات متطرفة.
أما في اليمن الذي يشهد حالة من عدم الاستقرار فان إرثه الحضاري والتاريخي والأثري في مهب الريح، ذلك أن بعض مواقع ومعالم تاريخية واثرية وسياحية فيه قد تعرضت للدمار والخراب من جراء تمركز عناصر مسلحة بها، في حين تمت سرقة قطع أثرية وتاريخية، كما طال الانتهاك منازل بارزة واثرية في مدينة صنعاء القديمة، ومنازل قريبة من سور المدينة في منطقة باب اليمن وتوجد فيها البوابة الرئيسة للمدينة والتي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وتعد أنموذجا للعمارة الإسلامية القديمة المدرجة ضمن التراث العالمي منذ عام 1986.
وفي وقت طالب فيه معنيون منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" بضرورة تشكيل فريق فني للضغط على العسكريين في اليمن لتحييد الآثار والمعالم التاريخية والحضارية، كما وضعت "اليونسكو" كلا من مدينة صنعاء القديمة ومدينة شبام في حضرموت في قائمة المدن المهددة بالشطب من قائمة التراث العالمي، وهي خطوة تمت بإيعاز من الجهات المعنية في اليمن للحصول على الدعم المالي لاعادة الترميم والتأهيل الذي سيكلف ملايين الدولارات وفقا لخبراء.
وفي سياق متصل طالت أضرار الحرب في اليمن نحو 4000 معلم، منها مدينة صنعاء القديمة التي تحوي نحو 9000 معلم، بالإضافة إلى مدينة براقش في الجوف التي دمر فيها معبد "الإله نكرح"، الذي يعود تاريخه إلى القرن الأول قبل الميلاد، وجزء من سور المدينة ومدينة زبيد، وقلعة باجل في الحديدة وسد مأرب الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد في مملكة سبأ، ودار الحسن الأثري في الضالع، وقلعة القاهرة وجامع الأشرفية في تعز.
ويأتي كل ذلك في ظل دعوات أممية لاحترام اتفاقية عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة الاشتباكات، وبروتوكولها عن طريق الإحجام عن استهداف الممتلكات الثقافية واستخدامها لأغراض عسكرية، الا ان تلك الدعوات باءت بالفشل، حيث تمت ايضا سرقة متحف عدن، ودمر متحف " ذمار" بشكل كلي وهو متحف إنساني يحمل الكثير من تاريخ اليمن وآثاره وحضارته، فيما يقوم متشددون بتفجير بعض المعالم الدينية التي لها صبغة تاريخية .
طمس التراث العربي
ولم تُحيّد ليبيا التي تعيش أوضاعا سياسية وأمنية مضطربة منذ سنوات من الاستهداف التراثي والحضاري فقد تمت سرقة الكثير من الكنوز الاثرية، وكنوز الذهب والفضة العائدة الى عصر الاسكندر المقدوني، وقد تفتحت شهية السارقين على ليبيا التي تعج بالاثار النادرة ، ففي الجنوب مثلا، هناك جبال أكاكوس الصخرية، حيث عثر على رسومات على الصخور تعود إلى ما قبل 12 ألف عام، بحيث اعتبرتها منظمة اليونسكو موقعاً للتراث العالمي، وفي الشرق، في الجبل الأخضر، هناك مدينة "قورينا" الأثرية القريبة من مدينة البيضاء، وهي مدينة يونانية عريقة، وتوجد كذلك الاثار الرومانية على طول الساحل الشمالي لليبيا، مثل مدينة لبدة الكبرى المصنفة وفقا ل " اليونسكو " كواحدة من مواقع التراث العالمي، ويقال إنها كانت واحدة من أجمل مدن الامبراطورية الرومانية , في الوقت الذي تطلق به صرخات استغاثة لحماية كنوز ليبيا من النهب المستمر خاصة مع وجود السلاح المتفلت .
ومن الجدير ذكره في هذا السياق انه وامام كل ما يجري من استنزاف للكنوز العربية والتاريخية والحضارية كانت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو" - ومقرها تونس - قد استنكرت وبشدة ما تتعرض له بعض المتاحف العربية من محاولات ممنهجة لطمس التراث العربي , اذ انها تشدد من خلال دورها على اهمية التضامن العربي والدولي من أجل مواجهة المخاطر التي تتعرض لها المتاحف في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة العربية .
وناشدت "الالكسو"المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية كافة وفي طليعتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" حماية التراث وفقا للمعاهدات والاتفاقات الدولية ذات العلاقة ولاسيما اتفاقية "لاهاي" بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح لعام 1954، واتفاقية اليونسكو بشأن التراث العالمي لعام 1972.
أرسل تعليقك