شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر
آخر تحديث GMT06:10:34
 لبنان اليوم -

"شارع الباجوري" يحكي عن تحول المجتمع في مصر

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - "شارع الباجوري" يحكي عن تحول المجتمع في مصر

"شارع الباجوري"
القاهرة - العرب اليوم

وراء كل إنسان رواية، أو حكاية، أو قصة طويلة، يصنعها وهو يعانق أفراح الحياة، ويعارك أتراحها، متقلباً من حال إلى حال، وغارقاً في تفاصيل صغيرة، بعضها يستقر في قيعان الذاكرة، وقد يطمره النسيان، ويختفي ويذوب، وبعضها يأتي على مهل كلما تم استدعاؤه، وأحياناً يجيء بغتة، بلا مقدمات، ولا سابق إنذار يبزغ كالبرق، أو يهجم كالعاصفة. ويلوذ الإنسان أحياناً بماضيه ليحميه من حاضر صعب، ويرميه أكثر في نهر الحياة الدافق، إذ إن ما جرى له في الطفولة الغضة، وفي ميعة الصبا، قد يجد فيه السلوى، أو يشيد به مخزن الحياة الذي ينهل منه ليواجه ما يجري له في زمن آخر، وهن فيه العظم، واشتعل الرأس شيباً.

ومن ليس من أرباب القلم بوسعه أن يحكي على مسامع الناس ما جرى له في الزمان الأول، أما من بمكنته أن يكتب فيجد لديه الرغبة في أن يدوّن يومياته أو يكتب مذكراته في ما بعد، إما هادفاً إلى أن يخدم بها قضية أو موقفاً أو اتجاهاً، أو باحثاً فيها عن عزاء أو شفاء, أو متطلعاً إلى أن يستفيد غيره من هذه التجربة التي يعتز بها بالقطع، فكل إنسان، إلا ما ندر، يعتقد بأن ما جرى له يصلح أمثولة، من الضروري أن يطلع عليها الناس، ليجدوا فيها ما يفيدهم أو يمتعهم، أو الإثنين معاً.

ربما تكون هذه الأسباب أو الدوافع هي التي حدَت بالكاتب المصري سليمان القلشي ليكتب سيرته أو حكايته التي منحها عنوان «شارع الباجوري... حكايات من الحياة» (دار الدلتا للنشر)، مازجاً إياها بأطراف من سير الذين معه وحوله، ليتحول إلى شاهد على جانب من عصر مضى، لكن آثاره لا تزال باقية، تلقي بظلالها على حياتنا. فالسياق الذي تنبت فيه حكايات القلشي كان مفعماً بالأحداث المتقلبة، من هزيمة إلى نصر، ومن حرب إلى سلام، ومن استقلال نسبي إلى تبعية، ومن اقتصاد مخطط إلى انفتاح على المصراعين، ومن دولة تقول إنها تطبق «الاشتراكية العلمية» إلى دولة تزعم أنها تسير في طريق «العلم والإيمان»، ومن سلطة تنتمي إلى اليسار إلى أخرى يمينية، ومن تحالف مع الاتحاد السوفياتي السابق إلى الادعاء بأن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأميركية.

في هذا السياق الاجتماعي ـ السياسي الحافل بأحداث جسام سارت حياة الكاتب، من الطفولة إلى الشباب، ومن المدينة إلى القرية، وتحول فيها من معيل إلى عائل، لكنه لم يأت عليها جميعاً، إنما انتقى منها أربعة مشاهد كلية، انتقل عبرها بنا من شارع «الباجوري» في مدينة قويسنا (شمال القاهرة) إلى قرية «الرمالي» التي تعود إليها جذور الوالد، ولا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن تلك المدينة، ثم إلى فترة الخدمة العسكرية، التي قضاها ضابطاً احتياطاً، وشهور الغربة سعياً وراء الرزق في الأردن.

في ثنايا هذه المشاهد الكلية تتناسل اللقطات المفصّلة، وتتوالى الشخصيات، التي آثر الكاتب أن يفرد لكل منها مساحة، تتسع وتضيق وفق ثراء الشخصية أو ما بقي في الذاكرة عنها، وكأنه يريد أن يقول إن الحياة لا تطاق من دون هؤلاء الذين يقتحمون عيوننا، ونتتبع أخبارهم، ونتسلى أحياناً بحكاياتهم حتى لو كانت مغموسة في الفقر والمرارة، أو كانت مجرد مشاهد متناثرة تبعث على الضحك، أو تفضي إلى البكاء.

وتصاغ هذه الحكايات بلغة بسيطة، مباشرة، تصف بلا رتوش، وتجسد وتعين بلا مجاز، إلا في النادر، لكنها تحمل في طيّاتها، وفي مجملها، صورة ليس فقط عن حياة شخص، إنما عن أحوال مجتمع كان يحاول أن يتعافى من الاستبداد والفقر، لكنه وجد ما يشده إلى الوراء، فاستمر أبناؤه يتفرقون في بلاد الناس لمساعدة أنفسهم وذويهم على مواصلة العيش، أو يلجأ بعضهم إلى قبول الخدمة العسكرية كضابط احتياطي، بحثاً عن وظيفة موقتة، أو رغبة في مكانة اجتماعية عابرة يدرك خريجو أغلب الجامعات أنهم لن يحصّلوها سريعاً، أو يجلسون في الهزيع الأخير من الليل أو حتى في رابعة النهار مستسلمين لأحلام اليقظة التي تجعلهم يتوهمون أن المسافة بينهم وبين البنات الحبيبات قد تلاشت، وأنهن أقرب إليهم من أطراف أنوفهم.

في هذه السيرة التي تتنقل بنا إلى أربعة أماكن متتابعة: قرية الرمالي، وشارع الباجوري، والمعسكر الكائن في صحراء قاحلة، ورحلة الغربة إلى الأردن، نعرف الكثير عن صاحبها، فهو منجذب إلى المدينة، ولا تروق له رتابة الحياة في الريف، وهو راغب في التحقق، لديه نزوع إلى القيادة، ويظهر هذا من خلال خوضه انتخابات اتحاد الطلاب، والتزامه وانضباطه وتحمله المسؤولية أثناء أداء خدمته العسكرية، لكنه، على رغم هذا، شخصية حذرة، لا تحبذ الاقتحام أو الاندفاع، وتتحسس موضع قدميها، وهي تسير على مهل صوب الهدف، من دون أن تفارقها السكينة والسلام.

لقد أعاد صاحب هذه السيرة لي ما وقع في أيامي البعيدة، فاستعدت معه طفولتي أيضاً، وسنوات صباي في المدرسة والجامعة، وما تلاها من ثلاثين شهراً قضيتها في خدمة عسكرية، وظني أن كل من يقرأ هذه السيرة سيجد نفسه فيها، أو في بعضها، وسترسم أمام عينيه مشاهد من طفولته البعيدة، وصباه الذي ذهب، وسيقف عند مواقف محفورة في الذاكرة، صنعها وصنعته، ليعرف سنوات تكوينه، ويدرك الكثير من الأسباب التي تجعله يتصرف الآن على هذا النحو، إذ إن الخبرات التي توالت مع مرور الأيام، تقفز جنباً إلى جنب مع الجينات الموروثة، وتحدد للإنسان ما يفعله، بعد أن تفرض عليه جزءً كبيراً مما يفكر فيه.

إن سيرة سليمان التي صاغها في عفوية ظاهرة وصدق جلي، وبلغة محكية تتدفق بلا تكلف، هي أيام إنسان مصري سعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة إلى أن يجد لنفسه موضع قدم في الزحام، وهو إنسان تجد أضرابه أمامك في كل مكان، في الشارع أو المكتب أو الحقل أو المصنع، وهم أبناء البلد الطيبون، الذين يتشبثون بكل أرض حلوا فيها، وكأنها قطعة من أنفسهم، ويقبضون على كل زمن مروا به، لأن دقائقه وساعاته وأيامه هي حيواتهم التي تتجاور وتتفاعل وتمتزج وتتصارع لتصنع تاريخ أمة بأسرها.

نقلا عن الحياة اللندنية

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 17:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 لبنان اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 06:17 2014 الثلاثاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

السيسي يجدد دماء المبادرة العربية

GMT 09:55 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي سعد لمجرد يُروج لأغنيته الجديدة "صفقة"

GMT 08:41 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مكياج مناسب ليوم عيد الأم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon