مشهد يتصدره أحد الحراس حاملًا بندقيته على كتفه، بينما ذهب الأخرون إلى العمل على ظهر أحد الشاحنات، فيما يبقى صوت الضجيج في الخلفية، الى أن يصلوا إلى الطريق الدولي السريع لينتقلوا مرة أخرى إلى إحدى السيارات المصطفة في مدينة "بانيبات"، والتي تبعد حوالي ثلاث ساعات عن العاصمة الهندية دلهي.
العبس يهيمن على وجوه السائقين رغم أنهم اعتادوا على تلك المشاهد، والتي يتم قطع الطريق عليهم قبل الوصول إلى ولاية "هاريانا"، حيث يقوم مجموعة من الرجال بتفتيش مركباتهم ... إنهم حراس الهندوسية، لا يفتشون عن المخدرات أو الأسلحة، وإنما يبحثون عن الأبقار.
تقارير عديدة تأتي من مختلف أنحاء الهند، يدور أغلبها حول أحداث العنف بسبب عصابات، يطلق عليها "راكشا جاو"، حيث يصل عدد أعضائها إلى الألاف ينظمون الدوريات على الطرق السريعة والريفية لتفتيش السيارت بحثا عن الأبقار التي يتم تهريبها إلى بنغلاديش أو عدد قليل من الولايات الهندية التي تسمح بذبحها.
في حين أن وسائل الإعلام الهندية تزخر بالقصص التي تدور حول الانتهاكات التي ترتكبها تلك العصابات، والتي يطلق عليها اسم "حراس البقر"، من قتل واغتصاب وتعذيب منذ سبتمبر/ايلول 2015، عندما قتل قروي مسلم يعيش في إحدى ضواحي العاصمة الهندية على يد جماعة من الغوغاء، حيث اتهموه بتخزين لحوم بقرية في ثلاجته.
إلا أن صدى تلك الانتهاكات لا يقتصر على الداخل الهندي، ولكنه امتد إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث كان العنف سببًا في إدانات دولية وصلت إلى ذروتها في يوليو/تموز الماضي، عندما نشرت مقاطع فيديو لجلد أربعة شبان، من قبل من نصبوا أنفسهم كـ"حماة البقر"، حيث كانوا مكلفين بالتخلص من بقايا الأبقار الميتة.
يقول يوجاريا اريا، رئيس أحد أكبر شبكات القصاص للبقر، إنه ينبغي أن يتم النظر إلى الأمر في صورته الكاملة، موضحا أن اعتقادًا سائدًا في ولاية هاريانا يقوم على الحفاظ على البلاد يكمن في الحفاظ على البقر.
جماعة اريا، التي تعد أحد فروع "راكشا جاو" في ولاية هاريا، أتُهمت بممارسة العديد من الانتهاكات، حيث قام عدد من أعضائها بتصوير أنفسهم بينما كانوا يجبرون إثنين من مهربي البقر على تناول روث البقر مختلطا بالبول والحليب، إلا أن اريا يبقى مصر على نقاء أهداف التنظيم الذي يعمل معه.
ولكي يثبت نقاء رسالته، تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية إنه وافق على اصطحاب محرريها معه بينما كانوا يذهبون في إحدى الدوريات، ربما ليقدم فرصة نادرة لمشاهدة عالم المتطرفين الهندوس عن قرب، حيث يستخدم الرجال أسلحتهم، والشباب قد يواجهون الموت من أجل حماية البقرة الأم. ويقول إنه "عندما نخرج ليلا يجب أن نحتفظ بسلاحنا، حيث أننا نطلق النار على المهربين، وهم يتبادلون ذلك معنا، فقد فقدنا خمسة متطوعين بسبب هذا الأمر." وفي حوالي العاشرة مساءً، خارج إحدى المدارس في بانيبات، كان شابٌ، يدعى سرديب منتظرا، تحت لافتة مكتوب عليها "هؤلاء هم الذين يحبون البقر".
في صباح ذلك اليوم، كان هذا الشاب قد تمكن من الإمساك بثلاثة مهربين منقذا ثلاثة عشر ثورًا من المسلخ، وهو الأمر الذي جعله يشعر بالفخر والسعادة. يقول "لم أكن أشعر بأي قدر من الخوف لأني قد دعوت البقرة والدتي... فلماذا أخاف إذا؟"
مبنى تلك المدرسة يبدو متعدد المهمات، فهو مدرسة في الصباح، ومقرا لدوريات حماة البقر في الليل، بينما يزخر مكتب مديرها بصور قديسي الديانة الهندوسية، ورجال الدين، بينما كان واضحا أن هناك صورتان حديثتان.
في أحد الليالي، كانت دورية في المنطقة تطارد مهربي الأبقار في شهر مايو/ايار 2013، وتمكنت من قتلهم وتصوير لقطات من ذلك المشهد، لتوضع تلك الصور داخل المكتب المدرسي.
في الخارج، كانت هناك قافلة مكونة من حوالي ثلاثين رجلا من حراس البقر، كانوا يستعدون للمغادرة في دورية مسائية، حيث كانوا قد تلقوا معلومات حول أن هناك عملية تهريب جارية. معظم الهندوس يقدسون البقرة، حيث يشعرون أنها حيوان عريق، يمنح الغذاء للإنسان بدون انانية، كما أنها تمثل تجسيدا لمبدأ اللاعنف الذي أرسته الديانة الهندوسية، غير أن حالة الحماس الزائدة لدى تلك الجماعات لإنقاذ البقر، تبدو حالة مستحدثة.
ولعل المفارقة الغريبة أن الهندوس في ولاية "كيرالا" و"تاميل نادو" يأكلون لحوم البقر باعتبارها مصدرا رخيصا للبروتين، كما أن الهند تعد أكبر مصدر للحوم البقر في العالم، وذلك على الرغم من أن المصدر الذي تعتمد عليه بالأكثر في التصدير هو لحم الجاموس.
ويقول المفكر الهندي نيرا شاندوك إن الجماعات الداعية لحماية الأبقار بالعنف تبدو جديدة إلى حد كبير حيث أنها لم تظهر إلا مع القرن الماضي، حيث بدأت مع الاستعمار البريطاني، عندما أراد الهندوس حماية دينهم وثقافتهم عن أعين الاستعمار الأجنبي، ولكنهم الان أصبحوا يستهدفون المجتمع المسلم في الداخل الهندي.
عندما دقت الحادية عشرة مساء خرجنا في قافلة، يجلس في مقدمتها السيد يوجندرا، والذي يبلغ من العمر 35 عاما، حيث يقول موجها حديثه لنا من المقعد الأمامي "في معتقداتنا نقول ان البقرة هي أم العالم كله. كل ولاية وكل قرية هنا تؤمن بذلك." وأضاف أنه اقتنع بفكرة الالتحاق بالجماعات المقاتلة ضد تهريب البقر قبل 14 عاما، حيث يرجع الفضل في ذلك إلى معلمه، والذي يرأس بدوره قوة أهلية قوامها خمسة ألاف شخص. وتابع "كل هؤلاء الرجال يعملون كعمال بالأجر اليومي وقد عانوا كثيرا من جراء النمو الاقتصادي غير العادل الذي تشهده البلاد."
وبعدها قام بتشغيل مقطع فيديو عبر هاتفه المحمول، حيث ظهر فيه مشهد لبقرة تم ذبحها على يد جزار، وكانت في النزع الأخير، ومقطع أخر لمجموعة من الأرانب الحية التي يقوم جزار أخر بتقطيعها إربا، حيث يقول أن تلك المقاطع تستخدم بصورة كبيرة لتحفيز الشباب للانضمام إليهم.
ويقول "هذه المقاطع لها دور كبير في تحفيز الشباب، فنحن نريهم كيف يقوم هؤلاء بتعذيب البقرة، والتي ننظر إليها باعتبارها أمنا. هذا الأمر يترك تأثيرًا عاطفيا كبيرا عليهم، يدفعهم للقيام بدور فعال لمنع تلك الممارسات المسيئة."
المهربون بدورهم يحاولون مقاومتهم، بحسب القائد الهندوسي، فيستخدمون أحيانا الحجارة أو الرمل أو مساحيق الفلفل الحار، بينما يقوم بعضهم بحمل السلاح، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى مقتل خمسة من المتطوعين لدى جماعته. وأضاف أن عائلات المتطوعين معه غالبا ما يشعرون بالخوف على أبنائهم، ويطالبونهم بترك الجماعة، إلا أن الشباب يرفض الاستجابة لذلك، حيث يطلبون من أسرهم الوقوف إلى جوارهم ودعم قضيتهم.
وأضاف القائد الهندوسي أن الشرطة، والتي يدين رجالها بنفس الدين وربما يؤمنون بنفس المعتقدات، لا تقدم لهم أي دعم في القيام بمهتهم المقدسة، موضحا أنه الأمر يبدو معاكسا تماما لذلك، حيث تعرض عدد من أفراد جماعته للضرب والتعذيب من قبل رجال الشرطة.
ولكن بالرغم من ذلك تبقى حماية الأبقار أولوية قصوى لدى الحكومة الهندية برئاسة ناريندرا مودي، والذي تم انتخابه في عام 2014، حيث وعد بإنهاء ما يسمى بالثورة الوردية في الهند. مودي ينظر إلى تلك الجماعات باعتبارها مهيجة للرأي العام وينبغي التخلص منها، ولكن حكومته زاخرة بوجود قومي هندوسي متحمس يقدم الدعم لتلك الجماعات من الخلف.
تقول "الغارديان" إن هناك مطالبات كبيرة من قبل النشطاء في الهند للتعامل مع البقرة باعتبارها الحيوان الوطني للبلاد، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة وضع الأبقار في ملاجيء مخصصة لها لحمايتها. وبعد الوصول إلى مكان الدورية، كان الهدوء سائدا إلى حد كبير، حيث وقف أفراد الجماعة يلعبون بأجهزتهم المحمولة، إلى أن جاءت شاحنة تحمل بقرة مقيدة حيث قاموا بمحاصرتها، وتوقيف سائق الشاحنة إلا أن ما أنقذه على ما يبدو هو أنه يحمل أوراقًا تثبت قانونية نقله للبقرة، فلم يكن أمامه سوى أن يتركوه في النهاية.
وفي نهاية الليلة كان علينا الرحيل، ولكن هذا لن يحدث سوى بعد ممارسة الطقوس التي ينبغي أن يقوموا بها أولا، حيث يحتشد كل أفراد الدورية أمام يوجاندرا، والذي يلقي خطبة قصيرة أمامهم، ثم يختفي أحد الرجال في أحد المزارع القريبة ليأتي ومعه أكواب الحليب الى جميع المتواجدين.
أرسل تعليقك