واشنطن ـ لبنان اليوم
لا يمكن تفويت ندوة تتحدث فيها المنتجة الأميركية غايل آن هيرد. فإذا علمنا أن الندوة هي عن وضع السينما المستقلة اليوم فيصبح حضورها أمراً غير قابل للجدل.وُلدت قبل 65 سنة في لوس أنجليس وانتمت إلى الصناعة السينمائية في منتصف الثمانينات بعد تخرجها من الجامعة بشهادة في حقل الاقتصاد. أمت العمل كمنتجة وكاتبة فيلم «ذا ترميناتور» (The Terminator) سنة 1984، هذا قبل عام واحد من زواجها من مخرج الفيلم جيمس كاميرون والعمل معه لاحقاً على أكثر من فيلم بينها «أليانز» و«الهاوية» (The Abysse) كما «ترميناتور 2». تطلقا سنة 1989 ثم تزوجت من برايان دي بالما الذي التحقت بالعمل معه على فيلم «نشأة كاين» (Raising Cain). في العام 1999 أخبرني دي بالما حين التقينا في مهرجان تورونتو أنه أراد تحويلها إلى مخرج. كان مضى سبع سنوات على طلاقهما.
رغبته هذه لم تتحقق وآن - هيرد واصلت عملها كمنتجة وكاتبة وصعدت درجات الأعمال الإدارية في هوليوود فترأست أكاديمية العلوم والفنون السينمائية سنة 2011 وتابعت مسيرة متواصلة في التلفزيون والسينما.
الآن هي في ربوع مهرجان لوكارنو (4 - 14 من هذا الشهر) وفي بالها الحديث عن حال السينما المستقلة في الندوة كما في لقاء منفرد قصير تم بعدها. في ذلك اللقاء أكدت أن ما ذكرته في الندوة عن أن الوضع غير مستتب في الولايات المتحدة بالنسبة للسينما المستقلة: «ذات زمن، كانت السينما المستقلة من أهم ركائز العمل في أميركا. صناعة كاملة ونشطة أنجبت العديد من المواهب في كل شأن. من ممثلين ومخرجين ومنتجين وكتاب. حالياً، نعم ما زالت السينما المستقلة موجودة لكنها لم تعد مستقلة تماماً».
أسألها إذا ما كان هناك أكثر من تعريف لما هي سينما مستقلة؟ فتجيب: «لا أعتقد. إنها السينما التي تختلف فيما تطرحه عن السينما الأكثر اتشاراً والتي تعتمد على مصادر تمويل خارج كيانات هوليوود الإنتاجية وتقصد الوصول إلى جمهور خارج الزحام السائد».ثم تضيف: «ربما الآن هناك تعريفات أخرى، لكن الأساس هي اختلافها وهذا لم يعد متوفراً إلا في حالات محدودة».
تؤكد آن - هيرد أن بعض التحول الذي أصاب السينما المستقلة يعود إلى الهيمنة التي شاعت خلال السنوات القريبة الماضية: «هوليوود أصيبت بالخوف من هارفي ونستين (كان أحد أكثر منتجي السينما المستقلة نشاطاً) وتطلب الوقت فترة طويلة قبل أن تكشف اعتداءاته الجنسية. سكوت رودين وسواه استفاد من هذا الوضع. سمح لنفسه بمعاملة موظفيه كقطيع قبل أن ينكشف بدوره».
تعتبر المنتجة التي احتفت بها عدة مؤسسات ومهرجانات خلال السنوات العشرين السابقة أن السينما المستقلة لها مشاكلها في المكاتب قبل مشاكلها كأعمال منتجة، لكن هذا ما يمكن قوله على مختلف أصعدة الفيلم مستقلاً أو غير مستقل. توافق على ذلك وتضيف: «ركزت خلال الندوة على هذه المشاكل لأنها تنتشر في أرجاء العالم وحتى تكون السينما المستقلة سينما ناجحة عليها أن تتمتع بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي، كذلك بالنسبة للسينما ككل».
الندوة (الوحيدة التي اهتممت بحضورها) منحت المستمعين معلومات حول الإنتاج المستقل وطبيعته معظم ما قيل بعد مداخلة المنتجة - الأميركية مهم وإن كان محط عرض لمشاكل بلا توفير حلول إلا في نطاقات محدودة.
البحث عن فتاة مخطوفة
تتوالى الأفلام (بكل طيوفها) على الشاشات المختلفة وبعض ما لا يعرض على الشاشات الرئيسية أهم من أن ينتهي إلى عروض مساندة أو موازية. هذا حال فيلم بولندي - جنوب أفريقي بعنوان «سير مع الملائكة» (A Walk with Angles)لتوماس فيزوكينسكي. هذا الفيلم جميل بقدر ما هو موحش. صادق ومخيف بسبب صدقه. يفتح الفيلم على شخصيته الأساسية: جيرومايا ماروبيَن: رجل أسود يعيش في ضواحي جوهانسبرغ. نستمع إلى صوته قبل أن نشاهده وهو يقول: «في كل دقيقة هناك جريمة قتل». يصمت قليلاً ثم يقول: «الآن بينما أتكلم وقعت جريمة قتل».
جيرومايا شخصية مهمومة. ثلث ساعة الفيلم الأولى شرح للتفرقة العنصرية التي انتهت قانونياً لكنها ما زالت سارية بين البيض في جنوب أفريقيا: «الكبار ورثوا الجيل الثالث الكره. كلمات مثل (غبي) تطلق على الإنسان الأسود. لماذا؟ هل خطيئتنا إننا وُلدنا سود؟». ويلاحظ أن مرحلة «الأبارثايد» قوضت حياة الغالبية الأفريقية وما زالت تؤثر في حياتهم. يرى أن الجريمة، بكل أنواعها، تعود إلى أن شخصية المواطنين ذوي البشرة السوداء فقدوا مشاعر الحب والرعاية والوحدة بينهم بسبب الاضطهاد الذي عانوا منه.
ثم يذكر كيف أن البيض استأجروا أفراد قبائل زولو ليقتلوا أفراد القبائل الأخرى مقابل 20 دولارا للفرد: «داهموا منازل وقتلوا كل من فيها بمن فيهم الأطفال الرضع. اغتصبوا النساء وقتلوهن».
من حسن الحظ لا يبقى الفيلم ضمن دائرة التاريخ القذر للعنصرية. يبدأ الفيلم (ثانية) بعد نحو 20 دقيقة. امرأة تشكو لجيرومايا اختفاء طفلتها منذ ست سنوات وتبكي معاملة زوجها لها معتقداً أنها باعت طفلتها بعشرة زار (العملة المحلية التي لا تتجاوز 75 سنتاً أميركياً): «لا أحد يبيع طفله بمثل هذا المبلغ». نتيجة استماعه إليها هي وعده لها بأن يبحث عنها.
يتحول جيرومايا إلى محقق يشبه التحري الخاص. كيف يمكن له أن يجد طفلة يحمل صورتها وهي ما زالت رضيعاً بعد ست سنوات؟ كيف يمكن له أن يجدها وخطف الأطفال جريمة يومية تقع عدة مرات في اليوم الواحد؟
إذا ما كان جيرومايا (ثقيل الحركة وبدينا) يماثل - واقعياً - شخصية التحري الخاص في الأفلام الروائية من حيث المهمة الموكلة إليه، فإن جوهانسبيرغ تمثل الشوارع المنحطة التي في شيكاغو ونيويورك حيث الجريمة بدورها شائعة. أضواء الليل الخافتة. القمامة. الرجال والنساء الذين يعيشون على الأرصفة. صفير سيارات البوليس (التي لا نراها) و- في أكثر من مشهد - اندلاع طلقات نارية قريبة تفرق الناس بين فضوليين وهاربين.
يكشف الفيلم لنا أن العديد من الأطفال المختفين هم ضحايا ممارسات شيطانية. أحدهم يأتي بتفاصيل مخيفة. آخر يتسمر بعينين جاحظتين كونه عاش وسط عصابات المتاجرة بأعضاء الأطفال. والدين حاضر من العنوان وحتى أعماق جيرومايا ونظرته إلى حياة الآخرين المنقلبين.
جيرومايا لا يزال لديه أمل. يواصل حتى نهاية الفيلم مستعيناً بإيمانه الديني ومردداً أنه يشعر بالقوة كلما دعا الله لنجدته. لكن هذا لن يدرأ الخطر عنه وفي نهاية موحشة نراه يغيب في عتمة الليل. لقد سمع بأن الفتاة ما زالت حية لكنه قد يصل إليها أو قد لا يصل.
«سير مع الملائكة» موحش في واقعيته وطرحه لكنه في الوقت ذاته من أجمل الأفلام التسجيلية التي شوهدت في الآونة الأخيرة. متقن في منواله ولافت بصرياً بسبب تصوير إدارة تصوير في مكانهما الصحيح في كل مرة.
معاناة مزدوجة
في قسم «المسابقة الدولية للأفلام القصيرة» شاهد هذا الناقد فيلماً جيداً آخر. وهو فيلم أنيميشن قصير (16 دقيقة) تم تمويله من قبل هيئات أردنية وقطرية مع مشاركة فلسطينية. أخرجه الفلسطيني أحمد صالح متفنناً على أكثر من مستوى.
«ليل» هو ليل طويل آخر. نسمع صوت الممثلة هيام عباس وهي تحادث ابنتها: «لا تخافي يا صغيرتي. قد يؤخذ منا كل شيء. كل شيء لكن لا أحد سيأخذ منا الليل». يعد ذلك بطقس خطابي لكنه يتبدل سريعاً إلى بوح عن ألم العيش في ليل هو رمز للوضع الناتج عن الوضع في فلسطين. لا نرى مواجهات ولا أسلحة أو قذائف. ولا نسمع حتى كلمة فلسطين. نعم سنسمع صوت طائرات ومن بعيد صوت قذائف، لكن الفيلم يتحدث عن ليل طويل كان حط ذات يوم وما زال إلى اليوم.
هناك مشاهد لمنازل مهدمة ولا يحتاج المرء لكثير من التفكير ليعرف أن المقصود هو ما حدث في غزة مؤخراً. لا تعليق ولا خطابة بل عبارة عن رسم على الشاشة بشخصيات بأسلوب الدمى (للأشخاص رسم متكامل وحركة غير سريعة). فيلم متأمل. رقيق جداً. تحريك جيد وتداول بنثر يحمله صوت الأم وهي تتحدث لابنتها معتذرة عن واقع هي بدورها ضحية فيه.
الحديث عن الأمهات والأبناء يستمر في فيلم المسابقة «سولانج الصغيرة»: فيلم فرنسي لأكسيل روبرت التي سبق لها وأن عرضت في لوكارنو بعض أعمالها السابقة وذلك بدءاً بفيلم «تفاحة عيني» سنة 2016.
الفتاة هنا هي سولانج، (جَيد سبرينجر) ابنة الثانية عشر عاما التي تعيش، في البداية، في كنف والديها السعيدين. هذه السعادة تضمحل بمرور الأيام وتنضوي. سولانج تدرك ما يحدث وتخاف من نتائجه. تخشى أن يؤدي الوضع إلى انفصال وطلاق. المخرجة تستخدم الممثلة الصغيرة لترجمة ما تعايشه الشخصية من قلق ومخاوف. ما الذي سيحدث إذا تصدع البيت ثم تداعى.
هناك معاناتان في الفيلم. معاناة الفتاة سولانج ومعاناة المشاهد (أيما كان اسمه). الثانية ستنضوي بعد انتهاء الفيلم. الثانية ستبقى لحين كتابة هذا النقد بعد يومين من مشاهدته. المشكلة هي أن الفيلم قديم وإن انتمى إلى إنتاج هذه السنة. قديم المشكلة. قديم في وجهة النظر التي تعرض المشكلة وقديم في المعالجة الوضعية وغير الطموحة. زيادة في الاحتفاء بميراث الميلودراما، تقوم المخرجة باختيار مشاهد لا تضيف بل تستمر ويصاحب اللحن الموسيقي المطعم بالمقاطع المثيرة للضجر من البداية وفي كل الزيارات التي يقوم بها لاحقاً. كل هذا يخلق عملاً لا يمكن له أن يخلق علاقة عاطفية (من باب التعاطف) مع الوضع أو مع الشخصية التي قُصد بها أن تتحمل وزر أخطاء الكبار.
قد يهمك ايضا
أرسل تعليقك