تعاني العلاقات الروسية الغربية من توتر واضح مؤخرًا، ما جعل روسيا تنشر مئات الدبابات والمدرعات بالقرب من جسر الصداقة في منطقة البلطيق، والذي شهد في الماضي اندلاع توترات عالمية مخيفة بين روسيا والغرب، فيما تقع مدينة سانت بطرسبرغ على بعد نحو 100 ميل إلى شمال الجسر، وهي المدينة التي ترمز إلى التوسع القيصري.
وتعد قاعدة السلطة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس المخابرات السوفيتية السابقة، والذي أحدث نوعًا من القلق في أوروبا والشرق الأوسط، إلى غرب الجسر بنحو 100 ميل تقع قاعدة "تابا" البريطانية العسكرية، حيث سيتم نشر 800 جندي بريطاني، وطائرات من دون طيار، وأسلحة ثقيلة العام المقبل، لإظهار عزم حلف الناتو على حماية دول البلطيق من روسيا، وتُرسل دول أخرى من حلف الناتو قواتها كجزء من أكبر الحشود العسكرية على حدود روسيا، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة السابقة، ومن جانبها نقلت روسيا صواريخ نووية إلى كالينينغراد بين ليتوانيا وبولندا.
وأكد رجل الأعمال ديمتري، الذي اصطف لعدة ساعات على الجسر للوصول إلى شقته، لقضاء العطلة في إستونيا "في كل مرة أعبر من هنا أظن أنها ستكون المرة الأخيرة حيث يتحدث الناس عن حرب عالمية ثالثة، هذا هو خط المواجهة بين الشرق والغرب، أشعر بالقلق تجاه ما يمكن أن يحدث"، فيما اعترفت الفنانة غالينا نيكولايفا التي عادت إلى إستونيا من البلدة الحدودية الروسية آيفانغورود أن الأجواء مرهقة للأعصاب، مضيفة "لا أعتقد أنه سيكون هناك حرب عالمية ثالثة"، ويؤمل ذلك بعد استيلاء بوتين وزملاؤه في الكرملين على شريحة من أوكرانيا، وقصف إحدى المدن السورية القديمة، فضلًا عن تنفيذ هجمات إلكترونية على دول البلطيق مع التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وذكرت الروسية كريستي كالجوليد عند زيارتها لإستونيا الجمعة، قائلة "روسيا دولة عدوانية لا تعترف بالاتفاقات الرسمية، وتسببت في كارثة إنسانية في سورية، وترفض الاعتراف باتفاقية مينسك في أوكرانيا"، موضحة أن بلادها ممتنة لحلفاء الناتو مثل بريطانيا لقدومهم لحمايتهم، وأضافت كريستي "نحن نحتاج إلى التهدئة وليس إلى الإنذار، هذه دولة صغيرة وعانت معظم عائلاتها من قصص وحشية مرتبطة بالاتحاد السوفيتي السابق". وأوضح أحد السياسيين في إستونيا، قائلًا "الخوف من روسيا مر للإستونيين في حليب أمهاتهم"، فيما أشار أحد السكان المحليين إلى أن روسيا أعطتهم شيئين في التاريخ هما سوء الأحوال الجوية والجوع.
وحذرت دول البلطيق كثيرًا الغرب ليتخذوا حذرهم من روسيا، إلا أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قبل 4 أعوام سخر من منافسه في الانتخابات الرئاسية "ميت رومني" بعد قوله أن موسكو هي العدو الرئيسي، زاعمًا أن الحرب الباردة انتهت منذ 20 عامًا، لكن الزمن تغير وأرسل حلف شمال الناتو 4 آلاف جنديًا مدججين بالسلاح إلى المنطقة كقوة لدرع 330 ألف من القوات الروسية القابعة على الجانب الأخر من نهر نارفا، في محاولة لتذكير بوتين باتفاق الناتو للدفاع عن أي عضو من الأعضاء عند تعرضه للهجوم.
وأوضح جوري لويك وزير الدفاع السابق ومدير المركز الدولي للدفاع والأمن في إستونيا، "روسيا تلعب لعبة خطرة جدًا مع أوروبا باستخدام أدوات عسكرية، ولذلك يجب أن يكون حلف الناتو واضحًا في تصرفاته".
ولا تتمثل خطورة هذه التصعيدات في ارتكاب بوتين تصرفًا خاطئًا فقط ولكن ارتكاب خطأ ربما يساء تفسيره من جانب دولة مسلحة نوويًا مع عواقب وخيمة، وتحلق طائرات موسكو فوق سفن حلف الناتو، وتؤدي العاب محاكاة للهجوم على دول البلطيق، وتختبر غواصاتها الدفاعات البحرية، ويهاجم القراصنة الروس الأمن الإلكتروني الغربي، وكانت إستونيا الهدف لأول هجوم حرب إلكترونية عام 2007، حيث تضررت مواقع أثناء خلاف مع روسيا بشأن نصب تذكاري للحرب. وحذّر بوتين من أنه سيسقط طائرات حلف الناتو إذا حاولت وقف المذبحة السورية في حلب، ويعتقد مكتب التحقيقات الفيدرالية أن روسيا تتدخل في الانتخابات الأميركية من خلال تسريب رسائل البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي، لإحراج هيلاري كلينتون.
وتضخ روسيا المزيد من الأموال في جيشها وطورت آلية دعاية قوية، والتي حذّرت دومًا من العدوان الغربي، وفي وقت سابق من هذا الشهر، وضع 40 مليون مدنيًا في تدريبات الدفاع المدني، استعدادًا لوقوع هجوم نووي، ومولت روسيا الأحزاب الشعبية مثل حزب الجبهة الوطنية الفرنسية اليميني، وأتاحت منصة للسياسيين الغربيين المثيرين للمشاكل، واتُهمت أيضا بنشر الأكاذيب بشأن قضايا مثل الهجرة لإثارة السخط العام، وفي مدينة نارفا الإستونية تعد الغالبية العظمى من المواطنين من أصل روسي حيث يشكلون ربع سكان إستونيا، ويشاهد العديد منهم التليفزيون الروسي، ويطالع المواقع الروسية ويُعجب بمواقف بوتين ما يثير مخاوف بشأن احتمالية إثارة ثورة، كما حدث في شبه جزيرة الكرم وأوكرانيا.
وشدّد سيرغي ستيبانوف، رئيس التحرير السابق لصحيفة محلية، على أن "الناس هنا يحبون بوتين ويدعمونه، ولكن هذا في روسيا وليس في نارفا، يمكننا عبور النهر ورؤية روسيا الحقيقية مع معاشاتها المنخفضة والغذاء باهظ الثمن، وسوء الخيارات في المحلات التجارية"، مشيرًا إلى أن روسيا تخوض حرب باردة افتراضية باستخدام وسائل الإعلام الحديثة للتلاعب بالرأي، وساهم ستيبانوف في إنشاء محطة تليفزيونية منافسه في إستونيا باللغة الروسية، على الرغم من حصوله على جزء من الأموال الضخمة التي تنفقها من قبل موسكو، والمقلق اليوم ليس فقط رسالة بوتين بشأن انعدام الأمن الروسي المحتمل في مواجهة العدوان الغربي، والذي يشكل الآراء في المنازل، ولكن تأثير ذلك على الخارج أيضا، ويتضح ذلك من خلال إلقاء نظرة على من وصفهم بوتين بـ "البلهاء المفيدون" ممثلين في نايجل فراج، ودونالد ترامب إلى اليمين، وجورج غالاوي، وجيرمي كوربين، والطبيب سيوماس ميلن إلى اليسار.
ويرى آخرون أن روسيا منغمسة في القتال غير الضار في ظل خروجها لتأجيج المذابح في سورية، ومن خلال مشاهدة تطور الأحداث في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، يمكن ملاحظة كيف سقط العديد من الغربيين في كذبة بوتين عند أول ضم لجزء من الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية بمهارات عالية، وقبلوا مطالب الأوكرانيين بالديمقراطية والتي استفزت موسكو، ثم غزا الرجال الخضر القرم وليس القوات الخاصة الروسية، وتبعه إجراء استفتاء تحت تهديد السلاح، وبعد 4 أشهر شاهدنا الجثث تملأ الحقول في شرق أوكرانيا، بعد إطلاق النار على طائرة مدنية بواسطة حلفاء بوتين، فيما رقدت جثث رجال ونساء وأطفال أبرياء في الشمس، بينما يتجول حولها المتمردون الموالون لروسيا لنهب الأمتعة.
واتهمت وسائل الإعلام في موسكو "كييف" ثم وكالة المخابرات المركزية المتمردين الموالين لبوتين، باستخدام صواريخ أرض جو روسية، وتبين أن الأسلحة عبرت الحدود في صباح اليوم نفسه على قاذفة، والأن يزيد بوتين من معاناة حلب باستخدام القنابل والأسلحة العنقودية الخارجية، التي تمتص الأكسجين من الهواء وتخلق انفجارات هائلة، حتى أنه يتجاهل جهاديي داعش، ويستهدف المستشفيات ورجال الإنقاذ أصحاب الخوذات البيضاء، ويمكن وراء كل هذه التكتيكات المجربة جيدًا روسيا ودورها كمُنقذ، فيما يعدّ بوتين الرجل الذي دمّر الشيشان تحت ستار مهاجمة الجهادية، وقصّف بعض المباني السكنية في المدن الروسية، للتحريض على الغضب ضد الجهاديين، وكذلك نهب خزائن الدولة وسحق المعارضة التي ازدهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وليس من قبيل المصادفة تدشين أول تمثال في روسيا لـ"إيفان" طاغية القرن 16 الذي يتم تجسيده باعتباره حامي شعبه.
ووقعت روسيا في ظل اقتصاد العصابات في ركود رهيب بعد تراجع أسعار النفط، حيث انكمش الناتج الإجمالي المحلي وتحطم دخل الفرد وغرق الاستثمار، وتعثرت الخدمات العامة وانخفض عدد السكان، واستجاب بوتين من خلال تكثيف سيطرته بواسطة الموالين للأمن، وأجرى حفنة من الاعتقالات رفيعة المستوى لتهدئة الغضب الشعبي بسبب الغش، واعتُقل الشهر الماضي مسؤول كبير في مكافحة الفساد بعد العثور على أكثر من 100 مليون أسترليني مخبأة بعيدًا في شقة في موسكو، وعلى الرغم من ضخامة الإنفاق العسكري الهائل إلا أن روسيا أضعف مما كانت عليه منذ ولاية بطل بوتين بطرس الأكبر، وهو قيصر القرن 18 الذي بنى سان بطرسبرغ لتقديم نافذة على الغرب لبلاده.
وأوضح ماركو ميكلسون الذي عمل كصحافي في موسكو، وشهد مباريات بوتين في السلطة، قائلًا "أعرف رغبتهم في أن يكونوا أقوياء مرة أخرى، إنهم يحاولون إعادة تشكيل الأمن العالمي لاستعادة الإمبراطورية الروسية"، ويتقلد ميكلسون اليوم منصب رئيس لجنة الدفاع الوطني في البرلمان، ويوافق على أن روسيا أطلقت شكل جديد هجين من الحرب الباردة"، وأضاف ميكلسون "إنه لا يتقبلون البنية الأمنية الغربية وهذا هو السبب في ما يحدث في أوكرانيا وسورية".
ويعدّ تعزيز حلف الناتو في أوروبا الشرقية خطوة هامة للوقوف بجانب حلفاء البلطيق الذين يسفكون الدماء بجانب القوات البريطانية في أفغانستان، واعترفوا مؤخرًا بخطر بوتين، وفي ظل هذه التوترات من الصعب معرفة إلى أين سينتهي هذا الصراع، وهل يستطيع الغرب مواجهة تحدي الحرب الباردة التي يتم إحياؤها من جديد.
أرسل تعليقك