الجحيم المقدس شهادة على زمن الرعب والتردي
آخر تحديث GMT13:31:01
 لبنان اليوم -

"الجحيم المقدس" شهادة على زمن الرعب والتردي

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - "الجحيم المقدس" شهادة على زمن الرعب والتردي

بغداد ـ وكالات

وأنا أمسك برواية "الجحيم المقدس" للروائي برهان شاوي تساءلت مع نفسي أي جحيم مقدس هذا الذي سأدخله؟ وهل هناك جحيم مقدس وآخر غير مقدس؟ أين يمكن أن يكون؟ في السماوات أم على الأرض؟ وكيف يكون شكله؟ قبل الدخول الى عالم هذه الرواية نقرأ إشارة يقول فيها المؤلف: "حينما كتبت هذا العمل لم يكن في نيتي أن أدون حكاية سياسية وإنما حاولت أن أروي شذرات من تجارب شخصية لي، كما حاولت أن ألتقط بقايا أنين ووجع إنساني لأناس عرفتهم". إذن من الوجع والأنين الانساني ينطلق الروائي، والمكان العراق، جحيمنا المستمر في ضخ أوجاعه إلينا، والفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث كما سنعرف هي تلك الفترة المنسية أو التي لم تسلط عليها الأضواء بشكل جيد (أفول سلطة الرئيس أحمد حسن البكر وتسلم صدام حسين لزمام السلطة وبالتحديد الفترة من 1977- 1979 وهي المرحلة التي صفيت فيها كل التيارات الفكرية والسياسية) كما يشير المؤلف في مقدمته.. تاريخ يكاد يكون مغيباً (لأنهم) كانوا يعملون بشكل سري لم يصل بعد الى العلنية في إظهار وحشيتهم بعد أن تطورت آلة القتل واستطالت المخالب لتنهش جسد العراق. مكان الأحداث سيكون بين قرية مهجورة في شمال العراق تدعى قاينجة تقع على طريق يؤدي الى السليمانية وحلبجة وبنجوين، وقرية أخرى تدعى كاني سكان في الطرف الآخر من القرية الأولى، ومعسكر قريب للجنود يتحكم بالقرى المجاورة، من هذه الأمكنة المتقاربة تنطلق أحداث رواية الجحيم المقدس على شكل حكايات لا تعطي نفسها للقارىء مرة واحدة وإنما تأتي على شكل لقطات سريعة يجمعها الخوف والترقب والمصائر المفجعة، وكل حكاية تصلح أن تكون مشروع رواية مستقلة، لكن برهان شاوي كثف الأحداث والشخصيات وقطرها بانسياب اللغة وتدفقها عبر 120 صفحة وبثلاثة وعشرين فصلاً قصيراً، ما إنْ نقف على حكاية وقبل أن تكتمل حتى يأخذنا لحكاية أخرى، ثم يعود الى الحكاية الأولى يعطينا جرعة وينتقل بنا الى حكاية جديدة وتنتقل معها مجساتنا المتحفزة. وهكذا تتسارع الأحداث متنقلة من مكان الى آخر ومعها تتنقل الشخصيات التي ألقت بها أقدارها في كماشة النظام السرية، نلهث وراء السطور كما لو أننا نشاهد فيلم رعب، يخترقنا الغضب ويستقر في قلوبنا الوجع ونخاف على شيرين وأمها وعبدالله وعلي الفيلي وهاشم وصباح الرسام وكل من لا حول له ولا قوة في زمن القسوة والبطش ذاك، نخاف عليهم من الملازم صلاح المسؤول الحزبي وطراد التكريتي الذي يرصد الضحايا ويكتب عنهم التقارير والمختار الذي يتجسس على ابناء جلدته وكل من يمثل السلطة والمتعاونين معها.. هذه هي شخصيات الرواية، التي ندخل معها الجحيم.. ويا له من جحيم. حين تُقصف إحدى القرى ويباد أهلها تنجو أم شيرين وابنتها التي قُتل خطيبها، تذهب بها الى قرية أخرى لتودعها أمانة حيث سترحل الأم الى بغداد لتعرف مصير ابنها هيمن القابع في سجن (أبو غريب) ستذهب أولا الى ابن اختها علي الفيلي الذي يسكن في بيت تتوزع غرفه على مستأجرين آخرين من بينهم هاشم المتدين وصباح الرسام الشيوعي وطراد الذي يراقب ويكتب تقاريره الى أعلى السلطات.. سيأخذنا المؤلف الى أكثر من رحلة في هذا العمل الذي كتبه في العام 1987 وتركه بين أكداس كتبه ومخطوطاته لسنوات طويلة أنجز خلالها روايات ودواوين شعر ليصدر بعد ذلك العام 2012 عن الدار العربية للعلوم - ناشرون. "الجحيم المقدس" تناقش هوية الانسان العراقي، تلك الهوية التي ظلت لعقود مهددة بالزوال والفناء، وتؤرخ لمرحلة صعبة من مراحل الحياة السياسية في العراق، وما رافق تلك المرحلة من إذلال وبطش وتعذيب وقتل وتغييب، بل حتى الذين لا علاقة لهم بالسياسة من عامة الناس لكنهم لا ينتمون فكراً للحزب الحاكم فقد عوملوا مثل ما عومل به معارضو السلطة، وسنعرف ذلك كلما مضينا في قراءة هذه الرواية، فعبد الله، الجندي المكلف وخريج معهد الفنون الجميلة، وهاشم المتدين، وصباح الرسام، سيلاقون المصير نفسه الذي يلاقيه غيرهم من القوميات الأخرى وقبل ذلك يتعرضون الى الكثير من الممارسات المهينة بحق إنسانيتهم. شيرين التي نجت من مذبحة قريتها ستعتقل ويكلف عبدالله بمهمة إيصالها الى الفرقة السابعة في السليمانية للتحقيق معها وبعد ذلك الى الفيلق الأول في كركوك، أمر لا بد أن ينفذ ورحلة محفوفة بالتوجس، لا مكان للعواطف فهو جندي مكلف وإن كان في داخله روح فنان يحب قراءة الروايات المترجمة ويقضي جل وقته خارج واجبه العسكري عند النبع ليتماهى مع جوليان سوريل بطل رواية "الأحمر والأسود" للكاتب الفرنسي ستندال ويتداخل الحلم بالواقع، بين ما هو عليه وما يقرؤه ليهرب من واقعه المر الى رحاب الأدب، ربما أراد المؤلف التخفيف من وطأة مشاهد الرعب بالانتقال الى أجواء تلك الرواية المترجمة، أو ليكشف العالم الجواني لبطله عبدالله هذا الجندي المتذمر والذي لا يخفي أحياناً تذمره مما يلمسه ويراه بحق شعب أراد أن يعيش فأريد له الزوال. حين تصل أم شيرين الى بغداد لم يكن ابن اختها علي الفيلي هناك، ولم تعرف بأنه اعتقل بتخطيط من طراد، فتقرر القيام بمهمتها ومقابلة الرئيس الذي يسخر منها ثم يأمر بعد إصرارها بأن ترى ولدها، لكن أين وكيف ستراه؟ في إحدى ثلاجات الموتى، تراه جثة هامدة وقد اخترق الرصاص جسده، عندها لا تتمالك نفسها من الصراخ وشتم النظام فيسحلها شرطيان بكل قسوة وتموت بين أيديهما، لم ترحمها الأيدي الخشنة بل جثة ولدها استشعرت الحال الذي وصلت اليه وذرفت دمعتين من عينين غادرهما بريق الحياة. أما شيرين فتغتصب داخل الدائرة الأمنية من قبل أحد الضباط، وسنعرف أن امرأة أخرى حامل قُتل زوجها وأطفالها تغتصب ايضاً، وبشكل جماعي فيسقط الجنين ميتاً وتنزف حتى الموت، وسينتحر الجندي المكلف بإيصال تلك المرأة لأنه لم يحتمل تلك البشاعة. وإذا كان الزمن داخل الرواية يهيمن على صفحاتها بكل قسوته فإن الزمن يمضي ولا يعود لكن الأمكنة التي اختارها برهان شاوي بأبعادها النفسية ستظل شاهدة على مرحلة فيها من السوء ما قاد البلاد فيما بعد الى الأسوأ، وقد جاءت حوارات هذه الرواية باللهجة العامية لتكون اكثر قرباً من الواقع وأكثر تقبلاً للإقناع. الشخصيات كلها وعلى اختلاف تنوعها تلتقي في ذاك الجب المظلم من قاع النظام وحيث لا يخرج أحد، مشاهد يقشعر لها البدن لا يعرفها العالم، بل يعرفها العراقيون الذين عاشوا تلك الفترة وجاءت في هذه الرواية بأصابع روائي خبير كرَّس جل أعماله لفضح تلك الممارسات لكي لا تنسى الأجيال القادمة ما عاناه الأسلاف، مادامت ذيول تلك الحقبة السوداء لا تزال حتى الان تعمل لتعيد الزمن الى الوراء، كأن عجلة الزمن لم تشبع من هرس أجساد العراقيين. "الجحيم المقدس" رواية محكمة البناء مهولة الأحداث، بسرد تتصاعد فيه الفجيعة، مع كل حكاية من الحكايات، عبر لغة راصدة وكاشفة وثرة بمفرداتها وتفاصيلها لروائي متمرس ومنشغل على الدوام بالهم العراقي كشاهد عصر على زمن الرعب والتردي.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجحيم المقدس شهادة على زمن الرعب والتردي الجحيم المقدس شهادة على زمن الرعب والتردي



GMT 18:18 2021 السبت ,27 آذار/ مارس

حكايات من دفتر صلاح عيسى في كتاب جديد

GMT 12:53 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 11:07 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

"بنات كوباني" كتاب أميركي عن هزيمة "داعش"

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,07 إبريل / نيسان

الفري يعلن عن تأجيل معرض الكتاب 46

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 14:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 لبنان اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 14:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 لبنان اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon