مؤيَّد الرّاوي (1939- 2015) شاعرٌ بارزٌ من "شعراء كركوك" رحل في المنفى، صوت خاص من تلك الجماعة التي جسّدتْ في وقت ما نموذجاً لثقافة التنوع المفتوح التي تكاد تنغلق إن لم نقل تنقرض الآن في العراق بل في الشرق، فهو ولِدَ من أمٍّ مسيحيَّة وأبٍ مسلم، وينتسب بكنيته إلى مدينة "رَاوَة" في غرب العراق، وليس لراوٍ أو لروايةٍ ما! مع أنه أحد الرواةِ الأساسيين لكن الزاهدين، في الحكاية الغامضة للشعر للحديث وقصيدة النثر العربية.
هذا الحديث الجذري عن الطفولة والأحلام، بوصفهما الذخيرة الحيَّة للشاعر، يعيد لنا ذلك التبني الستيني في الشعر العراقي للسوريالية، والواقع أن مؤيد الرَّاوي، إلى جانب صلاح فائق. وقدَّمَ نموذجاً متقدِّماً للشعر السوريالي العربي منذ وقت مبكر في مطولاته التجريبية، والتي ظهرت بينة في ديوانه الأول "احتمالات الوضوح 1977" ثم سرعان ما بدأت بالانحسار النسبي في "ممالك 2010" ،التي لم تتخلَّ نهائياً عن تلك الأجواء مع تمسُّك نسبي أيضاً بكتابة المطولات.
لكننا نستطيع تلمُّس مغادرة التطرُّف في التجريب والفانتازيا المنفلتة، والازدحام الفائض أحياناً بالصورة الشعرية التي تتسم بالتجريد وربما التعقيد البياني، لمصلحة كتابة التجربة في ديوانه الأخير، وهي الأخرى ستقوده إلى الاختزال في حجم القصيدة، والتكثيف في مقاربة العالم الداخلي، مقابل تحوّل السوريالية من "حاجة" ثورية اجتماعية، كما نوَّه لها بريتون في بيانه، إلى تجربة شخصية.
فغالبية قصائد الديوان تبدو فيها الحياة وكأنها غيبوبة متقطِّعة، تتخلَّلها ذكرياتٌ مصحوبةٌ بالكوابيس ومدنٌ مطمورةٌ تحت الأساطير، وأشخاصٌ ملتبسون بالأشباح. إنها قصائد آتية من عالمٍ شخصي قديم طرفاه الطفولة والحلم، وعالم جماعي قديم هو الآخر، لا مجال فيه للإشادة بالحاضر، بقدر ما نرى تلويحة أو إيماءة له من مكان بعيد، تنطوي على الوحشة من الآخر وعلى استشعار ذاتي بالاغتراب: "الطريق أمشيه لوحدي... لا تعكسني المرآة."
أقامها بيت المدى في شارع المتنبي جلسة استعدادية بمناسبة مرور الذكرى الثانية لرحيل الراوي ،حضر العديد من الادباء والشعراء والنقاد، وأصدقاء الراحل، مُقدمين أوراقاً استذكارية وشهادات، أديب عراقي مرموق وشاعر مغترب رحل عن دنيانا ورقد رقدته الابدية قبل سنتين من يومنا هذا، يستذكره الباحث رفعت عبد الرزاق قائلا" إن الراحل يُعدّ أحد أركان ما يسمى بجماعة كركوك هذه الجماعة التي بدأت إرهاصاتها في بداية الستينيات وعام 1964 أُشير إليها على أنها معروفة ولم تستمر حتى أواخر الستينيات ،إذ تفرّق أعضاءُها رُغم إنهم عدّوا مدرسة أدبية مستقبلة منهم جليل القيسي وفاضل العزاوي وأنور الغساني وزهدي الداوودي وسركون بولص، ومؤيد الراوي."
رغم أن الراوي كان مُقلاً في شعره إلا إنه وصف بعرّاب الجماعة لأنه كما يذكر عبد الرزاق "كان أكثرهم نشاطاً في تجميعهم والاعلان عن هذه الجماعة." وترك الراوي العراق عام 1969 وانتقل إلى عواصم عديدة منها بيروت ولندن ومدن أُخرى حتى توفاه الله في مثل يوم امس 14 كانون الاول/ديسمبر عام 2015 في برلين.
طفل ناصع في كلامه، وعلاقاته وحياته وتساؤلاته، وهو أيضا ذلك الرجل الكريم في طباعة وكلامه، بهذا وصف المصور الفوتوغرافي كفاح الامين الراحل، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة وثيقة، مُضيفاً"إذا سألته سؤالاً يمنحك تجربة العمر كله، فهو كريم في روحه وانتمائه، كان يمثل شيئاً روحياً لجماعة كركوك، وعلى الاخص سركون بولص الذي كان يتحول ايضا الى طفل مع مؤيد الراوي وكنت ألمس النكات الجميلة والحياة اليومية التي لا أسميها صعلكة ولكنهم اختاروا مقاهي برلين كمقهى" الصميط أتراك " وهو مقهى شعبي يجتمع به مؤيد الراوي وسركون بولص، وحين تجلس بينهما ماذا تستطيع غير ان تتأملهما."
عن خاصية أحاديث الراوي يذكر الأمين "أن الراحل كان يجمع بين الشاعرية والرويّ بأسلوب حديثه، فهو حقاً كان راوي صفة لا قبيلة، إحدى الروايات المهمة التي رواها مؤيد الراوي في سجن كركوك بعد انقلاب 1963، كانت مابين أسلوب الشعر وبين الرويّ كيف كان يراقب من كوّة السجن الصغيرة تعيلق جثث الشيوعيين وكان يأتي الحرس القومي ويضربون الجثث بالعصيّ." حين يتحدث الراوي يتماهى مع الحكاية بين لغتي الراوي والشاعر، أجاد اكثر من لغة إنكليزية ألمانية وتركمانية، وحين يُجالس اي مجموعة كان يضيف لها الكثير، كان مقتنعاً بإشكالية الموت لأنه حتى الأيام الأخيرة من حياته كان يبتسم. وأكد الأمين أن الراوي "كان مثالاً للمثقف العضوي الذي ربط حياته بقضيته ودفاعه عن الكادحين والفقراء."
خسارته كواحد من الاصوات الشعرية الستينية المميزة التي التزمت بلون القصيدة النثرية، هكذا وصف الناقد فاضل ثامر خسارة رحيل مؤيد الراوي قائلاً " يشبه الراوي في التزامه بقصيدة النثر ستينياً آخر، وهو صلاح فائق، إنه مميز ومتمرد ويمتلك ثقافة استثنائية قياساً بمرحلتنا الثقافية آنذاك."
البيئة والبنية السكانية في مدينة كركوك منحت مثقفي الستينيات تنوعاً لغوياً، حيث يذكر ثامر "أن عملية التزاوج بين المكونات المختلفة للمدينة أمر طبيعي وصفه علم النفس بأن كل فرد يوجد في بيئة مختلفة ينشأ على مبادئ التسامح، على العكس من أولئك الناشئين في بيئات متشابهة، والمجتمعات التي تتأسس من بنيات متشابهة" ويؤكد ثامر "أن أسماء جماعة الستينيين أسهمت فضلا عن روافد أخرى للحلقة الشعرية الستينية حيث حققت تجاوزاً على مستوى الشعرية الخمسينية التي دشنتها تجربة شعراء الشعر الحر التي كانت ثرية." الراحل كان مناضلاً يسارياً يعمل في الحركة السياسية وسجن عام 1963 بتهمة أنه ينظم خلية سياسية لأدباء جيل الستينيات وانضمّ إلى حركة المقاومة الفلسطينية ولم يتوقف نضاله السياسي، وهنا يستذكر ثامر " تجربة الراحل في الغربة وما تركت من آثار في نفسه كبيرة وكذلك على جميع الشعراء ولكن بدرجات متفاوته ولكنه بحكم تركيبه كان يميل الى الانكفاء وعدم التطلع إلى بريق الأضواء وكان يعمل بصمت وجهد في محراب قصيدة النثر وربما لهذا السبب لم تثر قصيدته في البداية الإعلام والباحثين، هذه التجربة أغنت حياته وزادت من عزلته الروحية والفكرية."
مشوار قد نُطلق عليه التلميذ ومعلمه، هكذا شاطره القاص والكاتب محمد علوان جبر حياته، ليتحدث لنا عن معرفته بالراحل التي بدأت على مقاعد مقهى المعقّدين، أثناء ارتشاف علوان "استكان الشاي" وهو في 17 من عمره، وكان يقرأ رواية الجحيم التي ألفتت الراوي وأخذ يناقشها مع أحدهم، ليستعيرها ويضعها بين يديه ويقلب في صفحاتها مؤكداً على الشعرية المهيمنة على النص الروائي.. بعدها يُصادف جبر الراحل في بيروت، مع نخبة من الكتّاب حتى تضيق سُبل المعيشة بجبر في بيروت ويقرر العودة إلى بغداد إلا أن "الراوي اقترح عليّ العمل في مجلة"إلى الأمام" وبعد تصويبات مؤيد نجحت في كتابة بعض الموضوعات في المجلة." أما عن الوطن وحنينه فيذكر جبر قائلا"كان الحنين قاسياً عليّ وكان مؤيد الراوي يخفف عني بابتسامته وكان يطّلع على تصاميمي الأمر الذي ادهشني فيه سعة تطلعاته وثقافته بفن التصميم، وإمكاناته." وحين قدم محمد علوان جبر مشاريعه القصصية للراوي يتحدث لنا قائلاً "قدمت له مشاريع قصص قرأها بصبر وكتب ملاحظاته عليها، وقد بث في شجاعة تمزيق العديد من النصوص وكتابتها من جديد."
أشار لنا بشكل عام عن كركوك، الستينيين، وقليلاً عن الراوي، الروائي والقاص حسين الجاف يذكر في كلمته أن " كركوك بلد مُصغر عراقياً، وهو مجتمع متعدد الإثنيات لا تفرقه نعرات سياسية فالتنوع الإثني يبعث على الرخاء الفكري ومن هنا نشأت جماعة كركوك أو من عُرفوا بالستينيين." ليذكر الجاف أن "مجلة "العاملون في النفط " احتضنت هذه الجماعة، حيث كان يرأس تحريرها عزيز عجم ويشرف على الصفحات الثقافية فيها جبرا إبراهيم جبرا، هذه المجلة ووجود الستينيين فيها حولهم إلى أدباء مهمين ونشروا فيها نتاجاتهم التي كانت مميزة جداً." أما عن الراوي فذكر الجاف انه"مُقل في نتاجه الشعري" لم يصدر للراوي من دواوينه سوى ثلاثة واحدا منها صدر قبل أسابيع من وفاته، مؤكداً أنه"متفرد في ابداعة ووطنيته وعزلته ولم يكن ممن يميلون إلى الاندماج الاجتماعي وكان مناضلاً من أجل الحرية والسلم."
السيدة فخرية البرزنجي زوجة الراحل طلبت منه الحديث عن زوجها، فهو أبوه الروحي، هذا ما أكده المخرج المغترب علي ريسان ذاكراً "بدأت علاقتي به من خلال مهرجان المسرح الدولي في برلين حيث قدمت عمل "مونو دراما" وبعدها حصل احتفاء حضر به سركون بولص وفخرية البرزنجي ومؤيد الراوي واحتفوا بي بشكل رهيب لأنهم عرفوا أني من كركوك." يبدو أن من قدريات الجمال أن تولد في كركوك هذه البُنية التي تجعلك تخرج من رحم أي محلة أو زقاق ليتشكل وعيك كفرد محب لكل الناس، انها مدينة وموروث وثقافات مختلفة تخلق في ابنائها روح الحب والتسامح. وهنا يؤكد ريسان أن "أكثر الشعراء المذكورين من جماعة الستينيين كانوا يقرأون الأدب العالمي بلغة الام لأنهم متمكنون من الانكليزية."
في مداخلة أخيرة شهدتها الجلسة يذكر الكاتب والناقد داود العنبكي "يوم واحد قبل الجلسة لم يُتح لي التفكير، فمؤيد الراوي يستحق أن نتحدث عنه، وقد تجاهلناه ربما يعود هذا إلى أسباب تتصل به شخصيا كعزلته وعدم نشره للكثير، وقد يكون أحد أسبابه المُضمرة هو خوفه من الاغتيال، ربما فكر انه الرقم الثاني في الاغتيال، لذلك كان مُقلّاً."
أرسل تعليقك