لا يختلف اثنان على أن المدرسة هي ورشة عملية لصقل مواهب الطالب وإخراج مكنوناته عبر توجيهه وتشجيعه بكل الوسائل التعليمية المتاحة التي تجعل منه كادراً من الكوادر يسهم في بناء وطنه، فضلاً عن تأثيره الإيجابي في أسرته ومجتمعه، ولكن إذا ما أجهضت هذه المواهب بسبب بعض الممارسات من قبل هيئات تدريسية من خلال التعنيف والتقزيم أو العقوبات اللفظية والجسدية التي تؤثر على إبداعه وطموحه فسرعان ما تؤول إلى إحباط قد يولد انعزاله الذي قد يودي به إلى التفكير في التملص من الدراسة، فقد حذر متخصصون وأولياء أمور من مغبة استخدام العنف بشقيه اللفظي والجسدي بحق الطلبة كوسيلة «عقابية»، مؤكدين أن تداعيات ذلك جسيمة، وقد تلازم الطالب في كل مراحل حياته سلباً، مشيرين إلى انتشار ظاهرة العنف اللفظي بحق الطلبة استغلالاً لصعوبة إثباتها وحاجتها إلى دليل مادي ملموس.
تجاوزات
وشهدت مدارس خاصة خروقات ألحقت الضرر والأذى النفسي بطلبتها، كواقعة معلمة كمّمت أحد طلابها بشريط لاصق على فمه، ما عده الميدان التربوي سلوكاً غير لائق، ولا يجوز استخدامه أداة لتقويم الطلبة أو تأهيلهم أو حتى عقابهم، واتخذت المدرسة حلاً نهائياً بإنهاء خدمات تلك المعلمة فور علمها بواقعه الإيذاء، وفي واقعه سابقة أنهت منطقة الشارقة التعليمية خدمات معلمة في مدرسة خاصة بالشارقة تتبع المنهاج الأمريكي كانت قد أجبرت طالباً في الصف الخامس على خلع «زيه المدرسي العلوي» طوال الحصة وإبقائه بلباسه الداخلي فقط، وأخرى وضعت لافتة على صدر طالب تحتوي على عبارة «عامل نظافة»، وألزمته بارتدائها لمدة يوم كامل، ما ألقى بتبعاتها على نفسية الطالب الذي رفض في اليوم التالي الحضور إلى المدرسة، وأخرى أجبرت طلابها على رفع أيديهم يوماً كاملاً في ساحة المدرسة، وقامت بتوبيخهم، وأذاعت في الطابور الصباحي أسماءهم وعدم الاقتراب منهم، فإلى متى تبقى هذه الممارسات في أروقة مدارسنا؟
ثقة الطالب
أكد الدكتور ماهر حطاب نائب مدير مدرسة المنارة الخاصة، أن العقاب النفسي يهز ثقة الطالب بنفسه، معتبراً أن هذا السلوك الخاطئ يجرد الطالب من الإنسانية، ويصيبه بالإحباط أمام زملائه إذا كان العقاب على الملأ، وينعكس ذلك على تدني التحصيل الدراسي لديه، ويؤثر سلباً على ممارسته للحياة وحقوقه اليومية، فضلاً عن مشاركته في النشاط التعليمي.
وأوضح أن العقاب هو المرحلة النهائية للسلوك الخاطئ، التي تصل إليها إدارة المدرسة، فيجب عليها في البداية الوقوف على سبب السلوك والتعرف على البيئة المحيطة بالطالب قبل عقابه، ومن ثم بحث هذه الأسباب التي أدت إلى حدوث السلوك غير اللائق من الطالب، فلا بد من الوقوف عند آليات التوجيه داخل المدرسة وتصرفات الكادر التعليمي التي قد تدفع الطالب إلى فعل شيء غير لائق، مثل «رفع صوت الطالب على المعلم»، فهو سلوك تحصيل حاصل من استفزاز المعلم للطالب بشكل خاطئ، فلا بد من إصلاح النظام.
وقال: إن المرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الخامس لا يجوز معاقبتهم عن أي سلوك خارج منهم، كونهم دون المستوى لتحمل مسؤولية تصرفاتهم، ولكن تلك المرحلة تحتاج إلى تكثيف مجهودات لإصلاح سلوكهم، ويجب أن يتحلى التربويون بمنهج صحيح في سلوكهم حتى يستطيعوا أن يبنوا جيلاً جيداً.
وتحدث عن أهمية تشجيع الطلبة وتحفيزهم وزيادة ثقتهم بأنفسهم لدفعهم للتقدم والنجاح، وهذا يستوجب على كل تربوي السعي للوصول إليه، وليس اتباع أسلوب تحقير الطالب وإهانته النفسية والبدنية.
أساليب تربوية
وقالت الدكتورة داليا حسن حلمي مشرفة تربوية في مدرسة الشارقة الدولية، إن الطلبة يواجهون جملة من المتغيرات التي باتت سمة العصر، ما يحتم على الجميع التسلح بأساليب تربوية تساعدهم على بناء الأجيال بطريقة تربوية صحيحة، فيما يبقى دور المدرسة حيوياً في استيعابها للجميع والحرص على تقويم السلوك بطرق بعيدة عن العقاب البدني الذي يضر بالطالب جسدياً ومعنوياً، متحدثة عما يعرف «بالعقاب التربوي» باعتباره فناً ومهارة يجب ألا تخرج عن الحد الذي يُفشل العملية التربوية برمتها.
ومن واقع تجربتها كمشرفة تحدثت عن آليات تعاملهم، قائلة إنهم يطبقون جملة من الأساليب التربوية التي تحقق الغاية المنشودة لمجتمع مدرسي منضبط بلا عقاب بدني، وتحول الممارسات السلوكية الخاطئة إلى سلوك إيجابي، مستعرضة جملة الخطوات المطبقة لديهم، منها: تعزيز السلوك الإيجابي باعتباره أفضل الأساليب التربوية التي تساعد المعلم في ضبط السلوكيات، علاوة على اللوم البسيط مع إشعار الطالب بالأمان وعدم الخوف، والنظرة الحادة للطالب، والتي تعكس عدم الشعور بالرضا عن بعض التصرفات التي يقوم بها، وشرح أسباب رفض مجتمع المدرسة لبعض التصرفات، والتهديد بإبلاغ ولي الأمر إذا لم يلتزم الطالب، وتسجيل بعض المخالفات طبقاً للائحة السلوك التي قد تؤثر على درجات الطالب، وإلزام مرتكب الخطأ بتحمل المسؤولية تجاه تصرفاته التي قام بها، وتكليف الطالب ببعض الواجبات الإضافية.
شخصية واثقة
ويربط الدكتور محمد جابر قاسم من كلية التربية بجامعة الإمارات، بين بناء الشخصية الإماراتية المتميزة الواثقة من نفسها، التي تعانق الفضاء، بالبيئة المدرسية السليمة التي يتم توفيرها للطلبة، والتي تحرص عليها وزارة التربية والتعليم وتعدها مرتكزاً أصيلاً في استراتيجيتها، متحدثاً عن دور المعلم في توفير بيئة من الاحترام والمودة بينه وبين طلابه، واستخدام كل الاستراتيجيات التربوية والتعليمية في تشجيع الطلبة وبناء دافعيتهم للتعلم.
ويحذّر الدكتور قاسم من تداعيات التعامل مع الطالب بأسلوب ينطوي على قسوة، كونه سيؤثر على شخصية المتعلم وقد يهدمها، خاصة إذا كان المتعلم طفلاً صغيراً غض الوجدان، فالطبيعي سيؤثر عليه أي تعدٍّ عليه بالفعل أو القول، وقد يدمر هذا التعدي شخصيته ويؤثر على تعلمه، لأنه حينها سيكون مشتت الفكر يسيطر عليه الخوف فلا يستطيع التركيز في التعلم، معتبراً المعلم المهني التربوي الحقيقي المعد إعداداً سليماً لهذه المهنة يجب أن يعي أن أي فعل أو قول أو حتى أقل الإيماءات والحركات ستؤثر سلباً أو إيجاباً في المتعلمين من كل الجوانب النفسية والتعليمية، وأهم سمة في المعلم رؤية آثار تعامله مع طلابه مستقبلاً، فلا يُقدِم على أي سلوك يؤثر على الطلبة ويضعف شخصياتهم ويؤذيهم نفسياً، ويقدم برؤية سليمة على الأعمال المحفزة والدافعة للتعلم التي تبني شخصية المتعلمين الفكرية والوجدانية والأدائية، بحيث تكون شخصية قوية تحقق طموحات الوطن التي رسمتها القيادة الرشيدة.
ظاهرة
وقالت الدكتورة رحاب الشافعي، مُدرِّسة: إن المدرسة تشكل شخصية أجيال الغد منذ نعومة أظافرهم بدءاً من مرحلة رياض الأطفال حتى الانتهاء من المرحلة الثانوية، ولكل مرحلة تعليمية بصمة في شخصية الطفل، ولكن انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة الإيذاء البدني، الذي له آثار جسيمة في هدم الشخصية وعزوف الطلاب عن المدرسة والتعليم بشكل عام.
وتابعت أنه على الرغم من وضع القوانين ومنع الضرب أو الإيذاء البدني فإن البعض يستخدم هذا الأسلوب اعتقاداً منهم أنه الأسلوب الأمثل في التربية، ويجهل عاقبة هذا الأسلوب على نفسية الطلاب، وأيضاً يستخدمه لردع بعض الطلاب عن أداء سلوكيات غير مرغوبة، وفي الجهة الأخرى نجد المعلم لا يملك المهارة لإدارة سلوك الطلاب بالطريقة المثلى، لذا وجب علينا إعداد معلمين على وعي ودراية بجوانب شخصية الطلاب وكيفية التنمية المستدامة لهذه الجوانب بطريقة إيجابية من شأنها الإسهام في التقدم العلمي والأدبي للطلاب.
وذكرت أنه يجب على أولياء الأمور التعاون مع المدرسة في إدارة سلوك أبنائهم وإيجاد الحلول والمشاركة في تنفيذها، ووضع صلاحيات للمعلم تعيد له هيبته أمام طلابه، وإعادة الأنشطة الطلابية وفرق الهوايات والمواهب والدراما الإبداعية وتنميتها لدى الطلاب وتحفيزهم على المشاركة بشكل فعّال، والاطلاع على أفضل الممارسات في إدارة المشكلات السلوكية للطلاب.
وأوضحت أنه وجب خلق آلية منظمة لتحديد أساليب العقاب، حيث إن ذلك بالفعل يسهم في تعديل السلوك أو الفعل الخاطئ بطريقة سليمة ومقننة، ولكن للأسف يسيء بعض المعلمين اختيار أسلوب العقاب المناسب للمرحلة العمرية، فالبعض يبالغ في العقاب إلى حد الإيذاء البدني أو النفسي الشديد.
وأضافت أن سوء استخدام أسلوب العقاب يؤثر سلباً على الطفل من حيث نموه كشخصية غير سوية على المدى البعيد، ويظهر هذا التأثير في عدة أعراض، من أهمها الاكتئاب والقلق والخجل والشعور بالذنب، كذلك اللجوء إلى العزلة والانسحاب، وأيضاً الخوف والعدوانية والاندفاع في اتخاذ القرارات، وينعكس ذلك على تدني المستوى الدراسي والتعليمي.
لغة الحوار
وترى الاختصاصية الاجتماعية منال محمود أن مجابهة التحديات التي تواجه الاختصاصيين في المجتمع المدرسي كالتنمّر والشغب، وعدم الامتثال للقواعد والتعليمات لا يمكن لها أن تتأتى إلا عبر التعاون وتكثيف الجهود لتوجيه الطلبة بطرق مختلفة تستند على بناء جسور من التواصل والثقة والعلاقة الطيبة معهم لضمان الوصول للأهداف المرجوة، مشيرة إلى تركيزهم على شق التوعية كجزء من الوقاية، وتنفيذ جلسات إرشاد جمعي في حال وجود بعض الظواهر السلبية، وتنفيذ محاضرات توعوية ودعوة أولياء الأمور للمشاركة، إلى جانب تفعيل الحضور الطلابي في الأنشطة والمسابقات المختلفة التي تنفذها مدرستهم للطلاب، والتي تقام على نطاق الإمارة والدولة أو خارجها، علاوة على المشاركة بمجالس الصفوف والاتحادات الطلابية، لما له من آثار إيجابية في تدعيم السلوك الإيجابي لديهم، والتعاون مع مجلس أولياء الأمور بتنفيذ برامج وقائية - إنمائية - علاجية للطلبة.
أضرار عاطفية
وأفادت أمل زيد معلمة لغة إنجليزية من مدرسة المجد النموذجية في الشارقة، بأن جميع الدراسات العالمية والمحلية أجمعت على أن تعرض الطالب منذ الطفولة إلى الإيذاء النفسي سواء من قبل الوالدين أو القائمين على تربيته له أضرار عاطفية بقدر ما يسببه الأذى الجسدي أو الجنسي وربما أكثر، مشيرة إلى أن التعامل مع الطلبة وتعوديهم على الحوار مهم للغاية، لأنه يساعد على تحديد المشكلات الكامنة التي تحفز سلوك إيذاء الآخرين، وتعلم مهارات التعامل مع الضغط العصبي بشكل أفضل، وكيفية تعزيز الصورة الذاتية وتطوير مهارات التواصل وحل المشكلات بطرق منطقية.
وشدد إبراهيم الطرطور من دائرة الخدمات الاجتماعية، على ضرورة امتلاك المعلم للإمكانات المهنية التي تجعله قادراً على الاستحواذ على اهتمام الطلبة داخل الحجرة الصفية، واكتساب محبتهم، مشيراً إلى أن كره الطالب للمعلم يؤدي إلى كره المادة الدراسية وما يتبعها من نتائج قد تؤثر على قرارات الطالب التعليمية مستقبلاً، وقال: على المعلم أن يكون بمثابة الأب الحازم الذي يعرف كيف يتصرف داخل الفصل وكيف يوجه ويعاقب بشكل تربوي، متفهماً للاختلافات والفروق الفردية بين المتعلمين، وهو في المقابل صاحب الحكمة الذي يدير دفة الحوار، فإذا أتقن إدارتها نجح وأنجح من معه، وإذا لم يمتلك الحكمة في التصرف وقع في الخطأ كالمعلمة التي تصرفت بشكل خاطئ ووضعت شريطاً لاصقاً على فم طالبة، في حين كان الأولى بها معاقبتها بشكل تربوي يحفظ كرامتها وإنسانيتها، ويؤدي الغرض، وهو عدم تكرار السلوك الخاطئ، لافتاً إلى تمسك بعض المربين بلغة العصا والصراخ، وهي أساليب خاطئة، وينبغي الاعتماد على لغة الحوار، واحترام جميع الطلبة وتقبل الاختلافات فيما بينهم.
وأكد ضرورة استثمار مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز التواصل مع ولي الأمر وإشراكه فيما يتعلق بتصرفات ابنه، وهذه نقطة مهمة للغاية.
قد يهمك أيضاَ:
اتفاقية تعاون بين «ألف للتعليم» و«غوغل» لتوفير أدوات تعليمية لـ30 ألف طالب
وزير التربية السوري يؤكد رصد 355 ألف طالب بحاجة برنامج تعليمي خاص
أرسل تعليقك