اللُغة والبناء في رواية الحَاِلم لسمير قسيمي
آخر تحديث GMT15:51:31
 لبنان اليوم -

اللُغة والبناء في رواية "الحَاِلم" لسمير قسيمي

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - اللُغة والبناء في رواية "الحَاِلم" لسمير قسيمي

الرياض - حسام رزيق

عنصران لا ثالث لهما يجذباني إلى قراءة أدب الرواية أولهما، قوة اللغة والمقدرة على استخدام الصور والدلالات وهذا العنصر سبب لدي ما أسميه فوبيا الأدب المُترجم خوفًا من أنّ أفقد هذه المزيّة التي قد تشوهها الترجمة فتجعلني أفقد لذة اللغة العربية، وهذا جعلني أفوت الكثير من الأدب العالمي استناداً إلى هذا العنصر. وثاني هذه العناصر هو قوة البناء  والحبكة في ترابط الأحداث وانسجام الشخوص بطريقة غير تقليديّة، بطريقة لا تكشف (النهاية) من (البداية). وسأعنى في هذه القراءة بهذين العنصرين، اللغة والبناء. وانطلاقاً من عنصر البناء، فلا أعرف على حد علمي المتواضع من الروائيين العرب في أيامنا هذه من يبن رواياته بجنون، وبخيال أوسع وبدقة أروع وبأسلوب غير تقليدي، مما تعودنا عليه في الرواية العربية كالروائي الجزائري المُبدع سمير قسيمي. فقد أدخل في الأدب العربي السحنة العالمية بأسلوبه الخاص الذي يشي بعبقرية هذا الروائي. فمنذ أنّ قرأت لأول مرة روايته "يوم رائع للموت"، أدركت أنّي لا أقرأ لروائي عادي أو مبتذل. روائي ذو مخيلة شديدة التعقيد. و بالرغم من عدم اتفاقي على كثير من الأفكار التي يشير إليها في رواياته لكن اختلاف الأفكار لا يُنقص من احترام وتقدير الإبداع فيما يخطه قلم سمير قسيمي، فقد أبدع  في روايته الأخيرة الرائعة "الحالم"، كما أبدع في رواياته السابقة كلها، ابتداءً من "يوم رائع للموت"، مروراً على "تصريح بضياع هلابيل"، ثم "عشق امرأة عاقر". و بعد قراءتي لكل رواية، أتساءل أين هي أعمال سمير قسيمي في ساحة الإعلام العربي عامة والمشرقي خصوصًا، بحكم أنّ هناك من يفرق بين الساحة المشرقية والمغربية. ساحة احتوت الغث وقلة من الثمين أو أنها تعمل على مبدأ "الجمهور عاوز كدا"، حيث أنّ الأعمال العميقة لا تأخذ ذلك الرواج عادة، كالأفلام الحائزة على الأوسكار نخبوية لا جماهيرية. كتب سمير قسيمي بيد أحد شخوص روايته "الحالم"، أنّ الإبداع يحتاج أولاً إلى تحضير مُسبق وواع يلي تولد الفكرة في رأس صاحبها، أولاً على الفكرة أن تتضح في رأس الكاتب بشكل كامل وهي ليست موضوع الروايّة أو حتى غايتها، بل القصة التي يحويها العمل، ولا بد قبل أنّ يشرع في الكتابة أنّ يملك قصة كاملة في رأسه. ثانيًا، يحضر الكاتب المادة الخام التي سيستغلها في الكتابة، وقد تكون قصاصات جرائد، كتباً، قواميس، بحوثًا أكاديمية، حوارات مسجلة، لقاءات تلفزيونية. أيّ شيء يصلُح لدعم الأفكار التي ستحويها الرواية. وما دام المكان أمراً ضرورياً في أيّ عمل، فلا بأس أنّ يستعين الكاتب بخارطة للمواقع التي سيتحدث عنها. وعلى سبيل الاحتياط يستعين بمؤلفات عمرانية تؤرخ لعمران هذه المنطقة أو تلك، المهم لا يجب أنّ يخرج المُؤلَّف عن سيطرة الكاتب في أيّ جانب منه. وحتى يضمن مزيدًا من السيطرة، يضع تقسيماً أولياً للفصول، وتصوراً معقولاً لأحداث كل فصل، وجدول توقيت صارم لظهور كل شخصية من شخوص روايته وحين يتجهز الكاتب بكل هذا يشرع في الكتابة. وأعتقد أنّ هذا ما قام به سمير قسيمي فعلاً عندما شرع في كتابة "الحالم". "أحداث الرواية حقيقية وكل شخوصها من الواقع ولا صدفة هناك ما تطابقت هذه مع الحقيقة". هذه العبارة في السطر الثالث من الرواية، جرّ بها سمير قسيمي القُراء إلى غياهب الفضول في البحث إلى ما هو حقيقي وبالتالي تبدأ الإثارة، وبإقحام صديقه الروائي بشير مفتي في هذه المقدمة رسخ وأكدّ للقارئ واقعية هذه الأحداث التي ما لبثت أنّ كانت البوابة لهذه المتاهة الإبداعيّة. فـ"الحالم"، رواية فلسفية بامتياز مبنية على فلسفة الوجودية وأسئلتها، وانعكاس هذا الوجود الذي مثله بالمرآة ولا أبالغ في أن المرآة كانت إحدى أبطال الرواية، ثم ابتدع ما أطلق عليه موهبة القرار وهو انعكاس للقدر المحتوم أو قدرة الاختيار وفلسفة المصادفات. وتتحدث الرواية عن مريض نفسي مصاب بما يسمى الهوس الإبداعي، ولاحظ  الطبيب المشرف على حالته أنّ حالة العنف لديه تناقصت عند إعطائه أوراق و قلم، ليشرع في الكتابة، وفروا له ذلك، فكتب رواية لاحظ طبيبه المعالج بعد قراءة مخطوط الرواية ورود أسم سمير قسيمي في ثناياها، وتوصل الطبيب إلى سمير قسيمي ليطلب منه قراءة هذه المخطوط، تجاهل سمير قسيمي ابتداءً قراءة هذا المخطوط مما أوحى إليّ وعكس في مخيلتي تهميش الإبداع في عالمنا العربي إذا لم يكن من شخص مشهور مسبقاً أو تساعده الظروف المحيطة بالدخول في دائرة الضوء، لكن "القدر" لعب لعبته وإذ بسمير قسيمي يقرأ تلك المخطوطة ويتفاجأ بأن مضمون الرواية هو مضمون روايته العاكف على كتابتها بكل التفاصيل. رواية بطلها ريماس إيمي ساك (معكوس اسم سمير قسيمي بالحروف اللاتينية على المرآة)، كاتب مشهور خط ثلاثين رواية و بعدها لم يستطع أن يخط سطراً واحداً ربط هذا النحس بوفاة زوجته، وإذ به يكتشف أنّه أيضاً أصيب بعمى جزئي غريب أمام المرآة ويرى ما عدا ذلك ولعله أراد أنّ يعكس عمى الإنسان عن ثقته بنفسه، مما يجعله لا يرى نفسه وبالتالي ينتفي عنه الإبداع. فهكذا دواليك كل مشهد وفكرة تسقط عليها الكثير من الإسقاطات وتحتمل الكثير من التساؤلات. "الحالم" أجد أنها كرواية عصية جداً على التلخيص، فهي خليط من جميع ما أبدعه سمير قسيمي في رواياته السابقة، عدة روايات في رواية واحدة ستشعرك بالفصام لفرط الجنون الذي كُتبت به و بُنيت عليه. وحيث أنّي قرأت روايات سمير قسيمي من قبل الحالم اعتقدت أنني قد اتذاكى هذه المرة وأمسك خيوط الرواية، وحاولت أنّ أسقط الأمكنة و بعض الأحداث بعمق فلسفي في الفصول الأولى، فقلت أن مقهى ثلاثون وهو المقهى الذي ترتكز عليه الأحداث أنه يقصد به الحياة وأن صاحب المقهى هو (الله)، وأن الوظيفة هي قدر الإنسان وحياته. ولكن هيهات، فمخيلة سمير قسيمي ليست بهذه البساطة، فما لبثت أحداث الرواية أنّ بددت هذا التصور و أخذتني في لجج من الأفكار، فكل صفحة تستثيرك لتعرف ما الذي تحتوي عليه الصفحة التي تليها، و كل ما أيقنت بأنك تمكنت من الفكرة تجد أنها انسلت من بين يديك كزئبق متمرد، تسحبك من غياهب الفانتازيا إلى سطح الواقعية وهكذا دواليك. فتجد أنك تقرأ الجزء وتعود إليه مرة أخرى فتصبح كمن يعدو في ماراثون فتنقطع به الأنفاس فيحاول أن يأخذ قسطًا من الراحة ولكن لا محالة، يجب أنّ تستمر حتى خط النهاية. لتتضح الرؤية وتبلغ المُراد. أعتقد أنّ العمق الفلسفي والتحليل السيكولوجي لشخوص الرواية استناداً إلى الأحداث لا تكفيه هذه السطور أو هذه القراءة أو تلك. أما إذا ما عرّجنا على العنصر الآخر ألا وهو اللغة، فلغة سمير قسيمي التصويرية ليست أقل إبداعًا من مخيلته العبقرية، فقد صوّر المكان والإنسان والشعور وحتى الهلوسة والخيالات بصورة باذخة بعيدة عن الإسفاف، وإن تعدى التابوهات يتعداها في موقف تجد أنه يجب أنّ يتعداها هنا. لغة شعريّة ليس بالمعنى الرومانسي الكلاسيكي للكلمة إنما بالمعنى الفلسفي التصويري العميق لها ولكم بعض هذه الصور على سبيل المثال لا الحصر: - "سأله النادل بنبرة صوت صافحت كف الصراخ" ما هذه الصورة المبدعة ؟؟ فكيف ستكون النبرة لو عانقت الصراخ أو لثمته ؟". - "هذه المرة لم أستسلم, فلهذا اليوم رائحة تشبه البداية"، هل دائما نتفاءل بالبدايات ونتقوى بها وإن وصلنا لطريق مسدود نعيش على أطلال البدايات؟؟". - "خُيّل إلي أنني أرى صورة السقف من جديد. بدا المسخ واضحاً بشكل بعث الذعر فيّ و كأنني أراه، ولولا أنني تذكرت عماي لازددت ذعراً". أجد هنا ارتباط البشر بمخيلاتهم و أوهامهم أقوى وأعتى من رؤية الواقع. فقد أدرك الوهم و تأثر به و لم يتذكر واقع العمى الذي هو فيه أًصلا إلا متأخراً". - "كيف أملأ ذلك البياض المفزع في سيرتي". تساؤل عميق ! و هل كان البياض مفزعاً يوماً؟ لعله مفزع عندما يكون نتاج ممحاة الذاكرة و التاريخ لخربشات الزمن في صحائف أعمارنا. متاهة أدبية بارعة ماتعة لن يدرك ثناياها إلا من يجرؤ أن يخوضها ويبتعد عن المألوف. ولتخوض غمار هذه الرواية في اعتقادي يجب أن تكون متفرغاً بالكامل مقيدًا ذهنك بأغلال التركيز وإلا هامت أفكارها وتبعثرت من بين يديك. "كيف لواقع مهما كان رائعاً أن يُرضي الرجل الحالم ؟" سؤال، جوابه في طيّات "الحالم".

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللُغة والبناء في رواية الحَاِلم لسمير قسيمي اللُغة والبناء في رواية الحَاِلم لسمير قسيمي



GMT 18:18 2021 السبت ,27 آذار/ مارس

حكايات من دفتر صلاح عيسى في كتاب جديد

GMT 12:53 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 11:07 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

"بنات كوباني" كتاب أميركي عن هزيمة "داعش"

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,07 إبريل / نيسان

الفري يعلن عن تأجيل معرض الكتاب 46

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 14:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 لبنان اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 14:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 لبنان اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon