شهدت الخرطوم من 3 إلى 6 آذار /مارس الجاري اجتــمــاعات وزراء الخارجية ووزراء المياه في دول حوض النيل الشــرقي، مصر والسودان وأثيوبيا، للبــحث في أزمة سد النهضة الإثيوبي.
وفي هذا الإطار يجب التمييز بين مسارين، المسار الفني ممثلًا في اجتماعات وزراء مياه الدول الثلاث والذي يأتي اجتماعهم في الخرطوم استكمالًا للاجتماعات السابقة، بدءًا من 4 /11
/2013 في الخرطوم أيضًا، لدراسة تقرير اللجنة الدولية للخبراء بشأن سد النهضة، ومسار بحثَ سبل تنفيذ توصيات تلك اللجنة.
وتقرر أن تتصل الاجتماعات، لكنها توقفت لسبعة أشهر منذ انعقاد الجولة الثالثة خلال كانون الثاني/ يناير 2014 نتيجة فشل المفاوضات ارتباطًا برفض الجانب الأثيوبي.
وتدخّل خبراء أجانب لحل أي خلافات تطرأ خلال عمل لجنة مشكلة من خبراء محليين من الدول الثلاث يوكل إليها تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، إلى جانب رفضه مناقشة ورقة
مبادئ لتعزيز الثقة بين الدول الثلاث، قدمها الجانب المصري وتضمنت توفير أثيوبيا الضمانات لدولتي المصب بعدم تعرضهما لأي آثار سلبية نتيجة إنشاء "ســد النهضة".
وجاء انعقاد الاجتماع الوزاري الرابع خلال آب /أغسطس الماضي كأحد ثمار مشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القمة الأفريقية الرقم 23 والتي عقدت في مالابو عاصمة
غينيا الإستوائية في حزيران /يونيو الماضي، فالرئيس المصري اتفق -على هامش اجتماعات تلك القمة- مع رئيس الوزراء الأثيوبي هايلي مريام ديسالين على استئناف التفاوض، وبالتالي استؤنفت تلك الاجتماعات وتكررت حتى اجتماع الخرطوم الأخير.
واجتماع الخرطوم الأخير هو الثاني ضمن الاجتماعات الثلاثية الوزارية بمشاركة وزراء الخارجية، إذ سبقت مشاركة وزراء الخارجية في الاجتماع الثلاثي المنعقد في أديس أبابا في شباط /فبراير الماضي.
وخلال ذلك الاجتماع، وفي ضوء مشاركة وزراء الخارجية فيه، توصلت الوفود الوزارية للدول الثلاث إلى بعض التفاهمات، من بينها مواصلة الاجتماعات لمناقشة القضايا العالقة مع العمل على التوصل إلى اتفاق، لضمان الاستفادة القصوى من ذلك السد، وتقليل الآثار السلبية الناجمة عنه، ويكون المرتكز الرئيسي لذلك الاتفاق هو "إعلان مالابو".
وخلال الاجتماع الأخير، أعلنت وفود الدول الثلاث التوصل إلى وثيقة توافق، تضم مبادئ تحكم التعاون للاستفادة من مياه حوض النيل الشرقي، وأن تلك الوثيقة سترفع إلى رؤساء الدول الثلاث لاعتمادها.
وعلى الرغم من عدم توافر معلومات عن محتوى تلك الوثيقة إلا أنه يمكن توقع مدى تحقيقها المصالح المصرية في مياه النيل بتتبع مسلك الدول الثلاث خلال مفاوضاتها، التي بدأت منذ مصادقتها على تشكيل اللجنة الدولية للخبراء لدراسة آثار سد النهضة على دولتي المصب خلال تشرين الثاني /نوفمبر 2011. ولكن قبل أن نشرع في ذلك، نجد من الضروري الإشارة إلى بعض الظروف والاعتبارات التي واكبت عملية التوصل لتلك الوثيقة وساهمت في إعدادها والتي تتمثل في الآتي:
مشاركة وزراء الخارجية في أعمال اللجنة الوزارية الثلاثية وهو ما مثل دعمًا لعملية التفاوض، وفصلًا للمسار السياسي عن المسار الفني، مع الاعتبار أن تلك الخطوة تأخرت كثيرًا.
وجود نيات مصرية لاستئناف المشاركة في أنشطة مبادرة حوض النيل التي جمدت مصر المشاركة فيها منذ حزيران/ يونيو 2010 ردًا على التوقيع المنفرد لدول المنابع على الاتفاق الإطاري، أو ما يعرف باتفاقية عنتيبي، وهو ما برز من خلال تصريح وزير الموارد المائية والري المصري أخيرًا، بأن مصر ستبحث العودة للمشاركة في المبادرة، وهو ما يمثل تحولًا إيجابيًا في الموقف المصري -من وجهة نظر دول المنابع، خصوصًا أثيوبيا- على رغم عدم حل النقاط الخلافية في الاتفاق الإطاري والتي من أجلها جمّدت مصر مشاركتها في نشاطات المبادرة ستؤدي عودة مصر للمشاركة في نشاطات مبادرة حوض النيل إلى توفير المنح والتمويل اللازم لتنفيذ دراسات مشاريع الرؤية المشتركة التي قام المانحون بإيقافها لحين التوصل إلى اتفاق بين مصر ودول حوض النيل حول اتفاقية عنتيبي.
تصاعد عملية التفاهم والتنسيق على مستوى القيادات السياسية في الدول الثلاث، وهو الأمر الذي برز من خلال "إعلان مالابو" للرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي، وكذا لقاؤهما في مقر إقامة الأول على هامش اجتماعات القمة الأفريقية في أديس أبابا في أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، إذ اتفقا على تشكيل فريق عمل من الدولتين لترجمة "اتفاق مالابو" عمليًا من خلال البدء في صياغة مبادئ تلبي شواغل مصر بالنسبة إلى "سد النهضة"، إلى جانب إعلان الرئيس السوداني عمر البشير دعمه مصر في حربها ضد التطرف.
وبالعودة إلى اتفاق الخرطوم الأخير والذي لم تعلن بنوده حتى الآن انتظارًا لتوقيع رؤساء الدول الثلاث عليه، فتقديرنا أن تلك الوثيقة تتعلق فقط بالسعة التخزينية للسد والآثار البيئية الناتجة عن إنشائه، إلى جانب الفترة الزمنية التي سيتم فيها ملء خزان السد، ولا تتطرق من قريب أو بعيد إلى مواصفات إنشاء السد، إذ يرفض الأثيوبيون مناقشتها على الإطلاق.
وبدا خلال المفاوضات التي استمرت طيلة السنوات السابقة انخفاض سقف المطالب المصرية تدريجًا وبمرور الزمن، من رفض إقامة سد النهضة بمواصفاته الحالية إلى الإقرار بوجود السد كحقيقة، وهو ما نجح الأثيوبيون في تحقيقه بإدارة الأزمة من خلال استمرار الحضور الى طاولة المفاوضات مع السعي الدائم للتسويف والمماطلة لكسب الوقت لفرض أمر واقع على الأرض، مع تحجيم رد الفعل المصري تجاه مشروع السد وحصره في مفاوضات لا طائل منها ولم تنتج التزامًا أثيوبيًا تجاه مصر يحافظ لها على حقوقها في مياه النيل، مع استمرار العمل الحثيث في عملية إنشائه.
كما ساهم حدوث ثورتي 25 يناير و30 يونيو في مصر وما صاحبهما من مرور مصر بفترات انتقالية تغيرت فيها الحكومة المصرية غير مرة، ومن ضمنها قيادات وزارة الري، وبالتالي تغير المفاوض المصري مرات عدة، وهو ما استغله الأثيوبيين لإهدار المزيد من الوقت.
كما أن تفعيل ذلك الاتفاق -في حال توقيع رؤساء الدول الثلاث عليه سريعًا، وهو أمر محل شك خصوصًا من جانب أثيوبيا- يتطلب مصادقة برلمانات الدول الثلاث، وهو الأمر الذي يمكن أن يستغرق قرابة العام، ويمثل ذلك استمرارًا لسياسة إهدار الوقت التي تنتهجها أثيوبيا مع استمرار عملية إنشاء السد، حيث إنه بمرور عام آخر ستكون عملية التفاوض استمرت لخمس سنوات من دون نتيجة تذكر، كما أن ذلك سيقربنا من العام 2017 الموعد الذي حددته أثيوبيا لإنهاء تنفيذ السد.
أرسل تعليقك