بيروت - لبنان اليوم
مستقبل المجتمع مرتبط بالبيئة التي يكبر فيها الأطفال، فهل ينشأ الأطفال في لبنان في بيئة تعزّز قدراتهم وثقتهم وتحميهم من العنف والاستغلال والانخراط في الجريمة، أم أنها بيئة تساهم في ازدياد خطر انخراطهم في السلوك الإجرامي وتطويره؟ نستطلع في هذا المقال بشكل أوّلي أوضاع الأسرة ودورها في الوقاية والتدخل لحماية الأطفال من الانحراف، ودور المدرسة في تكوين مفهوم العدالة ومعايير الإنصاف، والوضع الاجتماعي العام الكفيل بالتأثير في سلوك الأطفال ومواقفهم.
«خود تلفوني تسلّى شوي لكِنت خلّصت شغلي»، تقول سناء لطفلها ابن الخمسة أعوام لتتمكن من متابعة «تصحيح مسابقات الامتحانات». إلى كونها مدرّسة، تعمل سناء وقتاً إضافياً في المنزل (في تزيين الشوكولا) لتتمكن من إعالة عائلتها بعدما حُكم زوجها بالسجن بجرم الاحتيال. تقول لـ«القوس» «بعطي التلفون لابني وما بعرف شو بيحضر لأن ما معي وقت راقب، بيضل أحسن ما يضهر يلعب مع الزعران بالشارع». تتوهّم سناء، كالعديد من الأهالي، أنها تحمي طفلها بجلوسه قربها، فيقضي معظم وقته على الهاتف المحمول أو الـ«iPadTablet»، يتنقل بين مساحات التواصل الاجتماعي والتطبيقات والألعاب التي قد تحمل خطراً أكبر من «اللعب في الشارع».
تأثير الأسرة والبيئة
هناك الكثير ممّا يمكن تعلّمه حول أثر الحياة الأسرية على الانحراف والجريمة لدى الأطفال، وبالتالي أثرها على مستقبل المجتمعات. بالإضافة إلى الجوانب الأخرى التي تؤثر، ولو بشكل متفاوت، على البيئة التي ينشأ فيها الأطفال، كسلسلة الأزمات الاجتماعية، مثل تداعيات النزوح السوري والشحن العنصري الطبقي (راجع «القوس»، 22 نيسان 2023، «السوري ليس عدوّك»)، وأزمة التعليم والتسرّب المدرسي، والتوجه نحو عمالة الأطفال والزواج المبكر. كذلك الأثر السلبي لتدهور الوضع الاقتصادي وتراجع قيمة الدخل لأرباب الأُسر واضطرارهم لتعدّد الأشغال لناحية عدم توفر الوقت الكافي للإشراف على الأطفال ومراقبتهم، ولا سيّما في مساحات العالم الافتراضي، حيث يتعرضون إلى كمّ هائل ومتنوّع من المحتويات كالعنف، والاستغلال، والأخبار بما فيها من كلام تحريضيّ وطائفي.
إلى جانب تأثير العائلة في تكوين مفهوم العدل والإنصاف لدى الأطفال وترجمتها لأهمية الشرطة والقضاء، يلعب السياق الذي من خلاله يقرأ الوالدان المواضيع والأحداث والمشكلات، دوراً أساسياً في تنشئة الطفل وتطوير مفهومه للعدالة ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين. فهل يميل الأطفال إلى القوّة أم إلى الحقّ؟ وهل ينظرون إلى الآخر طائفياً أم عنصرياً أم مساوياً؟
المدرسة الأولى في البيت
من خلال الترابط مع الوالدين، يستوعب الأطفال القيم الأخلاقية التي يحتمل أن تشكل سلوكاتهم في المستقبل، فتعمل الأسرة كواحدة من أقوى قوى التنشئة الاجتماعية في حياة الإنسان في لبنان، إذ يمكنها أن تساعد في تعليم الأطفال على التحكّم في السلوك غير المقبول. وتؤكد أبحاث عدة أن الأطفال الذين نشأوا في منزل داعم وعاطفي ومتقبّل أقل عرضة للانحراف. وعلى العكس، يمكن للعائلات تعليم أطفالها السلوك العدواني المعادي للمجتمع. فالأطفال الذين يرفضهم والداهم، أو ينشأون في منازل تشهد نزاعات كبيرة، أو الذين لا يخضعون لإشراف كاف، أكثر عرضة لخطر الانحراف. وبالنظر إلى هذه الاحتمالات، قد تساهم الحياة الأسرية بشكل مباشر في تطوير الميول الانحرافية والإجرامية. كما تشير تلك الأبحاث إلى أن تصرفات الطفل تلعب دوراً في هذه السلسلة السببية. كذلك، من المرجّح أن يُرفض الطفل أو المراهق «المزعج» من قِبل الوالدين، ما يخلق حلقة متصاعدة قد تؤدي إلى الانحراف.
العنصرية والطائفية
يبدو أن الأطفال يتأثرون إلى حدّ كبير بالنزعة العنصرية والتعصّب الطائفي لوالديهم وبيئتهم. فعلى سبيل المثال، في آذار المنصرم انقسم الطلاب في بعض المدارس طائفياً وحزبياً بعدما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بقرار الحكومة بتأخير العمل بالتوقيت الصيفي لتزامنه مع شهر رمضان، وسرعان ما تم تداول الخبر في إطار طائفي مناطقي أعادنا إلى أيام الحرب بين «الشرقية» و«الغربية». الأمر الذي قد يُنشئ تحيّزاً أو تمييزاً أو كراهية بين طلاب الصف الواحد. فأي مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال في وطن يستفيقون فيه على أحقاد طائفية وحزبية ومناطقية؟ وينسحب الأمر أيضاً على نظرتهم إلى النازحين السوريين وتبدّل طريقة تعامل بعضهم مع الأطفال من الجنسية السورية.
من هنا، يأتي دور الأسرة والمدرسة والإعلام في مساعدة الأطفال على فهم الاختلافات بين الناس واحترامها وتقديرها، عبر توضيح القيم العائلية واستخدام الكلمات والأمثال والأفعال التي تُظهر للأطفال القيم الأخلاقية، بما في ذلك المعاملة المتساوية للجميع، والعدالة، والدفاع عن أولئك الذين يعانون، واحترام جميع الأشخاص بغضّ النظر عن لونهم أو اللغة التي يتحدثون بها أو أي اختلافات أخرى.
التعرّض لمحتوى غير أخلاقي
يؤدي تعرّض الأطفال لمواد إباحية إلى التمييز على أساس الجنس والتشويه الجنسي والمواقف الداعمة للعنف. فعلى السبيل المثال، عندما يشاهد الأطفال المواد الإباحية التي تصوّر أفعالاً مسيئة وعنيفة تجاه النساء، قد تُصبح نظرتهم إلى مثل هذا السلوك على أنه أمر «طبيعي ومقبول»، الأمر الذي يعزّز لديهم فكرة العنف ضد المرأة. كما يمكن أن يشكّل تداول المواد الإباحية ممارسات جنسية، وقد تكون غير آمنة صحياً. مع الأخذ في الاعتبار أنه قد يتعرّض الأطفال إلى هذا المحتوى بطريقة غير مقصودة، عبر الإعلانات التي تغزو الألعاب والتطبيقات الإلكترونية على سبيل المثال. أو بطريقة مقصودة عبر زيارة المواقع الإباحية المتاحة، ولا سيّما من قِبل فئة المراهقين. ويُعدّ وضع قيود على استخدام الإنترنت، من قِبل الأهل أو مقدّمي الرعاية، في أوقات معيّنة طريقة جيّدة لحماية الأطفال من الأنشطة التي يُحتمل أن تكون ضارّة، كما تشجّعهم على استثمار وقتهم بشكل مناسب.
عصابات «عائلية»
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وانعدام القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية بدأت بعض الأُسر بتشكيل عصابات عائلية وبالانخراط بنشاطات إجرامية (راجع «القوس»، 22 تشرين الأول 2022، «متى تتحول الأسرة إلى عصابة»). إزاء هذا الواقع، ازداد عدد المتورطين والموقوفين من نفس العائلة (ولا سيّما الأب والأم). وهنا، لا بد من التذكير بتأثير غياب الوالدين أو أحدهما على الصحة النفسية للطفل (راجع «القوس»، 11 حزيران 2022، «بابا مسافر»)، أو انخراطه بالأعمال الجرمية (راجع «القوس»، 11 حزيران 2022، «الأحداث في نظام العدالة الجنائية»)، إذ يواجه الطفل الذي لديه أبوان مجرمان احتمالية في أن يصبح جانحاً أكثر من الأطفال الذين لديهم آباء يحترمون القانون. ومع ذلك، يبدو أن التأثير لا يرتبط مباشرةً بالإجرام، بل بضعف الإشراف على الأطفال، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن الأُسر ذات العائل الوحيد تنتج عدداً أكبر من الأطفال الجانحين مقارنة بالعائلات ذات الوالدين، إضافة إلى الاختلافات الاقتصادية والعزلة الاجتماعية.
تأثير النزاعات الزوجية
ما هو تأثير مراقبة الخلاف الزوجي في تحديد سلوك الأطفال؟ تُظهر دراسات عدة أن الأطفال الذين نشأوا في منازل تعرّضت فيها الأم للضرب يعانون من مشاكل سلوكية واضطرابات مزاجية ويميلون إلى أن يكونوا أكثر عدوانية من الأطفال الذين نشأوا في بيئة منزلية غير عنيفة. وفي هذا السياق تقول الباحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام ليلى شمس الدين «تترك الصراعات العائلية تأثيرات كبيرة على الصحة النفسية لأفراد العائلة ولا سيّما الأطفال منهم. ويمكن أن تسبّب هذه النزاعات التوتر والقلق والاكتئاب لديهم، ما قد يؤدّي إلى مشاكل في صحتهم النفسية على المدى الطويل». وتضيف «يمكن للأطفال أيضاً أن يشعروا بالعزلة والعجز، جرّاء عدم معرفتهم أو قدرتهم على كيفية معالجة النزاعات العائلية، وهو ما يمكن أن يؤدي عندهم إلى رسم صورة ذاتية سلبية مصحوبة بالشك الذاتي ومشاعر انعدام الأمن». وهذا ما تؤكده الاختصاصية النفسية نجوى دعجة لـ«القوس» «الأطفال حساسون جداً لديناميكية العلاقة بين الأهل، فالنزاعات الزوجية تخلق جواً ضاغطاً على الأولاد، ما يتسبب بأذى على مختلف جوانب حياتهم، فتصبح لديهم اضطرابات عاطفية أو نوع من الخوف أو الحزن أو القلق». ووفقاً لشمس الدين «يمكن أن تؤدي تجربة الصراع بين الوالدين أو مقدّمي الرعاية إلى عدم الاستقرار العاطفي عند الأطفال، وإلى اضطرابات في النوم والشهية. في كثير من حالات الصراع الأسري، غالباً ما يتم تجاهل احتياجات الأطفال أو حتى تجاهلهم». وهنا تضيف دعجة «قد يشعر الطفل أيضاً بالذنب، إذ يعُدّ نفسه سبب الخلاف، فيحزن ويشعر أنه غير قادر على تحسين الوضع بين والديه. ويُحمّل نفسه مسؤولية تحسين العلاقة بينهم».
وماذا يحدث عندما يكون الطفل هو المتلقي المباشر للعنف؟ هل تؤدي إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم إلى الانحراف والإجرام لاحقاً؟
تقول نظرية التعلّم الاجتماعي إن السلوك العدواني يمكن تعلّمه. ووفقاً لذلك، عندما يظهر الوالدان سلوكاً عدوانياً، يتعلّم الطفل هذا السلوك ويُقلّده كوسيلة مقبولة لتحقيق الأهداف. وهذا ما تشرحه دعجة «يتولّد لدى الطفل سلوك عدائي يتماهى مع سلوك والديه، فيضرب رفاقه أو يمكن أن يؤذي نفسه، ما يؤثر عليه لاحقاً في تكوين العلاقات والصداقات». ووفقاً لشمس الدين «تظهر الدراسات أن الأطفال الذين يتعرّضون للعنف أو يشهدونه داخل أُسرهم هم معرّضون بشكل أكبر لخطر الانخراط في السلوك المنحرف. وتظهر هذه الأفعال مجموعة من السلوكات مثل السرقة وتعاطي المخدّرات وصولاً إلى التورّط مع العصابات. كما دلّت الدراسات على أن هؤلاء الأطفال يعانون أيضاً من ارتفاع معدلات المشكلات السلوكية والعاطفية، بما في ذلك الاكتئاب والقلق والعدوانية. ويمكن أن يستمر هذا الجنوح نتيجة التعرّض للعنف لفترات طويلة الأمد، قد تستمر حتى مرحلة البلوغ». وتلفت شمس الدين في مقلب آخر إلى أن «دراسات عدة تُظهر أيضاً أن التدخّل المبكر، والدعم الموجّه، يمكن أن يساعدا في التخفيف من الآثار السلبية للتعرّض للعنف على نمو الأطفال، وتقليل احتمالية السلوك المنحرف لديهم».
الوضع الاقتصادي يزيد العبء
أظهرت عدة دراسات وجود علاقة ذات دلالة إحصائية بين الأزمات الاقتصادية وانتشار العنف في الأُسر. فخلال الأزمات الاقتصادية، مثل حالات الركود أو فقدان الوظائف أو عدم الاستقرار المالي، قد تعاني الأُسر من زيادة التوتر والقلق والإحباط، وربما يؤدّي هذا الأمر إلى الصراعات والعنف. كما وجدت غالبية الأبحاث علاقة إيجابية بين الانكماش الاقتصادي والعنف المنزلي، مع زيادة في حدوث حالات العنف المنزلي أو مقياس الشدّة فيها خلال فترات الضائقة الاقتصادية. ناهيك عن أن فقدان الوظيفة والضغوط المالية يمكن أن يزيدا من خطر ارتكاب العنف المنزلي وحالات الإيذاء. وفي هذا السياق تقول شمس الدين «قد تكون لإشراك الأطفال في الأزمات الاقتصادية آثار إيجابية وسلبية على حدّ سواء، ويرتبط الأمر بحسب النهج والسياق.
فالأطفال الذين يفهمون قيمة المال ويتعلّمون كيفية إدارته بمسؤوليّة، قد يطوّرون مهارات مفيدة يمكن أن تساعدهم في الاستعداد لمستقبلهم المالي. أمّا الأطفال القلقون أو الذين يتحمّلون مسؤوليات الكبار من الإجهاد والعواقب العاطفية السلبية الأخرى، فقد يعانون باستمرار إذا أخبرناهم عن المشاكل الاقتصادية التي تمرّ بها العائلة، ما قد يؤثّر على صحتهم النفسية وعلى رفاههم. مع ذلك من المهم للوالدَين إشراك أطفالهما في مناقشات بنّاءة حول الحصول على المال وإرشاد إنفاقه، بطريقة تعزّز الثقافة المالية والمواقف الصحيّة تجاه المال، من دون إثقال كاهلهم بمخاوف الكبار».
الطفل النكّاش
قد يبدو هذا الطفل غيرَ مُبالٍ، ومتأقلماً مع أسلوب حياته، إلا أن الواقع مختلف تماماً. ففي مقابلة أجريت مع أحد الأطفال (13 عاماً) في شوارع المدينة قال لـ«القوس» «يمكن بِبَيّن إني مش قرفان من حالي، وإني مش سألان عن منظري، بس الحقيقة مش هيك. أنا تعبان وعطول خايف. كل يوم بيقرّب عليي زلمي بيتحشّر فيي وبيقلّي تعا جبلك أكل وتياب، بس أنا عارف شو بدو مني». وحول سؤال «ماذا تعتقد أنه يريد منك؟» أجاب «بدّو ياخدني عالسيارة يعملّي شي. وأنا كمان بضَلّ وعّي إختي يلي بتشحد عالإشارة إنو تنتبه على حالها». فما هو مستقبل هؤلاء الأطفال، ولا سيّما أن أعدادهم في ازدياد مع تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، مع التذكير بالمخاطر الصحيّة التي يتعرضون لها في كل لحظة؟ (راجع «القوس»، 24 أيلول 2022، الأخيرة «النكّاش أمراض خطيرة ثمن العيش»).
كيف نحمي أطفالنا؟
إن التربية الإيجابية، بما في ذلك المراقبة والانضباط، يمكن أن تحدد بشكل واضح إمكانية جنوح الأطفال، إذ يُعدّ الإشراف الكافي على أنشطة أوقات الفراغ لديهم وأماكن وجودهم وأقرانهم، أمراً بالغ الأهمية لضمان عدم انجرافهم إلى أنماط السلوك غير الاجتماعي والجانح. ووفقاً لشمس الدين «تسمح التنشئة الاجتماعية للأطفال بتنمية الشعور بالذات، وبتحديد أدوارهم ومكانهم في العالم حيث يكونون. فضلاً عن أنّها الأساس في تكوين معتقداتهم ومواقفهم وقيمهم». وتضيف «لذلك يُنظر إلى الطريقة التي يتم بها تنشئة الأطفال اجتماعياً، لِما لها تأثير كبير على سلوكهم، إذ يميل الأطفال الذين لديهم تجارب اجتماعية إيجابية إلى أن يكونوا أكثر ثقة وتكيّفاً، ولديهم مهارات اجتماعية جيّدة. وقد يُظهر الأطفال الذين يعانون من التنشئة الاجتماعية السلبية سلوكات مثل العدوانية والشعور بالكره والانسحاب الاجتماعي. وتُشكّل التنشئة الاجتماعية أيضاً التطوّر الأخلاقي للأطفال، ما يؤثّر على الطريقة التي يفسّرون بها ويستجيبون للإشارات الاجتماعية، ويشكّلون إحساسهم بالصواب والخطأ». وتلفت إلى أن «التنشئة الاجتماعية تُعد أمراً بالغ الأهمية في مساعدة الأطفال على تطوير المهارات الاجتماعية الإيجابية لديهم، والوعي الذاتي، والشعور بالأخلاق. كما أن لها تأثيراً كبيراً على سلوكهم، وعلى تشكيل الطريقة التي يتفاعلون بها ويستجيبون معها للآخرين طوال حياتهم».
قد يهمك ايضاً