العمل بالأسود لمرغريت يورسينار الفكر قربانًا لإنسانية البشر
آخر تحديث GMT17:10:27
 لبنان اليوم -

"العمل بالأسود" لمرغريت يورسينار: الفكر قربانًا لإنسانية البشر

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - "العمل بالأسود" لمرغريت يورسينار: الفكر قربانًا لإنسانية البشر

بيروت ـ وكالات

ينتمي كتاب «العمل بالأسود» للروائية والمفكرة الفرنسية - البلجيكية مرغريت يورسنار، إلى النصف الثاني من القرن العشرين، من ناحية زمن صوغه النهائي ونشره، فهذه الكاتبة، التي كانت أول امرأة تدخل الأكاديمية الفرنسية في أواخر حياتها، لم تكتب روايتها الأشهر هذه إلا تحت تأثير «أزمة السويس» (التي يسميها العرب «العدوان الثلاثي») وحرب الجزائر وغزو القوات السوفياتية هنغاريا، وكلها أحداث شهدها العالم خلال خمسينات القرن العشرين، كما أنها لم تنشرها إلا في العام 1968، عام ثورات الشبيبة والطلبة. غير أن هذا لا يمنع «العمل بالأسود» من أن تنتمي أيضاً وبخاصة، إلى أواخر عصر النهضة الأوروبية، من ناحية أحداثها والذهنية العامة التي تسيطر عليها، وكذلك من ناحية هوية شخصيتها الرئيسة: الفيلسوف والعالم زينون. ومرغريت يورسنار لم تكن لترى أي مفارقة في ذلك، إذ بالنسبة إليها، قادتها الأحداث الهائلة التي عرفها عالم كان اعتقد أن الحرب العالمية الثانية ستكون خاتمة الحروب وبداية عصر النور والاتحاد بين البشر، قادتها إلى استرجاع ذلك الزمن النهضوي الذي قام فيه سد منيع بين العقل والحياة الاجتماعية، وصراع دموي بين الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا التي كان كل ما في بدايات عصر النهضة يبشر بسلوكها، وسلوك البشرية معها عصرَ أنوار جديد. ولكن في الحالين غلب الجهلُ والظلماتُ العقلَ، وانتشر السواد. ولم يكن مصير زينون، ذلك العالم المتنور البطل الذي اخترعته مخيلة مرغريت يورسنار، سوى إشارة إلى استشراء الظلمات وتغلب الغرائز على العقل، والى أن ملكوت هذا الأخير لم يحن زمانه بعد. والحال أن مرغريت يورسنار ماتت بعد عقود من كتابتها روايتها وهي لا تزال تتساءل: إذاً، متى يحين زمان العقل؟ > ولكن هل حقاً يتعين علينا اعتبار زينون ابتكاراً خالصاً من بنات أفكار مرغريت يورسنار؟ أبداً، فإذا كانت هذه الكاتبة الاستثنائية في روايتها الأكثر انتشاراً «مذكرات هادريان»، استنبطت من التاريخ القديم شخصية حقيقية آثرت أن تحمّلها أفكاراً نهضوية وعقلانية مسقطة عليها أحلام الإنسانية والتقدم، فإنها في «العمل بالأسود» جعلت من زينون الشخصية الرئيسة، مزيجاً من شخصيات عدة، كلها حقيقية وكلها عاشت في أزمان متقاربة، وكلها عانت ما عاناه زينون، وبعضها كانت له نهاية مشابهة لنهاية هذا الأخير. فمن توماسو دي كامبانيلا، ومن ليوناردو دافنشي وباراسيلز، والطبيب ميشال سيرفيه، وحتى من كوبرنيك وغاليليه، استقت الكاتبة ملامح فيلسوفها العالم، وكذلك استعارت له مغامراته ورحلاته، وضروب احتجاجه ومعاناته، لتصوغ من ذلك كله شخصية ترمز في حد ذاتها إلى عقل الإنسان وهو يجابه الظلمات، ويكتشف أن التنازلات نفسها لا يمكنها أن تقيه المصير المحفوظ له على أيدي سلطات وجماهير تتبعها، وتبدو بوضوح مرتاحة إلى جهلها وأفكارها العامة واتكاليتها وخوفها من كل ما هو جديد يريد أن يبدل من طبائع الأمور ولو إلى الأحسن. والأسوأ والأحسن هما هنا نسبيان على أي حال. وليس سوى التاريخ من يمكنه أن يحكم على صواب واحد أو خطأ الآخر، حتى وإن كانت مرغريت يورسنار قادرة على الحسم بين الاثنين. > إذاً، تفترض الكاتبة أن بطل «العمل بالأسود» زينون، قد ولد حوالى العام 1510، وكان في التاسعة حين مات دافنشي في منفاه، وفي الحادية والثلاثين حين مات باراسيلز (الذي جعلت منه الكاتبة خصماً لبطلها في بعض الأحيان)، وفي الثالثة والثلاثين حين مات كوبرنيكوس، الذي لم ينشر كتابه الأساس إلا وهو على فراش الموت. كما أن زينون مات (منتحراً) بعد خمس سنوات من ولادة غاليليو، وعاماً بعد ولادة دي كامبانيلا... وهذا التقارب في الأزمان هو الذي يجعل من زينون خلاصة عصر، ويجعله كذلك قادراً على أن يقفز أربعة قرون إلى الأمام ليصبح شخصية تعبّر أيضاً عن ظلامية القرن العشرين، وقرون عدة إلى الوراء ليضعنا في مواجهة اضطهاد العقل في أثينا من طريق الحكم بالإعدام على سقراط. إنه العقل في صراعه الدائم. والخيبة التي هي مصير كل فكر متقدم يسبق عصره، أو حتى يريد أن يعطي العصر معقوليته. > مهما يكن من أمر، فإن مرغريت يورسنار تفيدنا في أحاديثها ومذكراتها، أن حكاية زينون قد صاحبتها منذ سن المراهقة، بل كانت أول عمل أدبي فكرت في كتابته منذ كانت في الثامنة عشرة. وهي صاغت على طول صباها، ثم لاحقاً، قصصاً عدة تعود أحداثها إلى القرون الوسطى وإلى الزمن النهضوي، لكي تجمعها لاحقاً في بوتقة ذلك العمل. ولكن من هو زينون بعد كل شيء؟ ولماذا يمكن مصيره أن يكون مصير العقل؟ > إنه طبيب وكيميائي وفيلسوف، ولد في بروج ابناً غير شرعي، وعاش حياته في صراع وتجوال لا يهدآن. والرواية تتابعه في سفره عبر أوروبا ومناطق الشرق، بحثاً أو هرباً، سأماً أو خوفاً... إنه لا يعرف أي استقرار، وتكاد حياته تكون سلسلة من الخيبات، هو الذي اختار العقل دليلاً له، في زمن بدأ فيه العقل ينهار وقامت العصبيات والصراعات الدينية والعرقية سداً في وجه كل تنوير. وخلال تجواله لا يتوقف زينون للراحة ولو يوماً واحداً، وهو يغوص في متاهة زمنه. ولا يكفّ ذهنياً وجغرافياً، عن ممارسة مهنة الطب، فنراه حيناً يداوي المصابين بالجرب أو بالطاعون، مفضلاً الاعتناء بالفقراء البائسين على الاعتناء بالأغنياء، ثم نراه في أحيان أخرى طبيب بلاط مكلل بالمجد. في بعض الأحيان نراه ثائراً على وضعه متمرداً، وفي أحيان اخرى يقدم التنازلات. إن بحوثه واختراعاته تبدو شديدة التقدم على العلم الرسمي كما كان سائداً في عصره، ولكن يحدث له في أحيان كثيرة، أن يغض الطرف عما يؤمن به لينساق في موجة الامتثال والخضوع. وفي هذا الصراع الذي يحتدم داخله أكثر بكثير مما يحتدم خارجه، يلوح لنا زينون بطلاً إشكالياً. وهو خلال تجواله ومعاناته يرافَق في غالب الأحيان بأمه هيلزوند وزوج هذه الأخيرة سيمون أدريانسن، اللذين يخوضان معه، ومن دونه أحياناً، جزءاً من الصراعات الدينية، ما ينعكس عليه دائماً... وكذلك يرافقه في بعض الأحيان ابن عمه الفارس هنري ماكسمليان، وقسيس تمزقه شرور هذا العالم وفوضاه. ومن الواضح أن كل هذه الشخصيات تلعب دوراً في حياة زينون وتمزقه، وتكاد كل منها تكون صورة لفكره ولمرحلة من مراحل حياته. في النهاية: صورة لشكه الكبير الذي إذ يمزقه في نهاية الأمر ويدفعه إلى الانتحار في زنزانة في مشهد أخاذ بقوته ودلالته، يعرف أنه بموته قد ولد إنساناً من جديد: إنساناً بسيطاً وعميقاً، كما يجدر بالإنسان أن يكون. ولد إنساناً؟ بالأحرى أعلن ولادة الإنسان. > هذه الرواية التي نقلها البلجيكي أندريه ديلفو إلى الشاشة الكبيرة من بطولة الإيطالي جيان ماريا فولنتي (في واحد من أكبر أدواره قبل رحيله)، تعتبر أساسية في مسار مرغريت يورسنار الكتابي، فهذه الكاتبة جمعت هنا اهتماميها الرئيسيين: عصر النهضة والشرق، وتمكنت من التوليف بين مبدأ العقل ومبدأ الترحال (كصنوين لا يفترقان منذ العصور الإغريقية، حيث لا يكون المفكر جديراً بهذا اللقب إلا بعد أن يتجول في بلدان العالم ويختلط ليدرك كم أن الإنسانية واحدة). > ولدت مرغريت يورسنار في بروكسيل العام 1903، من أب فرنسي وأم بلجيكية، وهي إذ ترعرعت في فرنسا، عاشت معظم حياتها في الغربة، في إيطاليا وسويسرا واليونان، ثم في أميركا الشمالية، حيث عاشت سنواتها الأخيرة في «ماونت ديزرت»، وهي جزيرة صغيرة بالقرب من سواحل الشمال الشرقي في الولايات المتحدة، وهناك قضت في العام 1987، بعد سبعة أعوام من انتخابها عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وبعد سنوات قليلة من إنجازها كتاباً حول انتحار الكاتب الياباني يوكيو ميشيما. ورواية «العمل بالأسود» تحتل مكانة أساسية في سلسلة رواياتها وكتبها، التي من أشهرها «مذكرات هادريان» و «ألكسي أو موضوع المعركة العبثية» و «زوادة الحلم» وسيرتها الذاتية «متاهة العالم» ومسرحياتها وكتب الأطفال والحكايات الشرقية والأشعار والترجمات... إلخ.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العمل بالأسود لمرغريت يورسينار الفكر قربانًا لإنسانية البشر العمل بالأسود لمرغريت يورسينار الفكر قربانًا لإنسانية البشر



GMT 18:18 2021 السبت ,27 آذار/ مارس

حكايات من دفتر صلاح عيسى في كتاب جديد

GMT 12:53 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 11:07 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

"بنات كوباني" كتاب أميركي عن هزيمة "داعش"

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,07 إبريل / نيسان

الفري يعلن عن تأجيل معرض الكتاب 46

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان - لبنان اليوم

GMT 07:17 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
 لبنان اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
 لبنان اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:38 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
 لبنان اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 22:52 2020 الثلاثاء ,28 تموز / يوليو

"فولكسفاغن" تبحث عن "جاسوس" داخل الشركة

GMT 10:32 2021 الأربعاء ,11 آب / أغسطس

جرعة أمل من مهرجانات بعلبك “SHINE ON LEBANON”

GMT 17:24 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

يوسف الشريف يتحدث عن عقدته بسبب يوسف شاهين

GMT 10:01 2024 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يتصدّر ميدان "تايمز سكوير" في نيويورك

GMT 21:00 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 18:41 2020 الخميس ,31 كانون الأول / ديسمبر

كرة القدم ضحية فيروس كورونا من تأجيل بطولات وإصابة نجوم

GMT 13:24 2023 الإثنين ,03 إبريل / نيسان

أفضل عطور الزهور لإطلالة أنثوية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon