الأقصر ـ أ.ش.أ
بعد موجة من الأفلام الهابطة التي استشرت في الآونة الأخيرة وكادت تنفرد بدور العرض والسوق، تبدو "السينما المستقلة" في مصر هي الرد الثقافي الابداعي على تلك الموجة الهابطة، فيما يظهر مهرجان الأقصر الحالي للأفلام المصرية والأوروبية اهتماما كبيرا وحفاوة واضحة بـ"السينما المستقلة". وإذا كانت الثقافة قاطرة هامة للتنمية، فإن السينما المستقلة تتميز ثقافيا بخروجها عن "التسليع المعتاد والخط التجاري الاستهلاكي"، كما تتميز بمحتوى ابداعي أكثر حرية وتعبيرا عن أفكار غير تقليدية ورؤى انسانية وقضايا مجتمعية حقيقية. والسينما المستقلة أيضا في أحد معانيها تعني تلك الأفلام التي يتم انتاجها خارج منظومة الاستديوهات وشركات الانتاج والتوزيع الكبرى المتحكمة تقليديا في صناعة السينما وغالبا ما تنتج أفلامها بميزانيات صغيرة بعيدا عما يعرف بالنجوم الكبار الذين يتقاضون أجورا بالملايين. ووسط اهتمام واضح بالسينما المستقلة والشباب ودور الفن السابع في التغيير السياسي والاجتماعي في راهن اللحظة المصرية، فإن جذور ظاهرة صناعة السينما المستقلة ترجع في الواقع للسنوات الأولى من تاريخ السينما في العالم وتعود في الولايات المتحدة لعام 1900 تقريبا، بينما كان رهانها على "جودة المضمون السينمائي". وترى المخرجة المصرية هالة لطفي صاحبة فيلم "الخروج للنهار" أن السينما المستقلة تحترم عقل المشاهد وتعبر في مصر تعبيرا حقيقيا عن قضايا المجتمع المصري وهمومه ومشاكله، فهي "تعيد الاعتبار للفن بعد أن كادت التجارة تلتهم القيمة". ومنذ ثورة 25 يناير تسود مخاوف من تراجع صناعة السينما في مصر التي وصفتها هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي" بأنها الصناعة السينمائية الأبرز في العالم العربي، غير أنه بعدما كانت قاعات العرض تستقبل أكثر من 70 فيلما، فإن الانتاج في عام 2013 لم يزد عن 15 فيلما. والى جانب المعاناة الاقتصادية لرجل الشارع، او جمهور المشاهدين، تواجه صناعة السينما في مصر "أزمة قرصنة الأفلام وتسريبها على مواقع شبكة الانترنت" وبعض القنوات الفضائية بالتزامن مع عرضها في دور العرض السينمائي مما يهدد هذه الصناعة من وجهة نظر القائمين عليها في مصر بسبب الخسائر التي تقدرها غرفة صناعة السينما ب100 مليون جنيه سنويا. وكان "مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية" في دورته الثانية قد بدأ مساء "الأحد" الماضي ويستمر حتى السبت المقبل بمشاركة 62 فيلما من مصر و 18 دولة أوروبية، فيما ينقسم إلى مسابقتين، الأولى للأفلام الطويلة والثانية للأفلام القصيرة وأفلام التحريك. ويتجاوز عدد الضيوف في فعاليات الدورة الحالية للمهرجان 200 ضيف، وكان من الدال أن تمنح الفرصة للشباب المعني بالسينما في صعيد مصر حضور فعاليات المهرجان ومشاهدة أفلامه ومناقشتها وتلقي دروسا سينمائية من كبار المخرجين. ولأنه "حدث ثقافي مهم" وفرض ملامح شخصيته على خريطة المهرجانات السينمائية، فقد اختار المهرجان الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي رئيسا شرفيا لدورته الثانية. وقررت ادارة المهرجان أن تتولى لجنة واحدة التحكيم للمسابقتين برئاسة المخرج والممثل الروسي الحائز على جائزة الأوسكار فلاديمير مينشوف، وكان الفيلم المصري "لامؤاخذة" للمخرج عمرو سلامة وبطولة كندة علوش وهاني عادل هو فيلم الافتتاح الذي يتنافس الى جانب 11 فيلما على جائزة الأفلام الروائية الطويلة بينما تضم مسابقة الأفلام الروائية القصيرة 23 فيلما. وفي مؤشر يدعو للتفاؤل كان الفيلم المصري "الميدان" قد دخل ضمن ترشيحات جائزة أوسكار العالمية لأفضل فيلم وثائقي في سابقة تعد الأولى، فيما فاز في العام المنصرم بجائزة "أفضل فيلم وثائقي" للرابطة الدولية للأفلام التسجيلية، كما حصل على جوائز بمهرجاني تورنتو وصندانس السينمائيين. والفيلم من اخراج المصرية-الأمريكية جيهان نجيم وبطولة خالد عبد الله ودينا عامر، ويتناول على مدى 95 دقيقة وقائع حياة عدد من النشطاء المصريين في خضم الثورة الشعبية بموجتيها 25 يناير و30 يونيو، فيما يرى نقاد أن الأفلام الوثائقية تنتمي بالضرورة للسينما المستقلة. وإذا كانت هناك علامات استفهام حول الثورات العربية، كما يقول المخرج التونسي طاهر العجرودي، فإنه يرى أن السينما هي القادرة على الإجابة عن التساؤلات . وواقع الحال ان السينما الشبابية المستقلة التي تحظى باهتمام واضح ومحمود في مهرجان الأقصر الحالي قد باتت لاعبا أساسيا في المشهد الثقافي الديمقراطي والحديث عن "المسكوت عنه" في الحياة المصرية والعربية على وجه العموم، فيما رأى طاهر العجرودي في مقابلة مع جريدة "الأهرام" أن الفنان لا يمكن أن يكون إلا مستقلا بعيدا عن الخنادق الحزبية وغيرها". وأضاف العجرودي "اعتقد أن ما حدث لنا هي فترة مراجعة واللحظة التاريخية التي صارت والتي يمكن أن نعتبرها ثورة أو انتفاضة طرحت العديد من علامات الاستفهام مراجعة للذات, أين كنا وأين أصبحنا". واللافت للانتباه حديث المخرج التونسي طاهر العجرودي عن "ظهور شركات انتاج شبابية ناجحة" في بلاده حتى أن هناك سبع شركات فنية يمتلكها شباب "وهذا رقم مهم في تونس". ويبدو أن هناك حاجة في مصر للابتعاد عن مفهوم "البهرجة" في المهرجانات السينمائية أو التركيز على الأسماء الكبيرة وحدها مع الاتجاه لمنح اهتمام "بالسينما الشبابية المستقلة ذات التكلفة المنخفضة"، فيما يمكن لمنظمات المجتمع المدني ان تقوم بدور كبير في دعم هذا النموذج السينمائي الشاب الذي يناقش قضايا بالغة الأهمية بحرفية جيدة. ومهرجان الأقصر السينمائي الحالي- الذي يكرم الفنان المصري نور الشريف والفنان الروسي فلاديمير مينشوف- نموذج لهذا الدور المأمول لمنظمات المجتمع المدني حيث نهضت "مؤسسة نون للثقافة والفنون"، وهي مؤسسة أهلية بتنظيم الدورة الثانية للمهرجان وبرعاية وزارتي السياحة والشباب، جنبا إلى جنب مع محافظة الأقصر وممثلية الاتحاد الأوروبي في القاهرة. ويعرض هذا المهرجان خارج مسابقته الرسمية ثمانية أفلام مصرية معبرة عن "الموجة الجديدة" التي بدأت مع استخدام المخرجين المصريين لتقنية "الديجيتال" كما يتضمن مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية قسما خاصا يعرض ثمانية أفلام تعبر عن موجة السينما الشبابية الألمانية التي ظهرت في نهاية ثمانينيات القرن العشرين على اثر اعادة توحيد شطري ألمانيا. و"السينما المستقلة" باتت تحظى بمكانة بارزة على مستوى التمثيل الدولي للسينما المصرية في العديد من المهرجانات السينمائية الأوروبية والعربية، فيما تألقت أسماء ممثلين تاريخيين وشبابيين لهذا التيار السينمائي الطليعي بمهرجان الأقصر بأعمال مثل "المدينة" ليسري نصر الله، و"كليفتي" لمحمد خان، و"بصرة" لأحمد رشوان، و"الشتا اللي فات" لابراهيم البطوط، و"هرج ومرج" لنادين خان، و"فرش وغطا" لأحمد عبدالله. وإذا كانت الدعوات تتصاعد من جانب العديد من المثقفين المصريين لوضع حد لموجة الأفلام الهابطة وسط حالة من الحسرة الظاهرة على التراجع المخيف في نوعية ومستوى الأفلام المصرية، "بعدما اقتحم الهجامة محراب الفن"، فذلك لا يعني الحجر والمنع، كما يحاول البعض أن يصور الأمر! تماما كما ان أحدا لا يريد أو يتمنى ان يخسر أي منتج أمواله في السينما، وإلا فإن الانتاج السينمائي لن تدور عجلته ولن يظهر المزيد من الأفلام وستتعرض شريحة في المجتمع المصري مرتبطة بصناعة السينما لأضرار مؤكدة.. لكن السؤال: هل الربح يقترن دائما بالاسفاف وانحطاط الذوق، أم ان الكثير من الأفلام الجيدة والحاملة لأفضل القيم حققت الكثير من الأرباح، كما يشهد تاريخ السينما في مصر والعالم؟ والحق ان تصريحات وأقوال بعض القائمين على هذه النوعية الرديئة التي سادت في السينما المصرية، تبدو وكأنها متواطئة ومبررة لكل ما يمكن أن يكون عدوا لمصر والمصريين، ثم انها توغل في المغالطات عندما تحتكم لمنطق المال وحده، وهو منطق يثير الآن سؤالا في الغرب من قبيل: "هل يمكن للسينما أن تتواطأ مع العدو؟". هذا حدث حتى في هوليوود ويشكل الآن صفحة عار تتمنى السينما الأمريكية ان تمحى أو تسقط من الذاكرة، ولكن هيهات فالتاريخ لا ينسى! وها هو كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان: "التواطؤ مع العدو: ميثاق هوليوود مع هتلر" يتناول فيه المؤلف بن اوروارد موضوعا قد يبدو غريبا، وهو العلاقة بين هوليوود والمانيا النازية. يتوقف بن اوروارد عند ما يعرف بالعصر الذهبي لهوليوود ويضع تحت مجهره البحثي كل تفاصيل العلاقة بين السينما الأمريكية والنخبة النازية الألمانية في الحقبة الهتلرية، فيما يتحول الكتاب الى دراسة كاشفة وممتعة حقا عندما يكشف المؤلف النقاب عن حقيقة كانت مجهولة. حقيقة قد تكون صادمة وإن كانت تعيد الأذهان لمسألة التوزيع التي تقض مضاجع المنتجين السينمائيين وتحتل بالضرورة أعلى درجات اهتمامهم.. الحقيقة كما خلص لها بن اوروارد أن هوليوود اتخذت قرارا خطيرا منذ اعتلاء هتلر عام 1933 سدة الحكم في ألمانيا وافصاحه عن نواياه حيال بلاده والعالم. السينما الأمريكية ممثلة في استديوهات هوليوود الكبرى اتفقت ضمنا على عدم اظهار المانيا النازية بصورة سلبية أو التطرق في أفلامها أيامئذ للفظاعات التي بدأ هتلر يرتكبها.. ومن الغريب كما يثبت هذا الكتاب الجديد بالوثائق أن الكثير من أقطاب صناعة السينما في هوليوود الذين اتفقوا على استرضاء النازي حينئذ هم من اليهود الذين كانوا في مقدمة من استهدفتهم ألمانيا الهتلرية! لهذا الحد يمكن ان يكون سلطان المال والرغبة في الربح وضمان التوزيع؟ هذا ما يؤكده كتاب "التواطؤ مع العدو"، وها هو المؤلف بن اوروارد ينشر وثائق لأقطاب هوليوود تحمل مخاوفهم من فقدان السوق الألمانية. المعنى المباشر أن المال اشترى الضمائر وضمن صمت هوليوود بكل نفوذها السينمائي العالمي، فإذا بقلعة السينما الأمريكية تتحول بسحر المال الى رقيب ذاتي على سحر الأفكار وشرف الابداع. بل إن الأمر وصل بعد عام 1933 إلى حد سماح هوليوود لرقباء ألمان بأن يأتوا للوس انجلوس لمشاهدة أي أفلام قبل عرضها وحذف أي لقطات لا ترضيهم للسماح بعرض الافلام الأمريكية في السوق الألمانية، وكان دبلوماسي الماني سابق يدعى جيورج جيسلينج يقود هذه المهمة الرقابية ليتدخل بمقص الرقيب وبحذف كل ما يرى أنه ينال من هيبة ألمانيا ومكانتها في أفلام هوليوود وبدعوة من هوليوود ذاتها! وبهذا الكتاب تقف هوليوود في محكمة التاريخ الذي لا ينسى ولا يعنيه المال الذي يشتري بعض الضمائر والذمم.. فالسينما قضية ثقافية هامة بقدر ما تؤثر في ثقافة الأمة وتتأثر بها، ومن هنا فإنها تدخل في اهتمامات عدة حقول ثقافية، من بينها التاريخ الثقافي. وهذا ما يتجلى في الكتاب الجديد حيث مضى بن اوروارد في بحث عميق ومضني بسجلات الأرشيف الهوليوودي والرسائل والمكاتبات لأقطاب الانتاج السينمائي الأمريكي في ثلاثينيات القرن العشرين ليصل الى الحقيقة الصادمة. وليس من قبيل التفاخر أو اجترار الماضي التأكيد على عراقة السينما المصرية وأمجادها ومآثرها الابداعية، في وقت تبدو فيه هذه السينما على المحك جراء اختيار اسوأ السبل وأكثر المضامين تخلفا لجذب الجمهور والتبجح المقيت بأن شباك التذاكر هو الحكم الوحيد باعلاء بغيض لمنطق المال! ومن ثم فإن "السينما المستقلة" يمكن بالفعل أن تقدم اجابة ثقافية ابداعية لتحديات جسيمة في صناعة الفيلم المصري وتعيد الاعتبار لسينما تحمل اسم مصر وثقافتها وقيمها وابداعها.. المجد للابداع رغم انطباق الليل أحيانا وسطوة الجهل في بعض الأحيان.. مهما طال الدرب لابد من مجيء الفرح ببرق ابداع مشتعل!