وسط ترحيب المثقفين باختيار الدكتورة إيناس عبد الدايم في التعديل الوزاري الأخير كأول وزيرة للثقافة في مصر تسود حالة من التفاؤل حيال آفاق المشهد الثقافي المصري وإمكانية تجسير الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
وإذ تحظى وزارة الثقافة بنصيب لافت من الاهتمام العام فإن وزيرة الثقافة الجديدة إيناس عبد الدايم أظهرت عبر تصريحات صحفية اهتماما كبيرا بمفاهيم العدالة الثقافية وتقديم الخدمات الثقافية في كل ربوع مصر بمنظور شامل لا يقتصر على الكتاب وإنما يشمل الفنون بكل أنواعها مع إدراك واضح لأهمية "الأفكار الجديدة وغير التقليدية".
وترى وزيرة الثقافة الجديدة أن "الثقافة ليست مهرجانات وحفلات فقط" وإنما هي أعمق بكثير وترتبط بمجالات أخرى كالتعليم ومن ثم فلابد وأن تستهدف الخدمات الثقافية الأطفال والناشئة في سياق "الثقافة المجتمعية المتكاملة".
والدكتورة إيناس عبد الدايم التي أدت اليمين الدستورية كوزيرة للثقافة يوم الأحد الماضي أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن التعديل الوزاري الأخير الذي شمل وزراء التنمية المحلية والثقافة والسياحة وقطاع الأعمال العام اختيرت في عام 2012 رئيسة لدار الأوبرا المصرية لتكون ثاني سيدة تتولى هذا المنصب بعد الدكتورة رتيبة الحفني كما اختيرت لعضوية المجلس الأعلى للثقافة في عام 2015.
ومع التنويه بالنوايا الطيبة لقيادات تولت مناصب رئيسة في وزارة الثقافة وأمسكت بتلك الحقيبة الوزارية المهمة في السنوات الأخيرة، أبدت الدكتورة إيناس عبد الدايم التي تعد تاسع وزير للثقافة في مصر منذ 25 يناير 2011 حرصا على استكمال مسيرة الوزير السابق حلمي النمنم في كل المجالات الثقافية.
ومنذ ثورة الخامس والعشرين من يناير تعاقب على وزارة الثقافة المصرية تسعة وزراء هم: الدكتور جابر عصفور ومحمد عبد المنعم الصاوى والدكتور عماد أبو غازى والدكتور شاكر عبد الحميد وعلاء عبد العزيز والدكتور محمد صابر عرب فيما عاد عصفور للمنصب الوزاري في حكومة المهندس إبراهيم محلب التي شهدت تعديلا وزاريا في شهر مارس عام 2015 ليأتي الدكتور عبد الواحد النبوي وزيرا للثقافة ثم يتولى المنصب الكاتب الصحفي حلمي النمنم منذ التاسع عشر من سبتمبر عام 2015 حتى التعديل الوزاري الأخير حيث باتت الدكتورة إيناس عبد الدايم أول وزيرة للثقافة في تاريخ مصر.
وكانت وزارة الثقافة قد ظهرت لأول مرة فى مصر فى التاسع من سبتمبر عام 1952 وأسندت حقيبتها لفتحى رضوان الذى شغل منصب وزير الثقافة والإرشاد القومى فيما كان الدكتور حسين فوزى وكيلا له.
ونهضت أول وزارة للثقافة بمهام متعددة وحققت إنجازات مثل تأسيس نادى القصة عام 1953 ومصلحة الفنون عام 1955 التى تولى رئاستها الأديب الكبير يحيى حقي، وتولت رعاية المسرح والسينما والفنون التشكيلية كما صدر قانون فى عام 1956 بإنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
وهناك نوع من الاتفاق العام على أن الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الأشهر فى ستينيات القرن العشرين حقق نهضة ثقافية وكان صاحب الإنجازات المقدرة فى البنية الأساسية للثقافة المصرية أو ما يوصف "بالصناعات الثقافية الثقيلة" من قصور للثقافة ومسارح ومتاحف وسلاسل دورية للكتب المهمة والمعاجم ودوائر المعارف فضلا عن إقامة السيرك القومى وعروض الصوت والضوء ناهيك عن إنقاذ آثار النوبة عند بناء السد العالي، وإقامة العديد من فرق الفنون الشعبية.
وبعيدا عن أي "شخصنة" لمسألة المواقع القيادية في وزارة الثقافة ناهيك عن منصب الوزير فإن هناك شعورا عاما بين الجماعة الثقافية المصرية بأن هذه الوزارة بحاجة لرؤية شاملة وعميقة تتناسب مع تحديات مرحلة وصفتها من قبل الدكتورة ايناس عبد الدايم بأنها من أخطر المراحل".
واستقبلت الجماعة الثقافية المصرية بارتياح واضح تأكيدات وزيرة الثقافة الجديدة على أهمية صياغة "خطط استراتيجية لدفع الثقافة المصرية للأمام" في وقت يستدعي بالضرورة اهتماما أكبر من وزارة الثقافة بموارد القوة الناعمة المصرية فيما يوضح الكاتب الدكتور عمرو عبد السميع أن "وزارة الثقافة تمثل عاملا أساسيا في القوة الناعمة وهي ميزة تنافسية أساسية لنا".
وفي معرض تأكيده على المسؤولية العظيمة للمثقفين في أي مجتمع استشهد المفكر المصري مراد وهبة بمقولة للمفكر الفرنسي جان بول سارتر جاء فيها :"ما دمت عشت زمن الحرب العالمية الثانية إذن فأنا مسؤول عن قيامها" وهي مقولة دالة على عظمة المثقف وإحساسه بالمسؤولية.
وكانت وزارة الثقافة عرضة لانتقادات من مثقفين في الآونة الأخيرة بعضها لا يخلو من حدة اعتراض على مستوى الأداء ومحصلة النتائج مع اتفاق عام على أن هذه الوزارة تعاني من مشاكل جسيمة من بينها "ثقل حمولتها البيروقراطية التي لا يمكن أن تنسجم مع جوهر مهامها الإبداعية".
وبعد التعديل الوزاري الأخير من الطبيعي أن تكون هناك توقعات وآمال وجدل حول الواقع الثقافي الرسمي فيما يتردد السؤال بقوة بين الجماعة الثقافية في مصر حول إصلاح المنظومة الثقافي وكان لهذا السؤال ما يبرره لأن "هناك ضرورة حتمية" لتطوير هذه المنظومة" .
وفى سياق تأكيده على ضرورة زيادة تمويل الأنشطة الثقافية، لفت الكاتب والأديب المصري محمد سلماوى وهو الأمين العام لاتحاد كتاب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى أن الميزانية المخصصة للثقافة تضاءلت كثيرا قياسا عما كانت عليه في فترة الستينيات من القرن الماضي والتي شهدت المرحلة التأسيسية للبنية التحتية الثقافية في مصر.
وتبدو الحاجة واضحة لزيادة ميزانيات النشر للكتب والأعمال الثقافية الجادة والمهمة، جنبا إلى جنب مع تحرير الإبداع الثقافى من أية وصاية بيروقراطية والاحتكام لمعايير الثقافة وجماليات الفن دون إسفاف مع دعم التعدد والتنوع وصولا لاستعادة الدور الثقافي المصري كأحد أهم عوامل القوة الناعمة في المنطقة والعالم.
وفيما تهب من حين لآخر رياح الجدل والاحتقانات الظاهرة حول أداء وزارة الثقافة وأجهزتها حاملة في ثناياها أسئلة مهمة حول دور هذه الوزارة وسياساتها ويتردد من جديد السؤال الكبير حول حقيقة التغير الذي طرأ على المشهد الثقافي ومجمل السياسات الثقافية الرسمية بعد الثورة الشعبية المصرية بموجتيها 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 فإن هذه الوزارة تدخل الآن مرحلة جديدة تتطلب إجابات جديدة في مرحلة جديدة .
وكان وزير الثقافة الأسبق الدكتور جابر عصفور قد رأى أن"مؤسسات وزارة الثقافة تعاني من الترهل وفي أمس الحاجة لقيادات وطنية شابة تتسم بالنزاهة والقدرة على الحلم بمستقبل واعد وكذلك حلول عاجلة لقصور الثقافة المعطلة أو المغلقة"، ودعا "لسياسات ثقافية جديدة تفيد من تجارب العالم المتقدم".
وفيما يؤكد الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة على أن معركة المصريين ضد الإرهاب هي واحدة من أخطر الحروب التي خاضها الجيش المصري والشرطة لحماية هذا الوطن فإنه يلفت إلى أهمية الجوانب الفكرية والثقافية لهذه الحرب النبيلة التي تخوضها مصر دفاعا عن الإنسانية.
وكانت الدكتورة إيناس عبد الدايم قد رأت أن " الحرب على الإرهاب تعني الفكر وضرورة مخاطبة الشباب بخطة واستراتيجية موضوعة" موضحة أنها ليست مسؤولية وزارة واحدة وهي تتطلب مشاركة متخصصين من وزارات الثقافة والشباب والأوقاف والتعليم.
وواقع الحال أن بعض الصحف ووسائل الإعلام المصرية تتحدث من حين لآخر عما يوصف بعدم فعالية وزارة الثقافة والعجز عن التواصل مع الجماهير العريضة أو طرح برامج ثقافية تحظى باهتمام شعبي حقيقي فضلا عن الاستمرار في ظاهرة تمركز أغلب الأنشطة الثقافية بالعاصمة وإهمال الريف .
ورأى رئيس اتحاد الكتاب المصريين الشاعر والناقد الدكتور علاء عبد الهادي" أن المشكلة تكمن في النظام الثقافي القائم برمته وثقافة جهازه البيروقراطي وليس في قياداته فحسب" ودعا إلى " البدء أولا بعملية إعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الثقافية القائمة وفق أهداف جديدة".
وفي المقابل تطالب قيادات وزارة الثقافة بتوفير الدعم الكافى للوزارة بما يسمح بإنجاز خطط ومشروعات التطوير وتحقيق رسالتها فى خدمة الثقافة والمواطنين فى ربوع مصر وأكدوا على وجود إدارات متخصصة في قياس الرأي الثقافي مثل "الإدارة المركزية للدراسات والبحوث" بهيئة قصور الثقافة التي تنهض بمهام الثقافة الجماهيرية.
ولئن أكد كثير من المثقفين على أهمية الدور التنويري لقصور الثقافة المنتشرة في ربوع مصر وإمكانية إسهامها كمنابر للثقافة الجماهيرية في المواجهة الشاملة للإرهاب، تكشف تصريحات وزيرة الثقافة الجديدة إيناس عبد الدايم عن إدراك واضح لأهمية "الثقافة الجماهيرية" فيما تقول عازفة الفلوت العالمية التي ولدت في الشهر الأخير من عام 1960 :" لا يوجد أحد في جيلي لم يتأثر بالثقافة الجماهيرية.
وتقول الدكتورة إيناس عبد الدايم" إن الحديث عن رؤية ثقافية لدولة مثل مصر أمر يطول شرحه ويحتاج لتكاتف العديد من الجهات وفق خطط ومناهج لنحدد الأهداف التي نرجوها" فيما رأى علاء عبد الهادي أن ثمة حاجة بالفعل لتحديد أهداف مصر الثقافية حسب "توصيف استراتيجي كلي" داعيا "لإعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الثقافية" بناء على هذه الأهداف ومن أجل تحقيق الأثر الاجتماعي المأمول للثقافة.
ودعا مثقفون من بينهم الكاتب سامي فريد لتبني فكرة إرسال "قوافل ثقافية للريف" تتضمن تقديم عروض مسرحية وأن يتم التعاون في هذا السياق بين وزارتي الثقافة والتنمية المحلية "كبداية لثورة ثقافية جديدة تغير وجه الحياة في مصر ونحن مقبلون على بناء الدولة العصرية".
وإذا كان بعض المنسوبين للجماعة الثقافية يحلو لهم الحديث من حين لآخر عن إلغاء وزارة الثقافة وتوزيع اختصاصاتها على الهيئات الثقافية على أن تكون تبعية هذه الهيئات للمجلس الأعلى للثقافة على سبيل المثال فإن النظرة المتعمقة للواقع الثقافي تخلص لحقائق قد تفند جذريا أية دعوة لإلغاء هذه الوزارة.
فثمة أرقام وتقديرات معلنة تفيد بأن أنشطة المؤسسات الخاصة لا تغطي أكثر من 5 في المائة من احتياجات الخدمات الثقافية للمصريين، كما أن هناك من ذهب إلى أن مثل هذه الدعوة لتفكيك وزارة الثقافة تخفي أهدافا لترك الساحة الثقافية نهبا مباحا لمنظمات قد يكون بعضها أبعد ما يكون عن الرغبة الصادقة في خدمة مصر والمصريين.
ويتناسى من يطلق مثل تلك الدعوات حالات ألغيت فيها وزارة الثقافة بالفعل من قبل فى بعض الحكومات بمصر لكنها كانت تعود فى حكومات جديدة أو تعديلات وزارية بما قد يشير ضمنا إلى أنها تمثل حاجة ضرورية رغم أية ملاحظات أو انتقادات والأكثر أهمية أن القضية تتعلق بالجوهر والسياسات بعيدا عن الأسماء والمسميات.
وهكذا فالأمر في جوهره يتجاوز بكثير مجرد تغيير في الأسماء والمسميات أو وضع لافتة محل أخرى بقدر ما يتطلب إرادة واعية بأهمية دور وزارة الثقافة فى المرحلة الراهنة على وجه الخصوص حيث تفرض أسئلة عديدة ذاتها مثل السؤال عن دور هذه الوزارة في صياغة المضمون الثقافي الذي يلبي مطالب الشعب المصري.
وتكشف النظرة المقارنة عن أن منصب وزير الثقافة يحظى بأهمية غير عادية في مراحل التحولات الحرجة والحاسمة لبعض الدول حيث الضرورة تدعو لمثقف كبير ومناضل ثوري ومدافع عن كرامة الإنسان وحقوقه كما حدث في خضم الأزمة السياسية الفرنسية عام 1958 عندما استدعى الجنرال شارل ديجول الكاتب والمبدع اندريه مالرو لشغل منصب وزير الثقافة ليستمر صاحب "قدر الانسان" فى هذا المنصب على مدى عقد كامل.. الفرنسى الكبير الذى قضى عام 1976 شاهدا بحق على عصر شارك في صنعه.
وفى دولة كفرنسا بكل الأجواء الثقافية الحرة لا يثير وجود وزارة للثقافة جدلا تماما كما أن عدم وجود مثل هذه الوزارة فى بريطانيا لا يمثل إشكالية فالمهم وجود من يقوم بالدور بصرف النظر عن المسميات واللافتات.
فالقضية هي تحويل أو ترجمة البنية المادية لوزارة الثقافة بهيئاتها وكل ما يتبعها من كيانات بكل نفقاتها إلى رصيد فاعل في الوعي المعرفي والثقافي والتنموي بحيث يصل العائد الثقافي إلى مستحقيه وحتى تتبوأ مصر مكانتها الثقافية المستحقة على مستوى المنطقة والعالم..ولعل حالة التفاؤل الظاهرة الآن بين المثقفين المصريين تومىء لإمكانية تجسير الفجوة الثقافية بين ماهو كائن وما ينبغي أن يكون.
أرسل تعليقك