لم يكن انفجار الأزمة الاقتصادية والمعيشية في طرابلس (شمال لبنان) الأسبوع الماضي حدثاً غير متوقع بالنسبة لكثيرين من فاعلي المدينة والعاملين في الشأن العام اللبناني، ذلك أن المدينة «متروكة» لمصيرها جراء السياسات «غير المدروسة» و«الإهمال المقصود» منذ عقود.
من الملعب الرياضي «المهمل» على مدخل المدينة الجنوبي إلى مصفاة تكرير النفط على مدخلها الشمالي، عُطلت مواقعها التنموية وقدراتها الاقتصادية، ولم يبقَ فاعلاً إلا مرفأها البحري الذي وضعت خطط لتطويره بجهود السياسي اللبناني توفيق سلطان الذي أطلق عليه رئيس المرفأ في عام 2016 في أثناء تكريمه، بحضور رئيس الوزراء المصري ووزير النقل الأردني آنذاك، لقب «أبو المرفأ». وكان رفع ملصق لصورة رافعة تبلغ من العمر 100 عام مؤشراً على خطة الاستمرار في التعويل عليه، وقد حول سلطان نضاله السياسي خلال مرحلة وجوده إلى جانب مؤسس «الحزب التقدمي الاشتراكي» الراحل، كمال جنبلاط، إلى نضال تنموي الآن في مدينته، وفي مقدمته خطط تطوير المرفأ، بهدف التخفيف من الأعباء الاجتماعية والأزمات المعيشية.
وتعود معاناة طرابلس مع السلطة السياسية إلى إنشاء دولة لبنان الكبير في عام 1920، والاقتراح الفرنسي بعدم ضمها إلى لبنان، منعاً للإخلال بالديموغرافيا اللبنانية، وهو ما رفضه البطريرك الماروني الراحل إلياس الحويك، وثانياً عندما رفض الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون تعميق أحواض مرفأ طرابلس في الخمسينيات، بناء على اقتراح رئيس بلديتها راشد سلطان، وصولاً إلى العرقلة التي مورست في عهد الرئيس ميشال عون، كما يقول سياسيون وفاعلون فيها.
يقول سلطان، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «قوى التعطيل تتغير في كل مرة»، وآخرها الرئيس عون الذي طلب من فاعليها لقاء الوزير جبران باسيل حين عُرضت عليه خطة إنتاج كهرباء ذاتية باستثمار بلغ حجمه ربع مليار دولار وفره أبناء المدينة لتأمين الكهرباء. ويضيف: «قوى التعطيل تريد تحويل طرابلس من ولاية تتبع لها مدن ومناطق واسعة قبل مائة عام إلى ضاحية من ضواحي قضاء البترون» الذي ينحدر منه النائب جبران باسيل.
ولم تسلك خطة تطوير المرفأ طريقها إلا في مطلع الألفية الجديدة، بعد تغير العهود السياسية، وتعيين الوزير غازي العريضي (عن الحزب الاشتراكي) وزيراً للإشغال، حي ثبات مرفأ طرابلس اليوم محط أنظار العالم بعد زيارة سفراء دول أجنبية إليه في العام الماضي، وهو ما تُوج باعتماده من قبل شركة (CMA - CGM) الفرنسية العالمية، ليكون محطة أساسية لها في شرق البحر المتوسط تمر بها سفنها التي تأتي من خطين: أحدهما من غرب آسيا مروراً بموانئ الخليج العربي وصولاً إلى جنوب إيطاليا، والثاني من موانئ الخليج العربي وصولاً إلى مرسين في تركيا. وبات عمق الحوض 15.5 متر، ما يعني أنه بات قادراً على استقبال سفن عملاقة، وتتيح مساحة الأحواض الواسعة لها الالتفاف. وتزداد أهمية المرفأ بوجود 35 كيلومتراً بحرياً إلى الشمال ملكاً للدولة اللبنانية، ما يمهد لتوسعته في أي وقت، فضلاً عن أن قدرته الاستيعابية مفتوحة، ووجود خط سكك حديد للبضائع والركاب، وهو على مقربة من مهبط الطائرات في القليعات في الشمال.
هذه الطاقة الاقتصادية لطرابلس قادرة على تأمين فرص عمل للمئات. وفيما حصلت إدارة المرفأ على قرض من البنك الإسلامي بقيمة 87 مليون دولار لتطويره، على أن تسدده إدارة المرفأ من عائداته، بمعزل عن الحكومة اللبنانية، تنتظر مشاريع التوسعة تشكيل الحكومة.
ولا تقتصر أزمات طرابلس على الضائقة الاقتصادية وتقويض المشاريع التنموية. ويرى سياسيون فيها أن طرابلس كانت بمواجهة خطة ممنهجة سياسياً، وألبست «ثوباً تنكرياً ليس لها»، في إشارة إلى إطلاق بعضهم عليها اسم «قندهار»، علماً بأن المدينة التي تسكنها أغلبية إسلامية ومسيحية من الأرثوذكس أطلقت في الأشهر الماضية أسماء خمسة مطارنة موارنة على خمسة من شوارعها، إلى جانب شوارع أخرى تحمل أسماء مسيحية، وذلك رداً على الاتهامات الموجهة للمدينة، ما أثر عليها سياسياً واجتماعياً.
وفي مقابل تعطيل خطط التنمية، عبر وضع عراقيل أمام المشاريع، يحاول أبناء المدينة تطوير مرافق تغيب عنها الدولة بقدراتهم الذاتية، لمواجهة «خطة ضرب طرابلس اقتصادياً، وتصويرها على أنها «قندهار».
يقول سلطان: «مشكلة طرابلس أنها مكتومة الأنفاس، مع أنها عاصمة ثانية للبلاد»، ويوضح: «منذ عشرات السنين، ورداً على إهمال الدولة لها، ذهب أبناؤها إلى تأمين الخدمات عبر شركات خاصة، لجهة تأمين المياه من نبع رشعين (يبعد نحو 17 كيلومتراً)، وملكية أبناء المدينة لشركة كهرباء قاديشا التي كانت حاصلة على امتياز من الحكومة، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى كهرباء لبنان قبل سنوات». وحين حاول أبناء المدينة في العقد الماضي عرض إنتاج الكهرباء لتأمينها، تمت عرقلة الخطط.
ويرى سلطان أن «المؤامرة على طرابلس متمادية»، ذلك أن «المدينة قادرة على العمل بقدراتها الذاتية، لو تركتها السلطة، ووفرت لها حرية العمل والتطوير، وأتاحت لها تنفيذ الخطط التنموية وتقديم الخدمات»، مضيفاً: «الملعب الأولمبي متروك بلا صيانة ولا استثمار، ومعرض رشيد كرامي الدولي متروك أيضاً، وقد تمت عرقلة مشاريع استثمارية صينية لاعتماده معرضاً دائماً، فضلاً عن أن محطة انطلاق السفر لم تُنجز...».
ويؤلمه إمعان العهود بحجب التنمية عن طرابلس، إذ يقول: «هل يُعقل أن هناك 23 متحفاً في لبنان، بينما لا يوجد أي متحف في طرابلس، مدينة الأصالة والتراث والحضارات؟!». ويؤكد أن «كتم الأنفاس دفع باتجاه هذا التوتر الأمني»، علماً بأنه لا حل للأزمات وتفاقمها إلا بتطوير المدينة «وتوفير حرية لأبنائها للعمل وتنميتها، ما دام أن السلطة السياسية المركزية غائبة عنها».
قد يهمك أيضا :
رئيس مجلس إدارة مرفأ طرابلس الأسبق ينفي إصابته بكورونا
وصول السائقين اللبنانيين العائدين من العراق عبر تركيا إلى مرفأ طرابلس
أرسل تعليقك