افتتح مسار دولي إقليمي جديد في منطقة الشرق الأوسط، يحتاج إلى الكثير من التأني في السير بين نقاطه. فهو قد يكون قابلا لأن يتعرض إلى ضربات ومحاولات تخريبية كثيرة، لا سيما أن بعده الدولي أظهر أن للصين الشعبية سياسة خارجية في المنطقة، قادرة على التأثير و تحقيق خروقات.يأتي الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، في ظرف دولي دقيق. الغرق الروسي في الحرب الأوكرانية أبعد موسكو عن المشهد، مقابل استمرار التوتر في العلاقات الأميركية السعودية، ومحاولات البحث عن إعادة إحياء مفاوضات الإتفاق النووي بين واشنطن وطهران.
مسار الإتفاق
بدأت مقدمات هذا الإتفاق منذ زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة العربية السعودية حيث نظمت له ثلاث قمم، خليجية وعربية وإسلامية. بعدها جاءت زيارة الرئيس الإيراني الى الصين. قبل الولوج إلى ذلك، خطت السعودية أكثر من خطوة سياسية من دعم أوكرانيا بـ400 مليون دولار وزيارة وزير الخارجية فيصل بن فرحان إلى موسكو، بالإضافة إلى مناقشة هذه التطورات مع الأميركيين أيضاً باجتماع عقد في الرياض.
هي خطوة كانت قد تأخرت ثماني سنوات. بالتحديد عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية مستعجلة لإبرام اتفاق نووي مع إيران، من دون التنسيق مع السعودية لا بل مع استبعادها. وكان ذلك بعد سنوات من الإنهيارات العربية تحديداً في سوريا والعراق ولبنان واليمن، إذ وجدت السعودية نفسها مطوقة في حينها. وقد طوقّت أكثر في صراعها الذي كان مفتوحاً مع تركيا ومع قطر. كانت قطر سبّاقة في هذا المسار، على الرغم من علاقتها الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية وتصنيفها كحليف استراتيجي أول من خارج حلف الناتو، احتفظت قطر بعلاقات مع ايران ولعبت دوراً تقريبياً بين واشنطن وطهران، وسعت بين السعودية وإيران.
فترة تجريبية
إنها خطوة استراتيجية على صعيد التطورات السياسية في المنطقة. تعود من خلالها السعودية إلى الملعب من باب واسع. خاصة أنها إلى جانب السعي لإنهاء حرب اليمن، قد وضعت تصوراتها حيال العلاقة مع إيران، والوضع في سوريا ولبنان والعراق. من أبرز ما اتفق عليه هو مراجعة السياسات الخارجية في دول المنطقة خلال شهرين لفتح السفارات، ما يعني أن ما جرى سيدخل بفترة تجريبية لمدة شهرين، سيتم خلالهما تلمّس وقائع سياسية جديدة في المنطقة، منها “إتفاق مكة” حول اليمن. كذلك بالنسبة إلى الملف السوري وتالياً الملف اللبناني.
هذا يعني أن السعودية تلعب على موازين قوى دولية في سبيل تحقيق مصالحها، وهو المسار الذي تنتهجه مع أميركا، أوروبا، الصين، روسيا، وفي الشرق الأوسط أيضاً. بحسب ما تقول المعلومات فإن إيران كانت سعت على مدى أشهر لإعادة العلاقات مع السعودية، بينما الرياض كانت تشدد على مسألة وضع رؤية سياسية لمعالجة الأزمات القائمة، فتعهدت طهران بالبحث بها بالتزامن مع إنهاء القطيعة الديبلوماسية، على أن يتطور النقاش بعدها إلى كل ملفات المنطقة.
خروج من منطق الإبتزاز
أهمية ما حصل، هو أنه خروج سعودي من منطق الإبتزاز الأميركي والإسرائيلي وحتى الغربي. فمنذ سنوات مديدة كانت واشنطن تلعب لعبة الإبتزاز للسعودية عبر تمدد إيران وتوسعها في المنطقة. ولم تخل لعبة الإبتزاز من تهديدات كثيرة أميركية وإسرائيلية لضرب إيران أو تقويض نفوذها وهو ما لم يتحقق منه شيء. فيما كانت واشنطن تمنح الغطاء للتوسع الإيراني في العراق، سوريا، اليمن ولبنان. وحتى عندما تحقق التقارب الأول في سبيل انهاء حرب اليمن وتمديد الهدنة وجد السعوديون أن الأميركيين يسعون إلى تعطيله لإبقاء مسار الإبتزاز مفتوحاً. وأخيراً اتخذت السعودية قرار الإنقلاب على كل هذه السياسات، أو اتخذت بالأحرى خيار قلب الطاولة.
جاء الإتفاق في وقت تضخ ماكينات سياسية وإعلامية كثيرة مؤشرات حول إمكانية اندلاع حرب إسرائيلية إيرانية، علماً انها تندرج أيضاً في سياق التهويل، وبالتالي تم تصوير ما جرى بأنه تقارب إيراني سعودي كي لا تكون دول الخليج منخرطة في هذا التصعيد. كما أن الإتفاق يأتي على وقع سعي تل أبيب إلى فتح علاقات مع السعودية في مقابل 3 شروط سعودية أساسية وهي اتفاقات أمنية مع أميركا، وزيادة منسوب التسلح، والشروع بإطلاق المشروع النووي السلمي. وهو ما لم يكن يحظى بموافقة أميركية. خطت السعودية باتجاه طهران بعد دعوات إيرانية متكررة على مدى أشهر حول ضرورة تحسين العلاقات وترتيبها، والخطوة هذه المرّة جاءت عبر الصين كجزء من تعبير عن انزعاج واضح من الأميركيين، هذا الإنزعاج الذي يتراكم ويتزايد منذ ولاية باراك أوباما وإدارته للملف النووي وصولاً إلى الإتفاق في العام 2015، واستمر في ولاية دونالد ترامب على الرغم من أيام “العسل” بين واشنطن والرياض. إلا أن ترامب لطالما كرر بأنه غير معني بأمن الخليج وعلى السعودية الدفاع عن نفسها، أو أن تدفع تكاليف مقومات هذا الدفاع. واسوأ ما ساهمت به إدارة ترامب في حينها هو التحفيز على خلاف وصل إلى حدود الصراع والعداوة بين دول الخليج وبالتحديد حصار قطر.
رؤية سعودية جديدة
ما جرى يعبّر عن رؤية سعودية جديدة في المنطقة، عنوانها “السعودية أولاً”. وبذلك يكون الإستباق لأي تصعيد أو تقارب جديد مع إيران من قبل الغرب. بدون الحاجة إلى الدور الأميركي في ترتيب العلاقة، علماً أنه تاريخياً فإن كل الإدارات الجديدة كانت تحاول الدخول في مسار الوصول الى اتفاق مع ايران منذ أيام ولاية جيمي كارتر، فيما الوحيد الذي نجح كان باراك أوباما، كذلك ففي غالبية ولايات الإدارات الأميركية كانت تبرز المحاولات لإحداث تقارب سعودي إيراني، وهي محاولات لم تنجح سوى جزئياً في فترة الملك فهد والرئيس محمد خاتمي. أما ما تغير حالياً فهو الدور الذي لعبته الصين.
مما لا شك فيه أن هناك رؤية استراتيجية جديدة للسعودية في المنطقة، تقوم على مبدأ التخفف من الأزمات والمعارك. فيما لا بد من انتظار تبعات هذه الإتفاق على الوضع في المنطقة ككل، ولا سيما لبنان وسوريا. في الديوان الملكي السعودي فريق يتولى السياسة الخارجية يضم، مساعد العيبان وهو وزير ومستشار الأمن الوطني، وعبد العزيز الهويريني وهو رئيس أمن الدولة برتبة وزير، ووزير الدفاع خالد بن سلمان، وأحمد بن عبد العزيز القطان وهو وزير الدولة للشؤون الأفريقية، وخالد الحميدان رئيس المخابرات. كان الدور الأساسي في الإتفاق مع إيران لمساعد العيبان، وهو وزير ثابت منذ 25 سنة، أحد أبرز المسؤولين السعوديين عن السياسات الخارجية، وقد لعب دوراً بارزاً في اليمن في العام 2011، وهو الذي كان عمل على معالجة اول أزمة خليجية مع قطر في العام 2014، ونجح في إعادة العلاقات أيام الملك عبد الله بن عبد العزيز. كما كان له دور بارز في المصالحة مع قطر في العام 2021. قبل ذلك لعب العيبان الدور الأساسي في إعادة ترتيب العلاقات السعودية التركية، وكان صاحب الرؤية بعدم وجوب حصول توتر بين الرياض وأنقرة.
ترقب لبناني
يترقب لبنان لمسارات هذا الإتفاق. ينطوي الترقب على بعض من الإستعجال، ففريق حزب الله وحركة أمل وتيار المردة يعتبرون أن هذا الإتفاق سينعكس سريعاً بشكل إيجابي على مسألة ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. ويستعجل هؤلاء التقدير في اعتبار أن الإنتخابات الرئاسية ستنجز خلال أسابيع قليلة. بينما في المقابل فإن خصوم الحزب يعتبرون أن ما جرى سيدفع طهران والحزب إلى تقديم تنازلات. خصوصاً أن الحزب لن يكون قادراً على تحمّل تبعات المرحلة المقبلة وبالتالي لن يكون في مصلحته تحمّل مسؤولية رئاسة الجمهورية. وما بين وجهتي النظر، لا يزال هناك رهان لبناني على أن القوى الدولية مهتمة تفصيلياً بالملف اللبناني، اذ يراهن الساسة اللبنانيون على جملة معطيات بأن الدول مهتمة بلبنان بسبب وجود اللاجئين، وبسبب مصالح متعددة. لكن ذلك يظهر كم أن الطبقة السياسية اللبنانية غير قادرة على فهم أو استيعاب المتغيرات التي تحصل وهو ما يدل على قصور في قراءة تطورات الإقليم، والتي يسعى اللبنانيون دوماً إلى “لبننتها” وحتى “شخصنتها” .
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك