في حين حقّقت الجمعيات النسوية في لبنان، على مدار عقود، إنجازات عديدة استطاعت خلالها إلغاء أو تعديل مواد مجحفة (في القانون اللبناني) بحقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة اللبنانية بشكل خاص، والوصول إلى إقرار قوانين إصلاحية عديدة كقانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأُسري (سنة 2014)، لا تزال المسيرة النضالية لهذه الجمعيات مستمرة لاستكمال إصلاحات ضرورية؛ أبرزها العمل على حملة لإقرار قانون يمنع تزويج القاصرات (دون سن 18 عاماً)، وإلغاء وتعديل المواد «505» و«518» و«519» (من قانون العقوبات) التي تتيح إعفاء مغتصب فتاة سنها بين 15 و18 عاماً من العقوبة، في حال تزوج ضحيّته.
وشكّلت قضية النضال لإقرار قانون في المجلس النيابي اللبناني يُجرّم «تزويج الطفلات» موضوع حلقة نقاش ضمن طاولة حوار نظّمتها «الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المرأة» بالشراكة مع منظّمة «المساواة الآن الدّوليّة»، يوم الجمعة في أوتيل بادوفا في سن الفيل (بيروت)، في إطار مسعى الجمعيات النسائية في لبنان لإلغاء الغبن الذي ما زال يلحق بالمرأة اللبنانية في مواد قانونية عديدة، وضمن الحملة لمنع تزويج الطفلات. وقد أشار القيّمون على اللقاء إلى أنّه بدا لهم، بعد لقاءات مع أعضاء في المجلس النيابي اللبناني الحالي (المُنتخب في مايو/ أيار 2022)، أنّ هذا المجلس أكثر استعداداً من المجلس السابق للتجاوب مع قضايا حقوق المرأة وبالتالي العمل على إقرار قانون منع تزويج الطفلات، مطالبين المجلس الجديد بالتحرك في هذا الإطار.
والحملة؛ وفق منظمي اللقاء، جزء من حملة إقليمية لمنع تزويج الطفلات (أو القاصرات). فهي ليست فقط في لبنان؛ إنما هي حملة عالمية بعنوان: «فتيات لا عرائس» هم جزء منها. وجزء من حملة إقليمية اسمها «ائتلاف حرة الإقليمي» الذي يضمّ، إلى جانب لبنان، دولاً عديدة مثل الأردن وفلسطين ومصر والمغرب وتونس.
تحدّثت السيدة لورا صفير، رئيسة «الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة»، عن الأسباب العديدة لظاهرة تزويج الطفلات: «أسبابها اقتصادية مرتبطة بالفقر، وسعي عائلات للتخفيف من ضغط الإنفاق. ولها أسباب اجتماعية ثقافية، موروثات وتقاليد مرتبطة بالمجتمع... رغبة بعض الفتيات في الاستقلال عن الأسرة، لا سيما في حالات التعرض للعنف والمضايقات. وعدم توفر فرص التعليم الملائم، أو الحرمان من التعليم».
وتقول صفير إنّ «نتائج التزويج المبكر عواقبه وخيمة. أولاً يحرم الفتيات من التعليم، ويزيد خطر تعرضهنّ لأشكال إضافية من العنف القائم على النوع الاجتماعي؛ لأنّ الفتاة إذا تزوّجت باكراً تكون بلا حماية ونضوج للدفاع عن نفسها. وهناك نتائج على المستوى الصحي (على الأم والأطفال)، إضافة إلى عواقب خطيرة على الناحيتين الجنسية والإنجابية بالنسبة للفتيات...».
وتضيف أنّ هناك «خطراً على حياة المرأة الصغيرة، وكذلك ينعكس هذا الزواج عواقب نفسية على الفتاة. هذا التزويج المبكر أيضاً له عواقب على الاقتصاد، بما أنّ المرأة التي تتزوج باكراً عادة تُحرم من التعليم، فيما تشكّل المرأة نصف المجتمع، وهذا مما سيحرمها من فرص العمل... فيُحرم المجتمع من طاقات تعليمية مثقفة، ومن طاقات اقتصادية؛ لأنّ المرأة بهذه الحالة لا تكون فاعلة في المجتمع».
بدورها؛ تشرح السيدة غنوة شندر - منسقة «الحملة الوطنية والإقليمية لمناهضة تزويج القاصرات» ومديرة منظمة «Women Alive» - أنّ حملة مناهضة تزويج الطفلات تعمل مع منظمة «المساواة الآن الدولية»، و«هم شركاؤنا في هذا اللقاء تحديداً. بدأنا معهم نشاطاتنا في عام 2008، وهم منظمة دولية يُعنون بقضايا الأسرة، والقوانين الأسرية على وجه التحديد».
وتشدّد على أهميّة العمل لإلغاء ما تبقّى من مواد مجحفة بحق المرأة في القوانين اللبنانية: «نناضل لإلغاء المواد (505) و(518) و(519) (من قانون العقوبات)؛ لأنّ هذه المواد تتيح إلى حد الآن إعفاء مغتصب فتاة سنها بين 15 و18 عاماً، من العقوبة في حال تزوّجها هذا المغتصب. نحن في هذه الحالة أمام جُرمين: جُرم الاغتصاب، وجُرم تزويج الطفلات».
وعن مساعي العمل لإلغاء هذه المواد الجائرة، تقول شندر: «منذ عام 2018 ونحن ننادي بإلغاء هذه المواد، أو في الأقل تعديلها. وفي عام 2020 وضعنا في (الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة) مقترح قانون لحماية الطفلات من التزويج المبكر. ومذاك نكثّف لقاءاتنا مع شركائنا من جمعيات ومنظمات وإعلاميين وجامعات وسياسيين؛ أي الشركاء وأصحاب القرار، القادرين على مناصرتنا في هذا الموضوع. حصلنا (في المجلس النيابي السابق) على مناصرة قانونية مع لجنة حقوق الإنسان النيابية مع الدكتور ميشال موسى. وسنة 2021، كانت لجنة حقوق الانسان (في المجلس النيابي السابق) داعمة لنا بمقترح القانون الذي تقدمنا به، والتقينا أيضاً مع عدد من النواب من كتل مختلفة...».
وأضافت: «التقينا مع نواب من (حزب القوات اللبنانية) و(الكتائب) و(التيار الوطني الحر)، وعدد من الكتل الأخرى، وعدد من النواب (التغييريين). وتعويلنا اليوم، بشكل خاص، على النواب التغييريين والمستقلين (لأنّنا انتخبناهم وهم يشبهوننا بأفكارنا».
وتعمل الحملة، وفق شندر، بموازاة المناصرة القانونية، على المناصرة الاجتماعية للطفلات ضحايا التزويج المبكر. تقول: «نقوم بدورات تدريبية. نعمل جلسات توعية تستهدف كل فئات المجتمع بشكل عام. وندخل اليوم على المدارس والجامعات (لأنّه يهمّنا كثيراً توعية الطلاب والطالبات على مخاطر التزويج المبكر. أجرينا جلسات توعية في المناطق المهمّشة حيث النساء والفتيات على وجه الخصوص بحاجة للتوعية حول هذه الظاهرة».
وتؤمّن «الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة» مراكز مفتوحة بشكل دائم (لمساعدة الضحايا)؛ أي خدمة «المساحات الآمنة»، وخدمة «الخط الآمن»، حيث تتلقى الهيئة كل الشكاوى والحالات المتعلّقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل عام، وتحديداً حالات تزويج طفلات. وتؤمّن لهنّ الدعم القانوني والاجتماعي والنفسي الذي يجب أن يؤمّن.وتشير شندر إلى «تنظيم حوار مع رجال دين مسلمين ومسيحيين. فكان بعض رجال الدين متجاوبين معنا إلى حد ما، والبعض لم يتجاوب حتى الآن».
ويشرح الأستاذ أمين بشير، أحد محامي «الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة»، الذين ساهموا في مقترح قانون منع تزويج القاصرات، خلفيات القانون ومضمونه: «(مشروع قانون تزويج القاصرات) موجود في البرلمان اللبناني، وانطلقنا من الدستور اللبناني، ومن (المادة التاسعة) تحديداً، التي يفسرها كلٌّ حسب ما يريد، وطالبنا المجلس النيابي بأن يفسر هذه المادة نظراً إلى أهميتها. وهذه المادة باختصار تعطي الحرية المطلقة للطوائف والملل في لبنان للعمل بتشريعاتهم للأحوال الشخصية. ولكنّهم لا يقرأون الجملة القائلة في هذه المادة: (على ألا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام). ولأنّ كثيرين لا يفسرون معنى (النظام العام)، لذلك اعتمدنا في دراستنا القانونية على تفسير النظام أو الانتظام العام، أنه مجموعة القواعد التي تحكم أي علاقة انتظامية للمجتمع. أي إنّه من المفترض أن تكون في هذا المجتمع المؤلف من 18 طائفة وفيه 15 قانون أحوال شخصية، قواعد تنظّم العلاقات بين الطوائف، وإلا تتصادم الطوائف في ما بينها. فكيف يمكنك أن توحّد كلّ هذه الطوائف ولكل طائفة قانونها الخاص»؟
ويكمل قائلاً: «فعلياً؛ النظام العام هو الذي يمنع أي طائفة من تشريع أي شيء تراه مناسباً قد لا يتوافق مع الانتظام العام. قواعد الانتظام العام هي القواعد العامة لحماية حقوق الإنسان؛ أي الحق في الحياة، الحق بالحرية، الحق بالصحة، والحق في الطبابة. مجموعة الحقوق هذه، هي التي تكوّن الانتظام العام. هذه الحقوق في وطن أو مجتمع مثل لبنان، نراهم ينتهكونها كل يوم، وبالتالي هنا ضرورة تدخّل المشرّع ووجوب تدخّله، لوضع قاعدة تمنع انتهاك هذه الحقوق».
ويقول المحامي أمين بشير إنّ «الحملة تسعى لإضافة مادة إلى القانون، تشير إلى أنه حتى في حال وجود استثناء على تزويج الطفلات أو في أي حالة تزويج كهذه تحدث، بأنّ هناك أحداً يريد الزواج من قاصر، يكون على هذا الشخص وجوب أخذ الإذن من قاضي الأحداث (قاض ضمن هيكلية القضاء اللبناني)».
ويشرح بشير الدور المطلوب من هذا القاضي في مسألة تزويج الطفلات: «لهذا القاضي صلاحياته، ومهامه بالقانون اللبناني، وبالتالي لسنا مضطرين إلى أن نخترع مكاناً، أو نزيد تكلفة على الدولة مثلما يتحجّج معارضون لإقرار هذا القانون. ولا نُضطر أيضاً لإجراء تغيير بالهيكلية القضائية الموجودة بلبنان... سنزيد مهمة على مهمة قاضي الأحداث، هي أنّه في حال وجود حالة استثنائية لزواج قاصر، يقدّمون طلباً للسماح بتزويجها، وهنا قاضي الأحداث لديه الصلاحية أن يمنح الإذن بتزويج القاصر أو رفض ذلك... وهذا ما يعطيه أيضاً (الوهرة والرهبة) أمام أي متقاض؛ لأنه قاض جزائي لديه صلاحيات. وبالتالي إذا كان أي شخص مرتكب لجريمة اغتصاب او تحرش أو ترغيب أو ترهيب، يريد الزواج من قاصر، فستأتي هذه الحالة أمام قاضي الأحداث، وهو يستطيع اكتشاف الجريمة، ويعرف أنّ هذه القاصر هي مُعنَّفة أو مُغتصبة، أو تعرّضت لترهيب أو ترغيب لتقول إنّها تريد الزواج».
فمكانة قاضي الأحداث، وفق بشير، مهمة جداً، «وقد أعطيناه (في المقترح القانوني) الأدوات ليعلم وضع الفتاة، كإمكانية طلبه (الخبرة النفسية) حتى يعرف الوضع النفسي للفتاة إذا كان طبيعياً أم مجبرة على الزواج... أو يطلب أيضاً الخبرة (الفنية الصحية) ليعلم ما إذا كانت الفتاة تعرّضت لأي اعتداء جنسي...»، مضيفاً: «لدى هذا القاضي بالتالي الصلاحيات لإيقاف المتّهم والتحقيق في هذه الجريمة. هي سياسة وقائية لردع المرتكب عن الزواج من القاصر... إذ سيخاف من كشف أمره أمام قاضي الأحداث وبالتالي معاقبته».
وقد أشارت النتائج الميدانية لدراسة بحثية عن «الزواج المبكر» في لبنان، أجرتها كلّ من «جمعية مساواة وردة بطرس للعمل النسائي»، و«جمعية لجنة حقوق المرأة اللبنانية» في شباط 2020، شملت 300 حالة من حالات التزويج المبكر، من خلال استبيان يشتمل على 60 سؤالاً، إضافة إلى لقاءات وجلسات متابعة، إلى أنّ «منطقة الهرمل تحتل المرتبة الأولى بنسبة 16 في المائة في نسبة تزويج طفلات، والفتيات في غالبيتهنّ دون 15 عاماً، فيما منطقة عكار في المرتبة الثانية بنسبة 14 في المائة بعمر 16 عاماً فما دون. كما يسجّل أيضاً نسبة 13 في المائة من هذه الزيجات في كلّ من مناطق صور وبعض أحياء طرابلس والميناء وأحزمة البؤس في كلّ من بيوت التنك في الميناء (بطرابلس) والأحياء الفقيرة، فيما وصلت النسبة إلى 10 في المائة بمحافظتي البقاع والجنوب».
وأظهرت الدراسة نفسها، في ما خصّ مستوى تعليم المتزوجات الطفلات، أنّ نسبة 14.7 في المائة منهنّ من الأميّات، واللاتي حصلن على تعليم ابتدائي نسبتهنّ 27.3 في المائة من الحالات، والإعدادي - متوسط - تكميلي بلغت نسبتهنّ 38 في المائة، مروراً بالثانوي بـ18 في المائة، فالجامعي وما فوق باثنين في المائة.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك