بيروت - لبنان اليوم
سرت في اليومين الماضيين مخاوف حول تأثر المخزون الاستراتيجي من القمح في ظل الأزمة الروسية – الأوكرانية في المنطقة التي تعد المصدر الأساسي للقمح المستورد إلى لبنان. هذه المخاوف زادها تضرّر القدرة التخزينية بعد انفجار مرفأ بيروت بسبب الدمار الذي لحق بالإهراءات التي كانت تخزن ما يكفي الاستهلاك المحلي نحو أربعة أشهر. ورغم أن بدائل الاستيراد متوافرة من أميركا والأرجنتين، مثلاً، إلا أنها مكلفة وقتاً ومالاً، وستكون كلفتها مضاعفة بسبب ممارسات مصرف لبنان في التأخّر بتسديد ثمن شحنات القمح بالدولار الأميركي.
حالياً ترسو 5 بواخر على الشاطئ اللبناني تكفي حمولتها من القمح لنحو شهر بالحدّ الأدنى، يضاف إليها مخزون في المطاحن يكفي لنحو 20 يوماً. علماً أن هذه ليست الطاقة التخزينية القصوى التي يملكها لبنان، بل القدرة التخزينية التي رسم حدودها مصرف لبنان. فعلى قاعدة «من يدفع، يأمر» قرّر المصرف، من دون أي تدخّل أو رقابة حكومية، المماطلة في تسديد ثمن شحنات القمح التي استوردها أصحاب المطاحن، ما أدّى إلى تراجع المخزون لدى المطاحن من 4 أشهر إلى 20 يوماً. وإذا كانت للمصرف اعتباراته المتعلقة بكيفية إدارة مخزونه بالعملات الأجنبية، فإن هذه الاعتبارات تأتي على حساب أولويات استهلاك الرغيف في لبنان. إذ يتحكّم «المركزي» حالياً بعدد الأرغفة التي يمكن تصنيعها واستهلاكها، كما يتحكّم بأسعارها. علماً أن أسعار القمح، رغم ارتفاع سعر ربطة الخبز من وزن 1050 غراماً إلى 9000 ليرة، لا تزال مدعومة بنسبة 100% على أساس 1515 ليرة مقابل الدولار.
حساسية الأزمة الروسية – الأوكرانية أنها تدور في منطقة تشكّل المصدر الأساس لاستيراد القمح إلى لبنان الذي استورد عام 2021 نحو 80% (520 ألف طن) من مجمل حاجاته (650 ألف طن) من القمح من أوكرانيا، فيما أتت الـ 20% المتبقية من روسيا ومولدوفيا ورومانيا، بحسب رئيس نقابة أصحاب المطاحن أحمد حطيط. ويعود هذا التركّز في الاستيراد إلى أن أسعار القمح الأوكراني أقل من أسعار القمح الذي تبيعه دول أخرى.
حتى الآن لا أزمة طالما أن التطوّرات لم تتحوّل إلى حرب عسكرية واسعة. إلا أن القلق ينبع من أن خطوط التجارة البحرية التي تستعمل لتصدير شحنات القمح إلى لبنان من كل الدول المنتجة للقمح تمر بالبحر الأسود، وأي حرب واسعة لن تعرقل استيراد القمح الأوكراني فقط، بل الاستيراد أيضاً من مولدوفيا ورومانيا وروسيا. في المقابل، يمكن استيراد شحنات من روسيا عبر منافذ بحرية أخرى، لكنها تتطلب نقلاً داخلياً هائلاً ومسافات بحرية طويلة جداً وربما «وعرة». كما يمكن استيراد القمح من فرنسا أو ألمانيا مثلاً، لكن القمح المنتج في البلدان الأوروبية عموماً من النوع القاسي، ويشبه إلى حدّ كبير القمح المنتج في لبنان وسوريا، ولا يصلح لصناعة الرغيف العربي، بل لتصنيع الباغيت والباستا. فضلاً عن أن الاستيراد من أوروبا يعني اللجوء إلى أسواق جديدة بالنسبة لمستوردي القمح، بالتالي نوعاً مختلفاً من التعاملات المالية والالتزامات.
ويزيد المشكلة تعقيداً فرض عقوبات غربية على روسيا. وحتى في حال عدم وقوع حرب واسعة تنعكس سلباً على خطوط التجارة في البحر الأسود، فإن شراء القمح وتحميله من مرفأ «ماريوبول» الذي تأتي غالبية الشحنات الأوكرانية منه إلى لبنان، لم تعد متاحة بسبب العقوبات، ولأن هذا المرفأ يقع في المناطق التي ضمّتها روسيا إليها.
بالتأكيد، ثمة بديل لاستيراد القمح من أوكرانيا، إلا أنه في هذا السياق تتضخّم المشكلة أكثر فأكثر. ففي ظل التوتّر بين روسيا والغرب، وارتفاع منسوب القلق من اندلاع عمليات عسكرية، ازدادت أسعار القمح وأكلاف الشحن والتأمين وسواها من الأكلاف المرتبطة بالشحن البحري. وهذا يعني أنه في حال قرّر المستوردون استيراد القمح من روسيا أو مولدوفيا أو رومانيا وسواها، فإن الأسعار ستزداد، ما يضع ضغوطاً إضافية على مسألة التمويل بالدولارات من مصرف لبنان، وعلى سعر الرغيف عموماً. أما إذا قرّر المستوردون الذهاب إلى بدائل أكثر «أمناً» لجهة العقوبات، أي استيراد القمح من الولايات المتحدة أو الأرجنتين مثلاً، فإن عامل الكلفة يصبح أكبر. ففيما يتطلب وصول الشحنات إلى لبنان من أوكرانيا وروسيا نحو 8 أيام كحدّ أقصى، يتطلب الاستيراد من أميركا نحو 25 يوماً ومسافة شحن أطول.
حالياً، ليست هناك أزمة انقطاع المخزون في لبنان طالما أن التوتّر في البحر الأسود لم يتحول إلى حرب واسعة. ولدى لبنان وقت لاستيراد الشحنات من دول أخرى، لكن المشكلة تكمن في الكلفة. فقد ارتفع سعر طن القمح إلى 350 دولاراً وباتت كلفة استيراد حاجات لبنان السنوية من القمح المخصص لصناعة الرغيف تكلّف نحو 190 مليون دولار بدلاً من 100 أو 110 ملايين دولار. بالتالي فإن الضغوط التي كان يتذرّع بها حاكم مصرف لبنان لتأخير سداد ثمن الشحنات للمستوردين، صارت أكبر وربما تدفعه إلى المطالبة بتحرير سعر ربطة الخبز لتخليصه من أعباء استنزاف الاحتياط بالعملات الأجنبية.
أما ما يشاع عن أزمة رغيف في الوقت الحالي، فيقع ضمن خانة الاستغلال التجاري. فهذه الفرصة لا تفوّت لدى المستوردين من أجل الضغط على الحاكم لتسديد ثمن شحناتهم الراسية على الشاطئ في انتظار تفريغها.
قد يهمك أيضا :
سلّة غذائية من وزارة الاقتصاد للحفاظ على الأمن الغذائي في لبنان
إقتراحٌ من حزب الله إلى نعمة بشأن "السلع المدعومة"
أرسل تعليقك