القاهرة - لبنان اليوم
الحيض: هو دم جِبِلَّةٍ يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة -راجع: "أسنى المطالب" (1/ 99، ط. دار الكتاب الإسلامي)-، ويستمر نزول الدم بصورة دورية للنساء كل شهر تقريبًا طوال زمن الخصوبة، وهو ما بعد سن البلوغ إلى سن اليأس، ويدرك النساء بداية نوبته ونهايتها بعلامات وأمارات محسوسة، تبدأ بتدفق الدم إلى منطقة الرحم وتتابع نزوله شيئًا فشيئًا مصحوبًا باستشعار الألم والضعف واضطراب المزاج العام، وتنتهي بانقطاع الدم واعتدال المزاج.
وتختلف مدة هذه الدورة من امرأة لأخرى، فلكل امرأة عادتها المنتظمة غالبًا في الوقت الذي ينتابها فيه الحيض، وفي عدد الأيام التي يمكثها.
وروى ابن ماجه -واللفظ له- وأحمد عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّمَ، لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ سَرِفَ، حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ أَنَفِسْتِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ».
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخارى" (1/ 411، ط. مكتبة الرشد، الرياض): [هذا الحديث يدل على أن الحيض مكتوب على بنات آدم فَمَنْ بعدَهن من البنات؛ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من أصل خلقتهن الذي فيه صلاحهن، قال الله في زكريا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: 90]. قال أهل التأويل: يعني رد الله إليها حيضها لتحمل، وهو من حكمة الباري الذي جعله سببًا للنسل، ألا ترى أن المرأة إذا ارتفع حيضها لم تحمل، هذه عادة لا تنخرم] اهـ.
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء بنقصان الدين، وهذا النقصان من حيث الأحكام الشرعية المتعلقة بهن، ولم يأت هذا الوصف على سبيل الذم، وإنما على سبيل التنبيه لهن، وحثهن على الاجتهاد والإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات تعويضًا لهذا النقصان، وفَسَّر عليه الصلاة والسلام نقصان الدين: بأن المرأة تترك الصلاة والصوم في أيام حيضها على وجه الإلزام الشرعي، بخلاف الرجل لا يعتريه بطبيعة خلقته ما يقتضي منعه عن الصلاة والصيام؛ ففي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِك مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» رواه الشيخان.
ولكن لأن فريضة الصوم عبادة موسمية لا تتكرر إلا شهرًا واحدًا في العام كانت الحائض مأمورة بقضاء الأيام التي حاضتها في شهر رمضان المبارك، وليست الصلاة كذلك؛ لتكرارها خمس مرات في اليوم مما اقتضى التيسير على الحائض في إسقاط قضائها عنها؛ فَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. فَقَالَتْ: "أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟" قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: "كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ" رواه الشيخان.
أما تعاطي المرأة ما يسبب إيقاف الحيض بشكل مؤقت؛ طلبًا لتحصيل أداء تلك العبادة الموسمية فالأصل فيه الجواز، وقد نص على هذا من الفقهاء: السادة الحنابلة؛ قال صاحب "المغني" (1/ 221، ط. دار إحياء التراث العربي): [فصل: روي عن أحمد رحمه الله أنه قال: لا بأس أن تشرب المرأة دواءً يقطع عنها الحيض، إذا كان دواءً معروفًا] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "الروض المربع" (ص: 604، ط. مؤسسة الرسالة): [(ويباح) للمرأة (إلقاء النطفة قبل أربعين يومًا بدواء مباح)، وكذا شربه لحصول حيض لأقرب رمضان لتفطره ولقطعه، لا فعل ما يقطع حيضها بها من غير علمها] اهـ.
ولكن هذا الجواز مقيد بأمن الضرر؛ قال العلامة ابن مفلح في "المبدع" (1/ 258، ط. دار الكتب العلمية): [فائدة: لا بأس بشرب دواء مباح لقطع الحيض إذا أمن ضرره، نص عليه] اهـ.
وعلى هذا يحمل ما ورد عن الإمام مالك من كراهة ذلك؛ حيث سئل عن المرأة تخاف تعجيل الحيض فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيض، فقال: ليس ذلك بصواب وكرهه. قال العلامة ابن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل على نفسها ضررًا بذلك في جسمها. انظر: "مواهب الجليل" للعلامة الحطاب (1/ 366، ط. دار الفكر).
وفي "البيان والتحصيل" للعلامة ابن رشد المالكي (18/ 616، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال ابن كنانة: يكره ما بلغني أن النساء يصنعنه ليتعجلن به الطهر من الحيض من شرب الشجر والتعالج بها وبغيرها... فعَقَّب العلامة ابن رشد وقال: المعنى في كراهية ذلك لها: ما يخشى أن تدخل على نفسها في ذلك من الضرر بجسمها بشرب الدواء الذي قد يضر بها، وبالله التوفيق] اهـ.
فمتى ما تناولت المرأة ما يمنع نزول دم الحيض فهي على طهر ما دام قد انقطع عنها نزول الدم، ولا يثبت لها أحكام الحائض؛ لأنها تترتب على وجود الحيض والحيض نزول الدم وخروجه من محله المعهود.
قال العلامة الشيخ الدردير في "الشرح الكبير" (1/ 168، ومعه "حاشية الدسوقي"، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وأما سماع ابن القاسم: فقال شيخنا: إنما هو فيمن استعملت الدواء لرفعه عن وقته المعتاد فيحكم لها بالطهر، وأما كلام ابن كنانة: فإنما هو فيمن عادتها ثمانية أيام مثلًا فاستعملت الدواء بعد ثلاثة مثلًا لرفعه بقية المدة، فيحكم لها بالطهر] اهـ.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (3/ 349، ط. دار الكتب العلمية): [لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه: كان ذلك طهرًا] اهـ.
والخلاصة: أنه لا مانع شرعًا للمرأة من تناول الدواء لقطع حيضها مؤقتًا لإدراك عبادة مؤقتة؛ كصوم رمضان، بشرط أمن الضرر، على أن يكون ذلك تحت إشراف طبيب ثقة متخصص، وإذا ارتفع الدم عنها فإنها تُعدّ طاهرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قد يهمك أيضا :
تعرّف على كيفية احتساب دار الإفتاء لقيمة زكاة الفطر
"الإفتاء" تدعو المصريين إلى الانشغال بالقرآن وتدبره طوال رمضان
أرسل تعليقك