نواكشوط - العرب اليوم
تعود قضية حرية المرأة في المجتمع الموريتاني إلى الواجهة من جديد على خلفية جدل ديني واجتماعي - فكري يقوده تياران، يرى أحدهما للمرأة الحق في التحرر من تقاليد التهميش، في حين يسعى الطرف الآخر إلى تكريس النظرة الدونية إليها. عاد الحديث في موريتانيا حول حرية المرأة على خلفية مقال للباحثة والناشطة تربة منت عمار بعنوان "زلات الإعلام الرسمي" انتقدت فيه مضمون حلقة بثتها إذاعة موريتانيا نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، استضافت فيها أحد الفقهاء للحديث عن موضوع الشؤم والتطير في الإسلام، وقد ربط الفقيه بين المرأة والشؤم في الإسلام، مستشهدا بحديث منسوب للنبي محمد رواه الصحابي أبو هريرة يقول فيه "إن كان الشؤم ففي ثلاث: المرأة والدار والفرس". لكن الكاتبة الموريتانية، المعروفة بمواقفها المدافعة عن حرية المرأة، ردت بقوة على حديث الفقيه ودور الإعلام الرسمي الذي يفسح المجال أمام تفسيرات دينية تحشر المرأة في دائرة الشؤم والعار دون الرجوع إلى العقل ومنطق رسالة الإسلام التي تسعى لتكريس مبدأ تكريم الإنسان، ذكرا كان أم أنثى. وجاء في فقرة من مقال الكاتبة " كان الضيف فقيها ناشئا ذو مستوى سطحي جدا يحفظ بعض مرويات قرون الانحطاط الفكري لأمتنا ولم تكن له دراية بظروف الفتاوى التي يتكلم عنها، حيث كان همه الوحيد إظهار قدرته على قوة حافظته مقابل تعطيل تام لوظيفة العقل....وكان يفترض في الإذاعة أن تسعى لنشر الوعي في صفوف الشباب ومحاربة انسداد الفهم، لا أن يكون دورها ضبابيا ومتناقضا وخرافيا وعنصريا ورجعيا...." وأضافت في فقرة أخرى انه "نظرا لسطحيته وسذاجته الفقيه وتعطيله لوظيفة العقل فإنه وقع في تناقض مشين حينما استخدم الحديث الذي ينسب لأبي هريرة، ذلك الصحابي الفقير الذي أكثر من القول عن الرسول...ولا شك أن هذه المقولة قد أعتمدها الفقه الذكوري وأحتضنها حقبا طويلة ورعاها لتستثني المرأة من ثورة تحرير العقل من قيود الوثنية..." ردة فعل الرأي العام الموريتاني كانت قوية ضد الكاتبة، سواء تعلق الأمر بسلسلة المقالات التي تجاوزت عشرة، أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو الضغوط العائلية والقبيلة التي أجبرت الكاتبة على الاعتذار لرجل الدين حسب ما اعترفت.في حين نشرت بعض المواقع الإلكترونية الموريتانية الأسبوع الماضي خبر خروج بعض الشباب في مسيرة تطالب بمحاكمتها بسبب وصفها لأبي هريرة "بالصحابي الفقير". الباحثة تربة منت عمار أوضحت موقفها من الهجمة التي أكدت بأنها تستهدف المرأة بشكل عام، وأكدت بأن "الموضوع يحتاج إلى من يفهمه في سياقه الطبيعي و من يهاجمونني لا يمتلكون خلفية فكرية أو علمية تمكنهم من نقد التراث الديني الذي يسيطر على عقل الأمة الإسلامية منذ أكثر 1430 سنة، فهذا الكم الزمني كفيل بجعلنا أمة رجعية تحمل أطمارا بالية من التراث البشري الذي هو عبارة عن تاريخ من المرويات وتلفيق الأحاديث والأشعار والأمثال التى تهين المرأة وتبرر العبودية وتجعل المجتمع منقسما إلى خانعين وأمراء، في حين أن ذلك لا يعدو كونه اجتهادات بشرية نشأت في ظروف سياسية معينة لم نكلف أنفسنا بتكييفها لتتلاءم مع العقل ". واعتبرت الكاتبة أن المرأة في تاريخ الإسلام لاقت صنوفا من الإهانة، ابتداء من ثقافة "ملك اليمين" إلى مرحلة "الحريم و الإبعاد عن المسجد" وتصنيفها ك"إنسان ناقص الأهلية" على يد فقهاء البلاط الذين يشرعون للسلطة السياسية برنامجها ألإقصائي ". وبررت منت عمار موقفها من الرد على الفقيه الذي ربط بين المرأة والشؤم حين قالت "لا يمكنني الدعوة لتحرير المرأة في ظل السكوت على أشياء تجعلها مصدرا للشؤم، فحتى الحديث الذي يصف المرأة بالشؤم يدخل في دائرة أحاديث الاستدراك، حيث استدركت عليه عائشة قائلة بأن النص الصحيح للنبي محمد (ص)يقول "كانت العرب تقول إن كان الشؤم ففي ثلاث المرأة والدار والفرس" لكن الصحابي أبو هريرة نقل شطر الحديث الثاني فقط وقد اعترض عليه عمر بن الخطاب حينها. وختمت بالقول"هنالك أحاديث شائعة أثبت العلماء أنها غير صحيحة. وتوجد أحاديث صحيحة لكن غرضها غير تشريعي وإنما تقصد بها حادثة معينة، كما رويت أحاديث ناقصة المعنى وهي مسألة بحثها وأقرها العديد من علماء الإسلام في مراحل مختلفة، لكن المشكلة في موريتانيا تكمن في عدم مواكبة بعض رجال الدين لحركة البحث والعلم". ويرى الباحث الاجتماعي، خالد مولاي إدريس، بأن الحراك الحالي يمثل هبة من المجتمع المحافظ الذي بات يشعر بأن قيمه تتعرض لهزات قوية بسبب ثقافة المدينة التي تفرض مقاربات مختلفة بشان التعاطي مع حرية المرأة، فوجود مثقفين يقولون بأحقية المرأة في مزاحمة الرجل في شتى المجالات خلق نوعا من التصادم بين النظرتين التقليدية والعصرية للمرأة. وهذا التصادم يبرز على السطح في شكل حركات اجتماعية تسعى للمحافظة على عقليتها التقليدية عن طريق رفع شعار التشبث بالدين في وجه الانحراف الذي هو بالنسبة لها الدعوات التقدمية التي ترفع شعار مشاركة المرأة في جهود التنمية والوصول لمراكز القرار. لكن المحلل الاجتماعي خلص إلى القول إن"معطيات العصر ووسائل الإعلام التي تدخل كل بيت والثقافات الواردة والمنظومة القانونية والتشريعات التي تسن الدولة تحت ضغط الشركاء الدوليين ستحطم الكثير من القيود التي تكبل حرية المرأة باسم الدين أو العادات".وختم بالقول إن الزوبعة الحالية ستزول بسرعة لأن ذاكرة المجتمع الموريتاني ضعيفة كما أن النزعة العاطفية المرتبطة بالدين سرعان ما تختفي ويعود الناس إلى رشدهم لأنها غير مؤسسة أصلا على فهم علمي ولا عقلاني للنصوص الدينية" أما محمد المهدي ولد محمد البشير، الباحث في التاريخ الإسلامي وأحد الداعين إلى التجديد في المنظومة الفكرية الدينية في موريتانيا، فقد أرجع الجدل الحالي إلى عدم مواكبة المجتمع الموريتاني للحراك المعرفي والثقافي الذي بدأ في المشرق مع رفاعة الطهطاوي، واشتد مع جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين، وفي ما بعد مع على عبد الرازق وطه حسين . ولذا يقول "إن ما نشهده اليوم من رد ورد فعل حول حرية المرأة لا ينطلق من العمق المعرفي الذي يحمل نسقا فكريا متجانسا ومنسجما، والذين يدعون إلى التجديد والإصلاح وينتقدون التراث لا يمتلكون النسق المعرفي المتماسك المعروف بـ "البراد يغم" ولو فتشنا في مقالات كثير منهم وفي مواقفهم لوجدنا أنها متناقضة لكونها لا تمثل مدرسة واحدة متجانسة وإنما عدة مدارس متناقضة في ما بينها". ولا ينكر محمد المهدي أن المجتمع الموريتاني بدأ يشعر بالفارق الحضاري بينه والمجتمعات والأخرى، وبدأ يدرك أكثر حجم التمايز على المستوى الثقافي، لكن ليس للدرجة التي تجعل الجدل الدائر حاليا يرقى إلى درجة الحراك الفكري، بل مجرد نوع من الاحتجاج الاجتماعي على ثقافة التهميش وصرخة ضد واقع المرأة. لكنه عاد ليؤكد أن ثقافة إقصاء المرأة كانت تتناسب مع عقلية المجتمع ومستواه الثقافي والفكري، "أن مجتمعا بدويا وقبليا وطبقيا لا يمكن إلا أن يكون حاضنا لثقافة تبرر هذا الواقع الموجود". خدمة DW