يروي العم "عبدالقادر قرط" 73 عامًا، كيف كان ينزل ليشاهد المنطقة المركزية التي تعجّ بالحجاج في مكة، ويتذكر ما كان عليه، عندما كان يحمل مكبر الصوت، ويجمع الحجاج ويصعد بهم لمنى، موضحا أن يوم التروية هو يوم مميز، فلا يوجد نوم ولا راحة. الكل يقوم على سقيا الحجاج، مؤكدًا أنه ورث مهنة الطوافة عن أبيه وجده، وورَّثها لأبنائه.
ونقل حديث الذكريات العم عبدالقادر في تصريح لـ"العربية" بقوله: "بدأت في هذه المهنة وعمري 16 عاماً، وأول سفرة لي لزيارة بلدان الحجاج وعمري 18 سنة، وكنت أسافر دعاية للحجاج ومقابلتهم، لأعرض عليهم الخدمات التي سنقدمها لهم، وكانوا يحتفلون بنا احتفالات كبيرة"، وأضاف: "لن أنسَ وصايا أبي عندما كان يؤكد لنا أن الطوافة جعلت لتكون أميناً على المال والدين، وليست تجارة، والله هو من يجزيك".
وتابع الحديث بأن والده وعمه - الذي قضى 100 عام في خدمة الحجاج وتوفي عام 1409هـ - كان عضوين في هيئة المطوفين منذ أكثر من 70 عاما، وكانت هذه الهيئة تقوم على حل مشاكل وقضايا المطوفين، وهي مكونة من هيئتين، الابتدائية: وهي التي تقوم على قضايا المواريث، وأي خفايا للمطوفين تحال عليهم، ويقوم عليها 10 مطوفين. أما الثانية فهي العليا التي تُرفع لها الأحكام التي صدرت من الهيئة الابتدائية.
وقد عُرف عبدالقادر قرط بمساعدته للحجاج وكرمه، كما كان يسلف الحجاج الذين لم تكفيهم أموالهم لإكمال حجهم، وكانوا يقومون بالسداد إذا رجعوا إلى ديارهم، واشتهر أكثر عند الحجاج التونسيين.
بداية العمل في الطوافة
ذكر عبدالقادر أنه بدأ بالعمل بالطوافة مع عمه الذي يعتبره والده، فهو الذي رباه وعلمه الشيء الكثير، الشيخ "إبراهيم سليمان قرط" كان عضو هيئة المطوفين، حينما كان للطوافة "مشيخة"، وكانت موزعة إلى أربعة مشايخ، للعرب وجاوه وجنوب آسيا وتركيا، وكان عمه شيخ المطوفين في عهد "محمد هرساني" أثناء حكم الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة.
وجاءت المؤسسات الأهلية للمطوفين، واشترك معهم كرئيس مجموعة إلى أن حلت، ثم عمل كمتعاون تنفيذي لحجاج ساحل البحر للدول العربية، أكثر من عشر سنوات "السودان والصومال وإريتيريا وجزر القمر، وجيبوتي واليمن"، والآن بعد أن كَبُر بالعمر، أصبح ابنه بديلاً عنه، فلدى عبدالقادر ولدان وثلاث بنات.، والولدان يعملان بالطوافة، وبناته يستعدون للعمل بالطوافة العام القادم.
ذكريات المشقة في الحج
وتحدث عن ذكرياته مع الحج قائلًا : "رغم التعب والمشقة فإننا لم نكن نشعر بهما، لأننا كنا نشعر بالعز والافتخار والفرحة التي تعم الحواري بمكة أيام الحج، وكانت هذه الأيام عادة ما تبدأ لدينا من رجب، لتوافد الحجاج من الهند وبنغلاش وجاوه، وكان الحجاج يجلسون من 3-4 أشهر بمكة، وفي رمضان لم نكن نغادر منازلنا، وكنا نقضيه في كتابة برقيات الحج، ومعايدة الحجاج، ونذكرهم بأنه إذا أحد من طرفهم يريد الحج، فإننا سنكون في استقبالهم، وتبلغ الجوابات التي كنا نرسلها بالبريد ما يزيد عن 4 آلاف رسالة، وخاصة أن الحجاج يفرحون عندما تأتيهم رسائل من المطوفين، وكان هذا نوعاً من التواصل بين الحجاج والمطوفين، خاصة أن هناك حجاجا يصرون على مطوف معين، لأن سمعته طيبة عند من حج سابقاً، ويبدأ الموسم الفعلي للحج من السادس من شوال، من خلال تصليح البرزة وإنزال الكراسي، ومراكي الزمزم واللمبات واليافطات".
واستطرد بقوله: "كنا في صغرنا ندور على منازل المطوفين، وكأننا في عيد ونشاهد تجهيزاتهم، وحتى الصبيان كانوا يفرحون بموسم الحج ويأتيهم – بخاشيش - من الحجاج".
مواصفات المطوف وخدماته
وأشار عبدالقادر إلى أن المطوف يكون له زي معين يعرف به، وهو لبس "المشلح"، ولا نطلب رخصة طوافة، والعامل لدينا يكتب فوق "الجبة" تابع مطوف، وهو الذي كان يتبع الحجاج ويحمل حقائبهم وأحذيتهم، وينتظر الحاج عند المسعى.
ويتابع "عبدالقادر" سرد ذكرياته: "كل صبيان والدي قد ذهبوا بخدمة الحجاج، وجاءت "بشكة" ومعناها جماعة من الحجاج فقام والدي بإرسالي مع الحجاج لأجمع "أحذيتهم" حتى لا تضيع، غير مبالٍ أن هذا ابنه، وذلك من عظمة خدمة الحجاج، وتيسير حجهم، وهذا ما تعلمناه من أهلنا وعلمناه لأبنائنا".
وزاد في حديثه: "إن كل مطوف يظهر من خلال الخدمات التي يقدمها للحجاج، ولا ينتظر ما يأتيه من مقابل مادي، وكان كل مطوف ينتظر الحجاج التابعين له حتى ينتهوا من صلاتهم، ويقوم بتطويفهم في الحرم، وكان هناك وكيل للمطوف في جدة يستقبل الحجاج، ويرسل برقيات للمطوف بساعات وصول الحجاج حتى يتم تجهيز العشاء لهم، وثاني يوم نجهز له وجبة الغداء للحاج، وقديماً لا يوجد مطابخ ولائم، بل أمهاتنا وأخواتنا هن من كن يقمن على خدمة الحجاج، وكنا نخلي غرف منزلنا ليسكن فيها الحجاج، ونجهز وجباتهم".
وذكر: "المطوف يجهز ضيافة يوم عرفة للحجاج عبارة عن الغداء، وكنا نأخذ أمهاتنا وأخواتنا إلى عرفة، ليقومن بالطبخ للحجاج هناك، ويجلسن مع نساء الحجاج، وكان الحجاج بعد أن ننزل لهم سفرة الغداء لا يرجعونها فارغة، بل يقومون بتعبئتها من مؤنتهم التي جلبوها من ديارهم، كهدايا من عندهم".
وأضاف: "لا نشعر بالتعب، وبعض الأيام ننام ساعة واحدة فقط، إلا أننا نشعر بالنشاط، وكنا نرسل مندوبا معنا بالبيرق حتى لا يضيع الحجاج، ولدينا مندوب بوزارة الحج للتائهين حتى يستلمهم ويعيدهم إلينا".
من 400 حاج إلى 7 آلاف حاج
وحول أعداد الحجاج الذين كان يتولى أمورهم المطوف ذكر العم "عبدالقادر"، كان قديما يأتيهم قرابة 400 حاج، وقد زادت الأعداد مع توفر سبل القدوم لمكة، حتى إن آخر عدد قام بخدمته 7 آلاف حاج، في حين تخدم مؤسسات الطوافة ما يقارب 300 ألف حاج.
وحول الأجرة التي كان يتقاضاها المطوف عن كل حاج قرابة 84 ريالاً، منها 50 ريالاً للمطوف، و10 ريالات للوكيل، والزمزمي 10 ريالات، الوكيل المنفذ 10 والحمالة 4 ريالات، وحاليا يتقاضى المطوف 166 ريالا، والفائض الذي كان يأتي من الحجاج ولا يعرف من اسم مطوفهم كان يتوزع المبلغ على المطوفين الفقراء، وهم الذين لا يأتيهم حجاج، وتأتيهم معونة 5 آلاف لرمضان، ومازالت تخصم من المصلحة 10 ريالات لفقراء المطوفين.
أرسل تعليقك