الاستبداد العراقي بين حاكم مهووس ومحكوم صامت
آخر تحديث GMT15:51:31
 لبنان اليوم -

الاستبداد العراقي بين حاكم مهووس ومحكوم صامت

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - الاستبداد العراقي بين حاكم مهووس ومحكوم صامت

بغداد ـ وكالات

يجمع عنوان الرواية الرابعة للكاتب العراقي صلاح صلاح «إستلوجيا» (دار التنوير) بين كلمتي «إست» العربية و «لوجيا» اللاتينية الأصل التي تعني العلم أو الدراسة، أي أن المعنى اللغوي للعنوان هو «علم الإست». غير أنّ المعنى الذي يتخذه داخل الرواية يتعدى ذلك إلى القمع السلطوي والاغتصاب المعنوي والمادي الذي تمارسه السلطة في ظل نظام حكم ديكتاتوري شمولي. تتناول الرواية حقبة قصيرة من تاريخ العراق، في ظلّ النظام العراقي السابق، وتحديداً بين العامين 1979 و1980، وترصد وحشية القمع الذي مارسه على معارضيه وآليات استخدامه، ما يجعل الوطن نوعاً من بيمارستان أو سجن كبير يجرى فيه ترويض المعارضين بشتى السبل، وامتهان الكرامة الانسانية، وزرع الرعب والخوف في النفوس. وتقوم بتفكيك الديكتاتورية والشمولية الحزبية، من خلال رصد ممارسات السلطة الحاكمة وأدواتها، ورصد انعكاس هذه الممارسات على سلوك المحكومين وتصرفاتهم وأفكارهم. يبدأ الكاتب روايته بواقعة القبض على الراوي، وهو شاب معارض لممارسات النظام التي طاولت أمّه، وينهي الرواية بها مضافاً إليها كشف المصير الذي آلت إليه الأم، وهو الإعدام. أي أن البداية النصّية هي النهاية الوقائعية مع بعض الإضافات. وبذلك، يتخذ السرد مساراً دائريًّا ينسجم مع الدائرة المغلقة أو الحلقة المفرغة التي يعيش فيها الناس في ظل نظام ديكتاتوري. وبين البداية والنهاية ثمة جلجلة تقطعها الشخصيات، وسلسلة من أعمال القمع الواقعة عليها. يشكّل اتصال هاتفي، تُجريه زهرة الراسقي، الممرضة الشيوعية، بابنها الراوي الذي تخلّت عنه صغيراً، تُخبره فيه بتفتيش منزلها وتطلب مساعدته، رأس خيط سردي في هذه السلسلة التي تشكّل فيها الأم والإبن محور الأحداث ومبرّر وجود الشخصيات الأخرى روائيًّا. وتشكّل واقعة تفتيش البيت بداية الجلجلة التي يكون على الأم الممرضة والابن الراوي اجتيازها. وفي حلقات هذه السلسلة: التخفّي، تفكّك الأسرة، غدر الزوج، فساد مسؤولي الحزب الشيوعي وتواطؤهم مع السلطة، انهيار الحزب، تخلّي الحزبيين عن الأم المناضلة وتنكّرهم لها، الهرب إلى الشمال الكردي، وشاية الرفيق الكردي بها، محاولة السفر إلى الخارج بأوراق مزوّرة، القبض على الأم، التحقيق مع الإبن، إدخال المعارضين السابقين إلى بيمارستان الأمراض النفسية، اغتصاب نساء وتحويلهن إلى مومسات، وصولاً إلى إعدام الأم، الحلقة الأخيرة في السلسلة. هذه الحلقات تكشف الأعطاب في ممارسات النظام ومسؤوليه الذين تُصوّر الرواية بعضهم مرضى نفسيين ومهووسين، والأعطاب في الناس المحكومين الذين تحوّلوا إلى قطيع من المخبرين. وبذلك، تساوي الرواية بين الحاكم والمحكوم في ممارسة القمع والعنف على أنواعه، لعلّها تقول إن هذه الممارسة تشكّل تنفيساً عن مكبوت تاريخي قائم في الشخصية العراقية، سواء أكانت حاكمة أم محكومة، وتقدّم مثلاً على ذلك في الممارسات التي ارتكبها الشيوعيون في العام 1959 باسم ديكتاتورية البروليتاريا، تلك التي استحدثت سابقة السحل في قاموس العنف العراقي، الأمر الذي سيمارسه البعثيون لاحقاً بحق الشيوعيين. هي الشمولية نفسها في الحزبين تُمارس على أرض الواقع، وتُختلق لها الأعذار والمبررات. وهكذا، العنف الذي تفككه الرواية يبدو ملازماً للشخصيات الروائية سواء كانت حاكمة أو محكومة. بالعودة إلى الشخصيتين المحوريتين، فإن ثمة علاقة ملتبسة بين الأم والابن تتمظهر في غير محطة في الرواية. *الابن الراوي ينطوي على عقدة نفسية ناجمة عن تخلّي الأم عنه صغيراً لتتزوج من رجل آخر بعد موت زوجها، وعدم اهتمامها به، والانصراف إلى أولادها الجدد، وحرمانه عاطفيّاً وماديّاً. تتنازعه الغيرة والكره، يعيش أمومة مجهضة، تساوره نفسه بقتل الأب المستعار، ويعيش نوعاً من الشيزوفرينيا. تهميش الأم له يدفعه إلى التعلّق بها لاحقاً في محاولة تعويضية ربما عن حرمان مزمن. لذلك، حين تتصل به، بعد تفتيش منزلها، يُبادر إلى مساعدتها وتنفيذ رغباتها ويُلازمها في تخفّيها وهربها. وفي لحظات ضعف معينة يستعيد ذكريات تهميشها له وتخلّيها عنه، ويتمنى في لحظة تعلّقه بها أن يُقبض عليها وتُمنع من السفر لتبقى بقربه ولو في سجن. وفي تلك اللحظة يعلن عدم معرفته بها، ويحس بنشوة الانتقام لأيام التخلّي. ومع هذا، هذه الشخصية المضطربة لا تتخلى عن الأم، فيروح يبحث عنها في كل مكان، ويبذل ما بوسعه حتى يصل إلى نتيجة ما. ومن جهة ثانية، تشرب الأم، التي تتخلى عن ابنها لتنصرف إلى نضالها الحزبي وتلبية رغبات زوجها، المسؤول الحزبي الانتهازي، من الكأس نفسها. فيتخلى الزوج عنها بعد أن يغدر بها ويبيع البيت الذي سجلته باسمه في غفلة منها، يتخلى عنها الرفاق تباعاً، تتخلى عنها القيادة الحزبية، فتسقط ضحية تصديق المبادئ والثقة بالآخرين. ومع هذا، تبدي صلابة واضحة، لا تصدّق سرعة انهيار الحزب، فتأبى تسليم نفسها كي لا تكشف الآخرين، حتى إذا ما وافقت على السفر تكون نهايتها المفجعة بالقبض عليها وإعدامها، فتذهب شهيدة ما آمنت به من أفكار، وشهيدة عدم الأخذ بنصائح الأصدقاء والصديقات، لا سيما سليمة حزقيل، الشيوعية اليهودية، المناضلة ضد الفقر التي ينتهي بها المطاف في إسرائيل هرباً من الفقراء الذين ناضلت لأجلهم. على هامش هاتين الشخصيتين المحوريتين، ثمة شخصيات أخرى، لكلٍّ منها مأساتها ومسارها ونهايتها السوداء، بعضها ضحايا النظام، ومعظمها ضحايا الحزب الشيوعي ومن ورائه النظام. فسليمة حزقيل تهرب إلى الخارج بعد أن قام الفقراء الذين ناضلت لأجلهم باجتياح بيت جماعتها والتنكيل بهم قتلاً واغتصاباً. والكاتب ميري يهيم على وجهه ويمزّق بعض نتاجه ويتوسّل صديقه الراوي أن يأخذه إلى مستشفى الأمراض العقلية بعد تنكّر اتحاد الكتّاب له وإطلاقهم الرصاص الكلامي عليه وتبخيس عمله. وأم وليد خلود زميلة الراوي في الجامعة، يغتصبها أخو الرئيس ويُحوّلها إلى مومس ينتهي بها المطاف في البيمارستان. والدكتور سميسم يتخلى عن الحزب بحجة اختراقه وفساد مسؤوليه ويقلب لزهرة ظهر المجن. وضمير الصيدلي يتردّى في الفوضى والاضطراب بعد التحاق زوجته بالحزب وتخلّيها عن أولادها واغتصاب أخته وموتها خلال الإجهاض. وعامل الشاي التركماني يُفصَل من الحزب لتركمانيته بعد تشويه سمعته واقتلاع جماعته. والرفيق الحزبي في أربيل يشي بالأم وابنها وهما في بيته. وهكذا، قد لا نقع في الرواية على شخصية واحدة سوية، فمعظم الشخصيات أصابتها أعطاب النظام الكلي الديكتاتوري أو الحزب الشمولي، الشيوعي أو البعثي، ما يفسّر اجتماع: أم عليوي، سعد المخبل، دكتور سميسم، ضمير الصيدلي، أبي كفاح، معلم الرياضة، أم وليد، الكاتب ميري، والراوي نفسه في بيمارستان الكرامة. هذه الشخصيات، على تنوع اهتماماتها، تشكّل صورة مصغّرة عن الاجتماع العراقي. يكتب صلاح صلاح روايته بلغة مشدودة، متوتّرة، عصبية، تنضح بكثير من الكره والحقد، وتُكثر من استخدام المعجم السفلي بما فيه من بؤس وفقر وقذارة وسباب وشتائم، وتحتفي بالتفاصيل، فتعطف عشرات المفردات بعضها على بعض لتعبّر عن معنى واحد، حتى ليبدو السرد يدور في حلقة مفرغة أو يراوح مكانه، ففي مقابل الكثير من الكلام قليل من الحركة، غير أن هذا الغرق في التفاصيل يجعلنا أمام مشاهد روائية/ لوحات تكتظ بالألوان والروائح والحركات والتفاصيل والجزئيات والأصوات، ما يعكس شعبوية الفضاء الروائي وسفليته. وهنا، تشكل اللغة حاضنة مناسبة للأحداث، علماً أن كثيراً من الأخطاء النحوية واللغوية قد شابتها. وبعد، إذا كانت ممارسات النظام العراقي السابق والحزبين الشيوعي والبعثي جعلت النص ينضح بكل هذا الكره للديكتاتورية والشمولية، فإن السقوط في فخ التعميم، واستطراداً العنصرية، فيرمي منطقة معيّنة أو قومية معيّنة بأحكام مبرمة، هو أمر غير مبرّر حتى وإن حصل في لحظة غضب أو حقد. هذا يجعل النص نوعاً من انتقام كتابي متأخّر عن ممارسات قمعية سابقة، لا سيما أن نيّفاً وثلاثة عقود تفصلنا عن الأحداث المرصودة. على أية حال، تبقى الرواية صرخة مدوية في وجه الاستبداد والشمولية. فهل تسمع الأنظمة المتهالكة التي لا تزال قيد الاستبداد، والأحزاب البائدة التي لا تزال رهن الشمولية؟

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستبداد العراقي بين حاكم مهووس ومحكوم صامت الاستبداد العراقي بين حاكم مهووس ومحكوم صامت



GMT 18:18 2021 السبت ,27 آذار/ مارس

حكايات من دفتر صلاح عيسى في كتاب جديد

GMT 12:53 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 11:07 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

"بنات كوباني" كتاب أميركي عن هزيمة "داعش"

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,07 إبريل / نيسان

الفري يعلن عن تأجيل معرض الكتاب 46

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 14:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 لبنان اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 14:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 لبنان اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon