مراكش - العرب اليوم
يعتبر "الملحون" من أنواع الموسيقى التي تميّز المغرب عن باقي البلدان العربية، ويعتبر رافداً أساسياً من روافد الذاكرة الفنيَّة المغربيَّة منذ أكثر من 6 قرون. وبات هذا الفن ومن يمارسه ضحية التهميش وعدم الإنصاف. وتعبر إيقاعات خاصة ومواويل أصيلة عمّا يخالج الإنسان من مشاعر تتخذ من اللهجة العامية أداتها ومن مضامين اللغة الفصحى بشعرها ونثرها مادتها، التي تتلون مواضيعها بألوان المدائح النبوية
والعشق والسلام والرثاء وغيرها. إنه فن "الملحون" المغربي، الذي ظهر لأول مرة في العهد الموحدي خلال القرن السابع الهجري. نشأ في مدينتي سجلماسة وتافيلالت ونما في مراكش وفاس ومكناس وسلا. ويعتبر فناً شعرياً وإنشادياً وغنائياً متميزاً في المغرب، وعرف صعود أسماء ستظل عالقة في الذاكرة الشعبية المغربية، من أمثال سيدي عبد القادر العلمي، شيخ متصوفة "الملحون" وسيدي عمر اليوسفي و الجيلالي امتيرد وسيدي قدور العلمي وغيرهم.
وبشأن اضمحلال هذا النوع الفني يؤكّد الفنان سعيد المفتاحي، المعروف بـ"سفير الملحون"، أنّ "فن الملحون يتخبط في مجموعة من المشاكل، إذ يدَرَّس فقط في معهدين تابعين لوزارة الثقافة المغربية. فنان الملحون يعاني التهميش والفقر وبالتالي لا تسمح له هذه الظروف القاسية بالإبداع ويبقى اجتهاده مقتصراً على حفظ وجمع القصائد بطريقة تقليدية". ويشكو المفتاحي من اقتصار تعليم هذا الفن على معهدين في المغرب فقط. وتابع أنه "حان الوقت، ونحن متأخرون في هذا المجال، لوضع قانون لحماية المبدعين المغاربة وحقوقهم. يكفينا رؤية فنانينا يبكون في قنوات التلفزيون، فالحفاظ على الملحون أمانة في عنق كل من يهوى الإبداع الحقيقي والإنساني الجميل".
ويرى الباحث في التراث المغربي عبد المجيد فنيش، أنّ "الملحون هو سرد مصحوب بالنقر الموسيقي، والمطلوب هو صيانة هذا الموروث وتوفيره في مطبوعات مرفقة بتحقيقات وشروحات وتفسيرات". وفي رد على سؤال بشأن مناعة "الملحون" ضد اكتساح الأغاني العصرية، يشير فنيش إلى أنّ "الملحون الذي صمد أكثر من ستة قرون لا يمكن إلا أن يواصل صموده قروناً أخرى، لأن الملحون له قابلية أساسية للتطور".
الملحون.. بلمسة نسائية صرفة
تعد الفنانة ليلى لمريني من أهم الأصوات النسائية المنشدة لطرب "الملحون" في المغرب، زادها تأهيلها الموسيقي إلماماً بالقواعد الضابطة في الانتقال بين المقامات والوصلات، ما جعلها أحد أعمدة هذا اللون الغنائي، الذي يعد من أجمل وأرقى التعابير الفنية التي تنم عن تنوع التراث الموسيقى المغربي.
وترى لمريني أنّ هناك تغييباً للصوت النسائي رغم الموهبة التي تتمتع بها النساء. مؤكدة أنّ "الملحون هو اللغة السليمة والمرنة ويعتبر من التراث الخالد، لما لقيمته الأدبية واللغوية من جمالية في الشعر وروعة في الكلام. وهذا التراث ابتكره شعبنا المغربي متخذاً وسيلته في التعبير أشكالاً من القول والكلام والنغم والإيقاع والحركة". وأوضحت "شخصياً استهوتني في فن الملحون القصيدة الشعرية، لأن الملحون هو شعر نظم ليُتَغنى به".
وبشأن تغييب الصوت النسوي في بعض المحافل الوطنية، أردفت بأنه "للأسف، نلاحظ في بعض المهرجانات تغييب الصوت النسوي، مع العلم أننا نمتلك أصواتاً نسائية مبدعة في هذا المجال أخذت على عاتقها دخول هذا المجال الصعب الذي كان حكراً على الصوت الرجالي".
وترى الفنانة المغربية حياة بوخريص، أنّ "الألوان التراثية المغربية لم تأخذ حقها بعد ويتعامل معها بشكل مناسباتي، في وقت يتم فيه تشجيع كل ما هو معاصر". وتوضح بوخريص، أنّ "الملحون هو تراث مغربي محض يتطرق إلى مجموعة من المواضيع المرتبطة بالحياة اليومية والصوت النسائي أعطى إضافة نوعية وجمالية لهذا اللون الغنائي".
ورغم تراجع فن "الملحون" إلا أن هناك بعض الأمل بنفحات شابة، كالفتاة الفاسية نهيلة القلعي ذات الـ14 ربيعاً، والتي نشأت في بيئة ملهمة وشغوفة بالموسيقى. نهيلة فتاة مفعمة بالحياة والحيوية وتتميز بصوت جميل شدي على إيقاعات فن "الملحون".
وتؤكّد نهيلة "اخترت فن الملحون منذ صغري لكي أحافظ على هذا التراث الجميل من جيل لجيل حتى لا يندثر". وعندما لم يتجاوز عمرها العامين، بدأت نهيلة تردد الأغاني وتدندن ألحانها، بدءاً بـ"سو يا سو حبيبي حبسوه" للمطرب المصري محمد منير. ولصقل صوتها، قام والدها بتسجيلها في المعهد الموسيقي في مدينة فاس، حيث تعلمت العزف على "الصولفيج" والكمان. كما أنها عضوه في جمعية "بوزوبع للملحون" برئاسة فواد العامري.
وفي عامها الثامن، أنشدت القلعي أول قصيدة بعنوان "الطفولة" في المهرجان الثامن للملحون، وخلالها تم التنويه بهذه الموهبة الصاعدة ، لما تتمتع به من رخامة الصوت والإحساس القوي. ورغم صغر سنها، إلا أنها تمتلك حساً موسيقياً عالياً صقلته مشاركتها في العديد من المهرجانات والتظاهرات الفنية. وحازت الشابة المغربية على الجائزة الثالثة في مسابقة الأطفال بمهرجان الراشيدية للملحون.
وتأمل نهيلة في أن تصبح "فنانة كبيرة على صعيد العالم العربي، وسأجتهد كثيراً لتحقيق ذلك، لأكون عند حسن ظن أساتذتي، الذين يرجع لهم الفضل بعد الله سبحانه وتعالى. ولا أنسى دعم والديّ، اللذان يشجعاني على المضي قدماً في فن الملحون وكذلك عائلتي".
وبالإضافة إلى ولعها بقصائد "الملحون"، خصوصاً للمرحوم محمد بوزوبع، تعشق نهيلة القلعي الاستماع إلى أغاني عمالقة الطرب العربي مثل أم كلثوم وصباح وشيرين ووائل جسار. وتؤكّد نهيلة وعلامات الفرح بادية على وجهها الطفولي "في الموسيقى أجد ذاتي والملحون هو تراث أصيل".
ويشار إلى أنّ الحفاظ على فن الملحون رهين بتجميعه وتصنيفه وتدوين النصوص التراثية لهذا الفن المغربي الأصيل. وفي هذا الإطار، تم تأسيس الرابطة المغربية لجمعيات الملحون في مدينة مكناس، والتي تضم منشدي الملحون وشعراء وباحثين في مجال الملحون والثقافة الشعبية يمثلون حوالي 31 جمعية من مدن مغربية.
ويعتبر رئيس الرابطة نور الدين الشماس، أن "تكتل رجالات الملحون ضمن إطار واحد وكتلة واحدة كان الغاية الأسمى التي أنشأت من أجلها الرابطة". ويرى الشماس أن أهداف الرابطة تتمثل في توسيع خارطة تواجد جمعيات الملحون والعمل على استمرارية هذا التراث بإعادة النظر في اللغة الشعرية لقصائد الملحون وفي الإيقاع والتوزيع".
أرسل تعليقك