“الغموض” أوضح مصطلح يوصف به نهب تراثنا وتاريخنا.. شرطة مدينة نابولى بإيطاليا تضبط حاوية تحتوى على قطع أثرية تنتمى لحضارات متعددة بلغ عددها 23 ألف قطعة، من بينها 118 قطعة أثرية مصرية.
القضية دخلت منعطفًا مختلفًا وقويًا وأكثر جدية، وذلك بعد القرار الذى أصدره النائب العام المستشار نبيل أحمد صادق، بتكليف وزارة الآثار باتخاذ الإجراءات اللازمة نحو إرسال فريق من خبراء الآثار المصريين بعد التنسيق مع الجانب الإيطالى، لفحص الآثار المضبوطة وإعداد تقرير بشأنها للنيابة العامة فور إعداده، كما تم إرسال إنابة قضائية للسلطات الإيطالية لاتخاذ ما يلزم نحو التحفظ على القطع الأثرية المضبوطة، وموافاة النيابة العامة بجميع المستندات والمعلومات المتعلقة بواقعة الضبط.
فقد عرضت صحيفة " روز اليوسف" تقريرًا عن الموضوع وأكدت أن الغموض الذى وصفنا به الواقعة له أسبابه المنطقية إلى حد كبير، فصفة الحاوية التى قالت المضبوطات وأقرت بها السلطات الإيطالية بأنها دبلوماسية، وهو ما أعلنته أيضًا الخارجية المصرية، فى حين تحاشت تمامًا وزارة الآثار ذلك فى البيان الصحفى الذى أصدرته عن الواقعة على لسان شعبان عبدالجواد رئيس إدارة الآثار المستردة، جاء فيه على لسانه نصًا: «وزارة الخارجية المصرية ممثلة فى سفارتنا فى روما بإيطاليا أخطرت وزارة الآثار المصرية عن عملية ضبط هذه الحاويات، وعلى الفور تم تشكيل لجنة متخصصة لفحص صور القطع المضبوطة والتأكد من أثريتها وانتمائها للحضارة المصرية القديمة، وذلك لموافاة السلطات الإيطالية المختصة بها كخطوة أولى فى إجراءات عملية استرداد هذه القطع التى يبدو أنها قطع نتجت من الحفر خلسة وغير الشرعى نظرًا لكونها ليست من مفقودات مخازن أو متاحف وزارة الآثار».
البيان زاد الأمر غموضًا، خاصةً فيما يتعلق بالقطع المصرية تلك والمكان الذى خرجت منه، حيث دارت التكهنات حول أنها جاءت نتيجة الحفر خلسة وهو ما أيدته وزارة الآثار فى بيانها، مما فتح الباب مرة أخرى للحديث عن قضية التنقيب غير الشرعى عن الآثار، وهو ما يصفه المتخصصون بالخطر الكبير كونه يفتح الباب لخروج كنوز أثرية كثيرة دون علم الوزارة أو أى من الجهات إذا لم يتم ضبط الفاعلين.
الآثار الناتجة عن الحفر خلسة لا تكون مسجلة لدى وزارة الآثار، مما يجعل عملية ملاحقتها صعبة، وهناك آلاف القطع التى خرجت بهذه الطريقة وتم تهريبها على مدار سنوات ماضية دون أن يدرى بها أحد، اللهم إلا بعد ظهورها بالخارج سواء لدى أصحاب المجموعات الخاصة أو بعض الجهات فى دول تبيح قانونًا الإتجار فى الآثار.
وتبدو فكرة إحكام القبضة على الحفر خلسة والمختلسين ضرورية، لكنها لم تجد حالًا فاعلًا حتى الآن، رغم أن لصوص الآثار يعبثون بكنوزنا خلسة منذ سنوات بعيدة، وهو ما كشفته واقعة تعود ليناير الماضى، حيث أعلنت وزارة الآثار أنها استعادت 3 أجزاء لمومياوات مختلفة عبارة عن رأس ويد يمنى وأخرى يسرى، وذلك بعد تسليمها لمقر القنصلية المصرية بنيويورك.
وحينها قال شعبان عبدالجواد المشرف العام على إدارة الآثار المستردة: إن سلطات التحقيق الأمريكية ضبطتها مع مواطن أمريكى فى مانهاتن أثناء محاولته بيعها لإحدى صالات المزادات، وأثبتت التحقيقات أن القطع كانت قد تمت سرقتها وخروجها من مصر بطريقة غير شرعية.
المفاجأة أن ذلك تم قبل أكثر من 90 عامًا!!!، حيث كان قد اشتراها مواطن أمريكى من أحد عمال الحفائر المصريين أثناء تواجده بمصر عام 1927، بعد أن قام هذا العامل بالحفر خلسة فى أحد المواقع الأثرية بوادى الملوك بمدينة الاقصر وسرقة القطع.
وإذا كان الحفر يوصف بأنه خلسة لكنه ليس عشوائيًا أبدًا، حيث إن كثيرًا من الذين يحفرون يكونون على علم بالمكان واحتمالية وجود آثار فيه، وهناك لن نقدم سوء النية بقولنا إنه قد يكون هناك أثريون مشتركون مع بعضهم، لكن من أين علم هؤلاء الذين يحفرون بمعلومات عن المكان قد لا تتوفر إلا لأثريين؟، وهنا نتذكر واقعة حدثت فى مايو 2017، حيث عثرت لجنة من منطقة آثار البلينا بمدينة أبيدوس بمحافظة سوهاج على كتلة حجرية منقوش عليها خرطوشين للملك «نختنبو الثانى» ثالث ملوك الأسرة الثلاثين، وذلك أثناء معاينتها لأحد المنازل القديمة بمنطقة بنى منصور بعد قيام أصحابه بأعمال حفر خلسة داخله، وقد قامت شرطة السياحة والآثار بالقبض على الجناة، والكتلة المكتشفة حينها كما أعلنت الآثار ربما تمثل جزءًا من مقصورة ملكية خاصة بالملك تختنبو الثانى، أو إنها امتداد جدار لمعبد بناه هذا الملك والمعروف بنشاطه الواسع فى أبيدوس، أى أن هذا الرجل لم يكن يحفر بعشوائية خاصة أنه لو لم يتم ضبطه لكان عثر على كنز كبير لا يقدر بأى ثمن مهما كان.
كما أن إحدى القطع التى استعادتها مصر من الخارج، وكانت عبارة عن تمثال أوشابتى عائد من المكسيك ويرجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشر أو ما بعدها، وبعدما فحصته لجنة من وزارة الآثار أقرت أنه حقيقى وخرج من مصر بطريقة غير شرعية نتيجة أعمال الحفر خلسة..!!!، إذا هناك كنوز أثرية كثيرة تم تهريبها للخارج بسبب لعنة الحفر خلسة وما يخرج منها لا يسجل وبالتالى يسهل تهريبه.
إذا الحفر خلسة يحتاج إلى تأمين وحراسة لمنعه، وهنا يبرز سؤال: هل يستطيع مفتش الآثار أن يحمى التلال الأثرية من الحفر خلسة وحده؟.. الإجابة بالطبع لا، خاصةً أنه هناك أزمة فى حراسة المواقع الأُثرية بسبب نقص الحراسة إما لخروج عدد كبير من الحراس على المعاش أو بالوفاة، كما أن مفتشى الآثار لا تتوافر لهم الإجراءات والأدوات المناسبة سواء وسائل نقل للمواقع البعيدة والوعرة أو السلاح الذى يحمى به المكان ونفسه، خاصة مع انتشار أعمال الحفر غير الشرعية فى مواقع كثيرة العديد منها إما خارج سيطرة الآثار أو لا يتبعها ولم يسجل بعد.
ورغم كثرة عمليات الحفر خلسة إلا أن وزارة الآثار تسعى جاهدة للتصدى لها، وهنا لابد أن نسأل عن وقائع الحفر التى يتم ضبطها، خاصةً أن البرلمان فى أبريل الماضى أقر 14 تعديلاً على قانون الآثار رقم ١١٧لسنة ٨٣ وتعديلاته لسنة ٢٠١٠، ومنها بند ١٣ الذى أقر تشديد العقوبة فى باب العقوبات ومنها «عقوبة السجن المشدد لكل من قام بالحفر خلسة أو إخفاء أثر أو جزء منه بقصد التهريب ويحكم فى جميع الأحوال بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة فيها لصالح المجلس الآعلى للآثار»، أى أن عملية الضبط تضمن لوزارة الآثار آلات ومعدات وسيارات، والسؤال هنا هل تمت مصادرت أى أدوات وآلات وأجهزة أو بيعت أو تم عمل مزاد لها طبقا للقانون؟!
الدكتور محمد عبدالمقصود الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، عبر عن تفاعله مع الموضوع فى شكل حملة أطلقها، كاشفًا لـ”روزاليوسف” الكثير من الكواليس والتفاصيل عن الأزمة، خاصةً الواقعة الأخيرة المتعلقة بالآثار المضبوطة فى إيطاليا، والتى طرح حولها عبدالمقصود عدة أسئلة تتسم بالمعقولية إلى حد كبير.
وقال عبدالمقصود: هل الحاولة الدبلوماسية التى تم ضبطها وضمت آثارًا من عدة دول تم تجميعها خارج مصر أم داخلها؟، هل المركب التى حملت الحاوية كانت قادمة من دولة أخرى وتوقفت ترانزيت أم أن رحلتها بدأت من مصر؟، لماذا لم يتم الكشف عن جميع معلومات الشحنة وصاحبها رغم أنها مضبوطة فى إيطاليا قبل عدة شهور؟، هل هذا التأخير فى صالح القضية أم يضر بها؟
وتابع: الحفر خلسة انتشر بسبب منظومة الحراسة فى الآثار تعانى نقصًا شديدًا، موضحًا أن نحو 70% من الحراس حاليًا إما على المعاش أو توفاهم الله ولم يعين بديل لهم، وهذا يوضح حجم الأزمة والتى لا يجدى معها وجود مراقب الأمن، وهناك فارق كبير بين الإثنين حيث إن فرد الأمن لا يستطيع القيام بمهام حارس الأمن.
وأضاف: فرد الأمن فى الآثار يكون خريج كلية تجارة أو غيرها، وعندما يلتحق بالعمل فى الآثار يقوم كثير منهم بعدها بالالتحاق بالتعليم المفتوح تخصص آثار ليصبحوا مفتشى آثار ومن ثم يتغير مسار عملهم، أى أن حراسة وتأمين المواقع الأثرية تفقد مع الوقت القائمين عليها حتى وأن كانوا أفراد أمن.
وكشف عبدالمقصود أنه يعد لإطلاق حملة قومية بعنوان «الآثار فى خطر.. ضد التنقيب غير الشرعى والحفر الخلسة والتهريب والإتجار فى الآثار»، مؤكدًا أنه حتى الأماكن التى كانت بعيدة عن المنقيبن غير الشرعيين باتت قريبة بعدما اقترب العمران منها، كما أن الحفر خلسة منتشر فى أماكن كثيرة داخل المدن ووسط العمران، ومنها المطرية التى ينتشر فيها الحفر خلسة بشكل كبير، مما أدى لوجود أنفاق كثيرة أسفل بيوت المطرية طمعًا فى آثار يحصل المنقبون خلسة للثراء السريع.
وأوضح عبدالمقصود أن الحراسة لها جهات متخصصة فيها بشكل احترافى وأكثر أداءً أفضل، ويمكن لوزارة الآثار التعاون معها فى ذلك، لافتًا إلى أن الحارس أو الغفير «أبونبوت» الذى كان مثار سخرية من البعض، ثبت الآن أن هذا الحارس أفضل بكثير فى حراسة المواقع الأثرية، خاصةً أن مثل هؤلاء الحراس عادة ما يكونون مع أهل البلدة أو المدينة التى ينتمى لها الموقع الأثرى، وهذا كان حائلاً أمام أى شخص يسعى للحفر خلسة واستخراج الآثار، لأنه سيكون فى هذه الحالة معروفًا للحارس مما يعرضه لإلقاء القبض عليه والوقوع تحت طائلة القانون.
وتعليقًا على ذلك، قال الدكتور خالد العنانى وزير الآثار: إن الحفر خلسة خطر على الآثار، لأن خروجه بهذه الطريقة يعنى أنه لا سجلات له ولا معلومات عنه وبالتالى نفقده، وهى مشكلة كبيرة تؤكد أهمية تسجيل الآثار، وحاليًا طورنا من عمليات التسجيل وذلك بالتوثيق الرقمى لكل قطعة آثار وتصويرها من جميع الجهات، ويتضمن أيضًا كل المعلومات والبيانات الخاصة بها، وذلك فى قاعدة بيانات شاملة، بحيث يسهل تتبعها والمطالبة بها إذا ما ظهرت فى أى مزادات، كما أن ذلك يمكننا من كشف ملابسات سرقتها فى حال حدوث ذلك، ومركز تسجيل الآثار المصرية يقوم حاليًا بعمل قاعدة بيانات لكل الآثار التى يتم تسجيلها.
أرسل تعليقك