تتأهب السلطة الفلسطينية لخوض معركة قانونية دولية واسعة مع الاحتلال الاسرائيلي بعد أن شقت طريقا جديدا فى نضالها من أجل إنهاء الاحتلال وإعلان دولة مستقلة بقبولها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وهو الإجراء الذي أعلنته المحكمة التابعة للأمم المتحدة مؤخرا بعد أن انضمت فلسطين إلى نظام روما الأساسي لمحكمة جرائم الحرب فى وقت تتجه فيه الأوضاع فى المنطقة نحو انعطافات أكثر دراماتيكية لاسيما بعد انهيار المحادثات بين الفلسطينيين والاسرائيليين ووصولها إلى مرحلة من الشلل الكامل، وكذلك بعد الفشل في مسعى لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي فى الأراضي الفلسطينية لعام 1967 كسبيل لإعلان دولة مستقلة عشية ليلة رأس السنة في الأمم المتحدة في نيويورك.
وفى الوقت الذي تحبس فيه إسرائيل أنفاسها تحسبا لمرور 60 يوما انطلاقا من الثاني من ينايركانون الثاني الجاري وهي المهلة المحددة وفق لائحة النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
شرعت بعض المنظمات الفلسطينية فى إعداد ملفات إدانة قانونية ضد اسرائيل ستقدمها فور إعلان انضمام فلسطين رسميا إلى المحكمة الجنائية.
ووقع الرئيس الفلسطيني محمود عباس فى الحادي والثلاثين من شهر ديسمبركانون الأول الماضي ، على وثيقة للانضمام إلى 18 منظمة ومعاهدة واتفاقية دولية أبرزها المحكمة الجنائية الدولية (الميثاق الممهد لعضوية فلسطين في "ميثاق روما") فضلا عن رسالتين تحملان التزامات من قبل السلطة الفلسطينية، في خطوه من شأنها أن تمهد السبيل امام المحكمه للنظر في جرائم يتهم الفلسطينيون اسرائيل بارتكابها، لا سيما خلال العدوان الاخير علي غزة.
وأعلنت المحكمة الجنائية فى لاهاي صبيحة أمس أن السلطة الفلسطينية أودعت رسميا اعلان تقبلها لاختصاص المحكمة في التحقيق بالاحداث التي شهدتها الضفة وغزة ابتداء من تاريخ 13 يونيو الماضي.
وقد سلمت السلطة فى الثاني من يناير الجاري ممثل الامم المتحدة صكوك "قبول سلطة المحكمة الجنائية" لتستكمل إجراءات الانضمام الرسمية خلال شهرين وهو "إجراء شكلي".
ويأتي توقيع عباس علي الاتفاقيات بعد يوم من رفض مجلس الامن الدولي في 30 ديسمبركانون الأول الماضي مشروع قرار عربي لانهاء الاحتلال الإسرائيلي في غضون عامين وإقامه دولة فلسطينية. وعلى الرغم من ذلك أعلن الرئيس عباس فى الخامس من الشهر الجاري عن عزمه إعادة طرح مشروع القرار على مجلس الأمن مرة أخرى.
ويعد توقيع السلطة الفلسطينية على ميثاق روما وإيداع قبولها اختصاص المحكمة الجنائية ، قلبا للطاولة على إسرائيل وذلك بعد أن أضحت مسألة "حل الدولتين" بعيدة المنال خاصة فى ظل وجود يمينيين اسرائيليين يعارضون قيام دولة فلسطينية. وترى السلطة أن توقيع ميثاق روما مدخلا أساسيا ووحيدا لفتح تحقيقات دولية بوقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية في الدولة العضو أي دولة فلسطين.
وفور الإعلان هذا أقدمت إسرائيل على تجميد تحويل 106 ملايين يورو من الضرائب التي تمت جبايتها لصالح الفلسطينيين والتي تدفع لهم شهريا ، وهو الإجراء الذي اعتبرته السلطة الفلسطينية "جريمة حرب جديدة تنفذها سلطة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني".
وفى اثناء أصدر تكتل دولي مكون من منظمات فى أكثر من 150 بلدا تعمل في شراكة لتعزيز التعاون الدولي مع المحكمة الجنائية والتأكد من أن المحكمة تعمل بشكل عادل وفعال ومستقل ويدعى "التحالف الدولي من أجل المحكمة الجنائية الدولية" (أصدر) بيانا أمس اعتبر فيه أن انضمام فلسطين للجنائية الدولية هو إنهاء للإفلات من العقاب ومفتاح السلام الدائم في الشرق الاوسط وخطوة حاسمة نحو المساءلة عن الجرائم الخطيرة في المنطقة.وقال بيان التحالف إنه "بايداع صكوك لدى أمين عام الأمم المتحدة، للانضمام إلى معاهدة نظام روما الأساسي فان فلسطين ستصبح الدولة 123 في المحكمة الدولية الدائمة والوحيدة في العالم القادرة على محاكمة الأفراد عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية".
الطريق نحو الجنائية الدولية:
وقطع المجتمع الدولي طريقا طويلا من أجل إنشاء هذه المحكمة بدأت بمحكمة نورمبرج وطوكيو فى عامي 1945 – 1946 التي تأسست لمعاقبة الجرائم التي أتهمت بها الأطراف التي خسرت الحرب العالمية الثانية. وقامت لجنة خاصة بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقديم مسودتين لنظام المحكمة الجنائية في مطلع الخمسينيات، غير ن الحرب الباردة وقتها حالت دون تأسيس المحكمة.
إلى أن جاء 17 يوليو 1998 حيث وافقت 120 دولة في اجتماع الجمعية العمومية للامم المتحدة في ايطاليا على ما يعرف بميثاق روما واعتبرته قاعدة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة..فيما رفضت 7 دول على رأسها امريكا واسرائيل. هذا وقد تأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من يوليو 2002 بموجب ميثاق روما الذي دخل حيز التنفيذ في 11 أبريل من السنة نفسها بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه الستين دولة.
ونص البند الأول من اتفاق روما على إنشاء المحكمة وعلى أن تكون هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، فيما حدد البند الخامس من الباب الثاني لنظام روما الجرائم التى تدخل ضمن اختصاص المحكمة فى: جرائم حرب الإبادة قد عرفها ميثاق روما بأنها تعني القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة أو قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا، كما تنظر المحكمة الجرائم ضد الانسانية وهي فعل من الافعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما اذا ارتكبت بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، وايضا نص نظام روما على أن تنظر المحكمة جرائم الحرب والتى تعني كافة الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، ثم أضيفت جرائم الارهاب إلى الجرائم الدولية التى تنظرها الجنائية.
وتتنوع جرائم إسرائيل التى ارتكبتها خلال هذه الفترة الطويلة بحق الشعب الفلسطيني ، ما بين ما يمكن وصفه بجرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم العدوان وذلك وفقا لاحكام القانون الدولي.. فبدءا من مجزرة دير ياسين إلى مجزرة جنين والعدوان المتوالي على قطاع غزة ومنها ما يمكن أن يتعلق بارهاب الافراد وارهاب الدولة معا ، ومنها ما يتصل بانتهاك الاتفاقيات الدولية (تحديدا اتفاقية جنيف الرابعة) إضافة إلى خرق القرارات الدولية لاسيما وأن مجلس الامن أصدر عشرات القرارات التى أكدت ادانة دولة اسرائيل من منطلق سياساتها كقوة قائمة بالاحتلال.
وقد استطاعت اسرائيل طوال الفترة الماضية أن تتنصل من تنفيذ موجات القرارات الدولية المتلاحقة خاصة وأن مجلس الامن لم يصدرها استنادا إلى الفصل السابع (باستنثناء القرار رقم 62 الذي فرض بموجبه الهدنة بين اسرائيل والعرب 1948 – 1949 ).
وسبق أن تقدمت فلسطين فى عام 2009 بطلب انضمام لميثاق روما ، لكي تحقق المحكمة في جرائم حرب قامت إسرائيل بارتكابها أثناء حربها على غزة نهاية عام 2008، غير أن المدعي العام للمحكمة وقتها جابه هذا الطلب بالرفض.
وقال إن اختصاص المحكمة يقتصر فقط على الدول، وإن الوضع الممنوح لفلسطين في الأمم المتحدة (في ذلك الوقت) هو مركز "مراقب" ، وليس "دولة غير عضو". وقال إن المحكمة يمكن أن تنظر في المستقبل في "مزاعم الجرائم المرتكبة في فلسطين"، وذلك عند تغيّر وضع فلسطين في الأمم المتحدة.
وقد خاطبت فلسطين للمرة الأولى جمعية الدول الأعضاء فى الحكمة الجنائية الدولية (وعددها 122 دولة) فى الخامس عشر من ديسمبر الماضي، ليتحدث المراقب الدئم لدولة فلسطين رياض منصور أمام الدول الأعضاء للمحكمة بموجب البند (49) الذي يتيح للدول غير الأعضاء فى المحكمة مخاطبه جمعيتها وهو ما أعطى لفلسطين فرصة إعمال لبند بعد مراجعته مع الدائرة القانونية حيث وجد وقتها أنه ينطبق على فلسطين كدولة فى وضع "مراقب" وليست عضوا بالمحكمة. وعدد منصور الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني قائلا: "إن الشعب الفلسطيني ينظر إلى هذه المحكمة بحثا عن العدالة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل، قوة الاحتلال للأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية. فإذا لم يكن لدينا القدرة على محاكمة من يرتكب جرائم ضدنا أليست المحكمة الجنائية الدولية هي العنوان الصحيح الذي نتوجه إليه؟".
استباق إسرائيل وأميركا:
مثل توقيع الرئيس الفلسطين محمود عباس على ميثاق روما صدمة قوية ومدوية لدى إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة حيث فجرت ردود أفعال غاضبة من الطرفين، لاسيما التهديدات التى وجهتها واشنطن إلى فلسطين بعدما حذرت جينيفر بساكي المتحدثة باسم وزارة الخارجية الامريكية من اي محاولة فلسطينية في اتجاه احالة مسئولين اسرائيليين امام المحكمة الجنائية الدولية، معتبرة ان خطوات كهذه قد تكون لها "تداعيات" على المساعدة الاميركية التي تقدم للفلسطينيين.
وتزامن ذلك مع بدء حملة تهديدت أطلقتها أولى جلسات الكونجرس الأمريكي شقيه النواب والشيوخ أمس الاثنين بعد الانتخابات النصفية الأخيرة التي مني فيها الحزب الديمقراطي بهزيمة نكراء لحساب اليمين الجمهوري ، حيث صرح السيناتور ريتشارد شيلبي من ولاية ألاباما وهو رئيس لجنة الاعتمادات بتأييد رئيس الأغلبية الجديد السيناتور ميتش مكانول (جمهوري ولاية كينتاكي) والسيناتور بوب كوركر (جمهوري ولاية تينيسي) ورئيس لجنة العلاقات الخارجية السابق بوب مينانديز (ديمقراطي من ولاية نيو جيرزي) بالقول: "ان مساعي الفلسطينيين الأحادية في المنظمات الدولية ستجبرنا على إعادة مراجعة المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للفلسطينيين لتحديد ما إذا كانت تتناقض مع التعهدات الخاصة بهذا الشأن".
كما طالب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، النائب إيد رويس (جمهوري من ولاية كاليفورنيا) ونائبه في اللجنة، الديمقراطي إليوت أنجلز (الذي يعتبر من أقرب المقربين لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو) والعضو الجمهوري البارز من ولاية فلوريدا إليانا روز ليتنان ، (طالبوا) بان "يقطع الكونجرس هذه المساعدات وذلك بموجب القوانين الاميركية التي تشترط التزام الفلسطينيين بالابتعاد عن الخطوات الانفرادية غير المنسجمة مع عملية السلام".
وجاء ذلك فى وقت تلوح فيه اسرائيل بتهديدات من إنها ستشرع في مقاضاة قادة السلطة الفلسطينية فى المحاكم الأمريكية والأرووبية ، وهو ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو من أن "من يجب ن يخشي من محكمة الجنايات الدولية هو السلطه الفلسطينيه، شريكه حماس، وهي منظمه ارهابيه" .. مهددا باتخاذ تدابير مضاده .
وفى الوقت ذاته بكرت اسرائيل من معركتها القضائية مع الفلسطينيين بإعلان منظمة تدعى "سلطة القضاء - شروت هدين" الاسرائيلية أنها تقدمت أمس الاثنين بثلاث شكاوي ضد ثلاث قيادات فلسطينية امام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بتهم ارتكاب "اعمال ارهابية، والتعذيب والمس بحقوق الانسان". والقيادات الثلاث هي جبريل الرجوب نائب امين سر اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس الوزراء د.رامي الحمد الله، ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج.
وكانت شكاوى مماثلة قدمت في وقت سابق ضد الرئيس الفلسطيني عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، حول دورهم في ما وصف بجرائم الحرب والمس بحقوق الانسان.
عقبات فلسطين أمام الجنائية:
ينص البند 11 من الباب الثاني لنظام روما على أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التى ارتكبت بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة وهو ما عرف بالاختصاص الزمني فى نظام روما . ويخلق هذا النص نوعا من الغموض والضبابية عند تفسيره بالنسبة لفلسطين لاسيما فى "الأثر الرجعي" حيث إن القراءة الحرفية للنص يكتنفها نوعا من عدم الوضوح بشأن إمكانية أن يلاحق الفلسطينيون ، سلطة الاحتلال الاسرائيلي بسبب جرائم سابقة على تاريخ الانضمام وقبول "فلسطين" اختصاص المحكمة".. لكن هذا التفسير لا يترجمه فقهاء القانون الدولى وفق هذا المنظور فقط وإنما أسند فريق من الخبراء قراءة هذا النص إلى أن "الاثر الرجعي" تتحدد بتاريخ إنشاء المحكمة فى 2002 وليس بتاريخ انضمام الدولة.
كما أن انضمام فلسطين للمحكمة لا يؤدي تلقائيا (بحسب نظام روما الأساسي) إلى فتح تحقيق ، إذ يعود إلى المدعية العامة للمحكمة أن تقرر توافر الشروط التي قررها نظام روما الأساسي، للشروع في التحقيق وأن تطلب حيث يكون ذلك ضروريا إذن قضاة المحكمة الجنائية الدولية لذلك.. فالانضمام للمحكمة شيء وإقناع رئيس الادعاء بأن لديه من الأدلة ما يتيح له أن يكسب القضية شيء آخر.وفى هذا السياق يشار إلى أنه ومنذ تأسيس المحكمة لم تفتح سوى تسعة تحقيقات جميعها متعلق بأعمال قتل جماعي أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في أفريقيا.
كما أن اسرئيل ليست عضوا فى المحكمة وهو ما يمثل عقبة ثالثة أمام الفلسطينيين فى حال ما بدء التحقيق ، فمن السهل أن تطعن إسرائيل فى ولاية المحكمة الجنائية الدولية.
المصدر: أ ش أ
أرسل تعليقك