روما ـ أ ش أ
رصدت دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو"، التأثير المباشر للنحل على غلة المحاصيل، وكيف يمكن أن يساعد النحل على تعزيز الأمن الغذائي لمليارين من صغار المزارعين، بأقل تكلفة.
وجاء في في دراسة ميدانية قامت على تنسيقها المنظمة الأممية، وفق تقرير لها اليوم الجمعة، قارن العلماء إنتاجية 344 رُقعة زراعية في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ليخلصوا إلى أن المحاصيل الزراعية جاءت أقل على نحو ملحوظ في المَزارع التي تجذب أعداداً أقل من النحل خلال موسم الإزهار الرئيسي مقارنة بتلك التي يتوافد عليها النحل بمعدلات أعلى.
وطيلة قرون، نشطت هذه الحشرات المفيدة على أداء مهامها في أنحاء العالم، من دون أن تحصل على اعتراف بإسهاماتها القيمة في إنتاج الغذاء؛ ولا سيما النحل البري الذي لا يكاد يرد له ذكر مقارنة بالنحلة الأكثر شعبية المنتجة للعسل والتي طالما احتُفي بها لإنتاجها المستذاق من الرحيق الذهبي، حسب التقرير.
واليوم خرجت قيمة النحل بجميع سلالاته إلى ضوء الشمس للمرة الأولى، بفضل صدور تقرير عن "فاو" يكشف مدى ما تستفيد منه المحاصيل الزراعية من نشاط المُلقِّحات الطبيعية والتي تمضي بتخصيب النباتات عرضياً بمجرد أن تنتقل من زهرة إلى أخرى. وبفضل هذا النشاط، فمن الممكن أن يصبح للنحل دور رئيسي في تحسين إنتاج ما لا يقل عن ملياري نسمة من صغار المزارعين في جميع أنحاء الكوكب وتدعيم الأمن الغذائي والتغذية في ظل التزايد المطرد لسكانه.
ويؤكد التقرير الذي صدر في مجلة "Science" (ساينس-العِلم)، أن العمل على تكثيف السياق البيئي الطبيعي أو زيادة المخرجات الزراعية من خلال الاستفادة من قوة العمليات الطبيعية، إنما يمثل أحد أكثر المسارات المستدامة فعاليةً نحو توفير مزيد من الإمدادات الغذائية.
ويقول الخبراء: بوسع جهود العمل على ضمان الأمن الغذائي في أنحاء العالم... أن تجني فوائد جمة من دمج سياق التلقيح الطبيعي كجزء لا يتجزأ من استراتيجياتها الأساسية.
وأوضحت خبيرة "فاو" باربرا-جميل هيرين، وهي أحد واضعي التقرير، أن "أبحاثنا تشير إلى أن تحسين كثافة المُلقِّحات وتنوّعها يتمخضان عن تأثير مباشر على إنتاجية المحاصيل، وبعبارة أخرى، فإن ضمان توافد المزيد والمزيد من مختلف أنواع النحل وغيره من الحشرات على النباتات إنما ينعكس إيجابياً على رفع الغلة".
وأضافت "وهذا جيد بالنسبة للبيئة والأمن الغذائي على حد سواء"، حيث من الأهمية بمكان أن ننشط في صون الموائل البيئية وأن نوفرها في المَزارع وحولها، لأغراض تربية النحل وغيره من الحشرات والطيور على مدار السنة.
وبمقارنة الأداء العالي والمنخفض للمَزارع الأقل من هكتارين مساحةً، أشارت النتائج إلى أن الرُقع ذات الأداء الضعيف يمكن أن ترفع غلالها في المتوسط بنسبة 24 في المائة عن طريق جذب المزيد من الحشرات المُلقحة.
ومن خلال اختبار الرُقع الزراعية الأكبر حجماً، خلصت النتائج إلى أنه في حين تستفيد هذه الحقول من زيادة عدد الملقحات في جميع الحالات، إلا أن المنافع تأتي أقل قيمة مما يتحقق في الرُقع الأصغر حجماً، ربما لأن العديد من سلالات النحل تواجه صعوبة في تغطية الحقول الكبيرة بسبب الابتعاد عن موائلها الطبيعية. غير أن تنويع سلالات النحل بما له من قدرات طيران متفاوتة، يمكن أن يسد هذه الثغرة.
وتدل نتائج "التقرير" في جميع الأحوال على أن تنويع سلالات النحل يوفر المنافع سواء لصغار المزارعين بالبلدان النامية، أو للمزارع الكبيرة الحجم.
وتتزامن هذه البحوث مع فترة يواجه فيها النحل البريّ بالذات، العديد من عوامل التهديد... بينما تعجز سلالات النحل أصلاً عن مواكبة العدد المتنامي من المَزارع المُنتجة للمحاصيل والتي تحتاج إلى النشاط التلقيحي.
ويشكِّل تغيّر المناخ مشكلة أخرى لا يستهان بها، على النحو الذي أوضحته الخبيرة نادين عزّو، المنسّق العالمي لهذه المشروعات لدى شعبة "فاو" للإنتاج النباتي وحماية النبات وأحد واضعي التقرير الدولي، قائلة "إن النحل سيعاني لا محالة من ارتفاع درجات الحرارة؛ وعلاوة على ذلك فإن الزهور في بعض أجزاء العالم ستتفتح بفعل تغير المناخ في أوقات مختلفة عن فتراتها الاعتيادية، وعليه فلن يتوافد عليها النحل لإتمام اللقاح".
ويعني ذلك أن ثمة ضرورة اليوم لابتكار سبل للحفاظ على هذه المُلقِّحات الممتازة لكي يتواصل "تلقيح الطِنانة" على مدار السنة في المزارع المُنتجة للمحاصيل والغذاء.
وعلى مدى قرون ظلّت المُلقِّحات- من نحل، وطيور، ومختلف أنواع الحشرات الطائرة والنطّاطة والزاحفة بين الأزهار- بمثابة "مساعدين غير مرئيين" للمُزارعين حول الكرة الأرضية. ولتلك السلالات على اختلافها من النحل أذواقٌ وأدوار متميزة في نظامنا الغذائي. حيث أن النحلة الطَنّانة، على سبيل المثال، واحدة بين عدد قليل من سلالات النحل التي يمكن أن تُلقِّح الطماطم (البندورة) كمحصول يعتمد بشدة على "تلقيح الطِنانة" للإثمار.
وفي المقابل تتمثل أهمية نحل العسل، في سهولة رضاه عن اختيار الزهرة، دع عنك أن هنالك أعداداً كبيرة منه في خليّة النحل الواحدة؛ حتى وإن ظل أبناء أعمامه من النحل البري الأصعب اختياراً لنوع الزهرة، أعلى فعالية في تلقيح النباتات الجاذبة للحشرات.
وعموماً، دللت الدراسة على أن زيادة الغلة في الحيازات الصغيرة سجلت مساراً موازياً لتزايد توافد النحل على الزهور... لتكشف بذلك عن أن التلقيح يشكل أهم المدخلات الزراعية التي تقدم حداً أقصى من المساهمة في رفع مستويات الغلة الزراعية، بغضّ النظر عن الممارسات الأخرى الناجعة لإدارة المحاصيل.
ويبشّر ذلك بالخير وفق التقرير، في مواجهة أحد التحديات الزراعية الرئيسية في عصرنا الراهن. أي كيف يتسني مساعدة صغار المزارعين على رفع الغلة، بقليل من التكاليف ومن دون الإضرار بالبيئة. لكن جذب المُلقِّحات إلى المَزارع لا يتأتى تلقائياً، بمجرد زرع محاصيل الموسم ثم انتظار وصول الحشرات لاحقاً.
ويعدّ الحفاظ على الموائل البيئية الطبيعية وموارد الغطاء النباتي على مدار السنة مفتاحاً لاجتذاب الملقحات وإبقائها في المزرعة لفترات أطول؛ ويمكن إنجاز بذلك عن طريق زرع مختلف الأشجار والنباتات المتكافلة على سبيل المثال والتي تُزهر في أوقات متفاوتة من العام.
كذلك تُعدّ إقامة الصفوف المُزهرة المحيطة بالمزرعة وتهيئة أغطية نباتية لاختباء النحل في حِماها، من التقنيات الأخرى التي يُوصى بها لاجتذاب هذه الحشرات المفيدة، بالإضافة بالطبع إلى تقليل استخدام مبيدات الآفات.
ويشير الخبراء إلى أن سبيل تحقيق أفضل عائد زراعي إنما يكمُن ربما في توظيف مزيج من خدمات التلقيح- مثلاً من خلال نصب خلايا النحل في المَزارع خلال فترات الإزهار- إلى جانب تيسير عمليات التلقيح البري.
ويتطلب الإجراء الأخير أن يُلقي كلا المزارعين وصنّاع السياسات نظرةً فاحصة على النظم البيئية المحيطة بالمَزارع.
وأكدت خبيرة "فاو" نادين عزّو، أن "ما يُستخلص من دراستنا هو أن النحل يقدم خدمة حقيقية ويجب أن يؤخذ في الاعتبار عندما نخطط لتدخلات الأمن الغذائي"، مضيفةً "ولعل أفضل ما في هذه الخدمات... أنها تُقدَّم مجاناً