بأمر من محكمة تابعة للميليشيات الحوثية، أفرغت مكتبة «أبي ذر الغفاري» الواقعة في شارع حدة بصنعاء رفوفها، وأغلقت أبوابها نهائياً، بعد أن كانت تبيع الكتب الفكرية والسياسية والفلسفية؛ حيث فقدت العاصمة اليمنية بذلك معلماً ثقافياً آخر، امتد عمره نحو 40 عاماً. وبحسب مصادر محلية في صنعاء، أمر أحد قضاة الميليشيات الحوثية، بعد 3 سنوات من إغلاق المكتبة وعمليات التقاضي، بإفراغ المكتبة من محتواها، بعد أن عجز مالكها عن سداد الإيجارات المتراكمة، جرَّاء إغلاق الميليشيات كل الصحف المستقلة والمعارضة، ومنع استيراد الكتب الفكرية والسياسية.
في أول شارع حدة الشهير بمدينة صنعاء، كانت مكتبة «أبي ذر» مقصد المثقفين والسياسيين، وحتى الأشخاص العاديين الذين كانوا يقتنون الصحف اليومية والأسبوعية التي تصدر داخل اليمن أو خارجه، وكذلك المجلات، كما كانت معظم السفارات تقصدها لشراء كل الإصدارات المحلية، من صحف حكومية أو معارضة أو مستقلة.
ولأن موقعها كان يتوسط المدينة، ومجموعة من المطاعم المتميزة بوجبات الإفطار، فقد كان كثيرون يقصدونها كل صباح لشراء الصحف والكتب، كما أن آخرين كانوا يأتونها في نهاية كل يوم، إما لأخذ نسخهم التي كانت تُحجز مسبقاً من كافة الإصدارات، وإما لمعرفة ما إذا كانت هناك إصدارات جديدة.
يقول أحد الذين عملوا في المكتبة : «إن مركز التنوير الثقافي والفكري والأدبي في صنعاء لفظ أنفاسه الأخيرة، فهذا المكان ذو المساحة الصغيرة كان قبلة لكل المثقفين».
ويضيف: «سالت الدموع من عيني عندما شاهدتُ مجموعة يقولون بأنهم لجنة من المحكمة، يعملون على إفراغ المكتبة من محتوياتها لتسليم المكان لمالكه. كتب التاريخ والفلسفة والدين والفكر والتنوير والقصص والروايات، جُمعت في «كراتين»، ووُضعت على الرصيف، بنظر اللجنة التي شكلتها المحكمة، ولا نعرف أين سيكون مصيرها. فقبلها أغلقت وللأسباب نفسها مكتبة (العلفي) في شارع الزراعة، وهي ثاني مكتبة فُتحت في صنعاء، وأول مكتبة اهتمت بالفكر والسياسة والأدب والثقافة، وكذلك مكتبة (الشروق) في باب البلقة».
بدأت معاناة المكتبة بعد الانقلاب مباشرة؛ حيث منع الحوثيون صدور الصحف الحزبية والأهلية، وكذلك استيراد الكتب الفكرية والفلسفية، وهي الكتب التي كانت تتميز بها المكتبة، وكان لها الفضل الكبير في خدمة الوسط الثقافي، ودعم الاتجاه التنويري في المجتمع.
ومع وقف الرواتب، ووقف استيراد الكتب، وتراجع المبيعات، تراكمت الإيجارات على مالكها، فذهب مالك المبنى إلى المحاكم، وعقب ذلك قامت ميليشيات الحوثي بإغلاق المكتبة، بحجة أن هناك تلاعباً بوثائق ملكيتها، وأنها تخص أحد البرلمانيين المناهضين للانقلاب، وهذا ما ضاعف من الخسائر، وجعل المالك يعجز عن دفع الإيجارات، وهو ما سهَّل لصاحب المبنى استصدار حكم بإخلاء المبنى.
ولأن المكتبة كانت وكيلاً لعدد من دور النشر المهمة والمتخصصة في الإصدارات الأدبية والفكرية والسياسية، وسط طغيان المكتبات التي كانت تبيع الكتب الدينية في الغالب، أو توفر إصدارات خاصة لطلبة الجامعة، فقد جعلها ذلك مزاراً للكتاب والمثقفين والسياسيين، وظلت كذلك حتى بعد 3 سنوات على بداية الحرب، رغم عدم قدرتها على توفير إصدارات جديدة من الكتب أو الروايات، وتوقف سوق الصحف الورقية.
ويقول الكاتب أحمد النويهي : «إن المكتبة نافذة للروح، ووفرت مواد دسمة مفاعيلها تعزز سطوة الروح الوطنية في مواجهات سلطة الاستبداد العسكري والديني بشقيه». ووصف الحكم بأنه «جائر وسياسي بامتياز، في ظل هيمنة الميليشيات التي كبلت البلد، وذهبت بما تبقى بين ردهاته إلى الهاوية، لتنشر ملازمها المفخخة بالجهل والوهم».
ويضيف أن الحكم بإغلاقها «استهدف اغتيال العقل والإنسان ومشروعه التنويري، بعد أن ناضلَت لأكثر من 4 عقود من الزمن في خدمة قضايا الفكر والأدب والصحافة».
ويرى النويهي أن ما حدث «كان صاعقاً وصادماً، فقد استبدت الميليشيات بكل مقدرات البلد لتخضعها لسلطة الحرب». فالمكتبة التي غيرت مسارات القراءة وارتقت بها، لتقدم أحدث الإصدارات الثقافية والسياسية -بحسب قوله- «شكلت نافذة مهمة وسط صنعاء، ورصيفاً لا ينقطع ولا ينتهي».
قد يهمك ايضا
مراكز ثقافة ومتاحف موسكو تشهد تزاحُمًا كبيرًا في "ليلة المكتبة"
قارئ يُعيد كتابًا استعاره من المكتبة بعد 50 سنة في بريطانيا
أرسل تعليقك