أوتاوا - العرب اليوم
كَتبَ العالِم والباحث العربي يعقوب بن إسحاق الكندي، في القرن التاسع الميلادي، الكثير من المؤلفات الموسيقية، ليصبح المدون الأول للموسيقى بأحرفها الأبجدية، فسمّاهُ الغرب الأوروبي بعد ترجمته بـ«الكندوس»، والحقيقة أنه يُعد علامة عربية فارقة، خاصة بعد كتابته مخطوطات موسيقية معالجة للأمراض، لنقوم نحن اليوم بقراءة مؤلفاته، ونقدم الكندي الموسيقي بعد كل تلك القرون، لنُحيله على واقعنا، محاولين الاستعاضة بما كتب نحو مستشفياتنا ومرضانا.
الإرث الموسيقي
ووفقًا لموقع "البيان"، فقد ترك الكندي إرثًا كبيرًا في المجال الموسيقي، ليعتبر أهم صانع ومطور لها، ولكن قبل ذلك نريد أن نستذكر التاريخ الموسيقى العربي بتسلسله، أي قبل الإسلام حين كان في جزيرة العرب وما حولها، فلنسرع الخطى في ذلك كي نعيد ما كان، فنستوعب مدى ما أرساه وطوره الكندي بعد تأليف وتوثيق.
الموسيقى في جزيرة العرب
استخدم العرب قبل الإسلام الموسيقى والغناء بشكل كبير، فكما ورد في المصادر الآشورية من القرن السابع قبل الميلاد، بأن العرب حين كان يؤتى بهم كأسرى، كانوا يعزفون ويغنون ويرقصون، وكانوا هؤلاء ينتمون إلى جنوب العراق ومملكة عيلام "الأحواز"، ولا بد من ذكر للشعر الجاهلي في جزيرة العرب الذي صاحبه الترنم، والأدوات الموسيقية في جزيرة العرب، حيث كانت المرأة هي من تنشر الموسيقى بين نساء القبائل في المناسبات المختلفة بضرب الدفوف، كما كانت تفعل الشاعرة والموسيقية هند بنت عتبة، وهذا يعني أن الطبقات العربية المعروفة هي من كانت تقترح العزف والغناء.
ويقال بأن والدة حاتم الطائي المعروف بكرمه كانت موسيقية أيضًا، رغم شعور الشك الذي يراودني بأن ذلك احتمال وليس مؤكدًا، لكن ليس بعيدًا عن التصور مع ما كان من تراث غني في جزيرة العرب قبل الإسلام. وإن ذهبنا إلى الخنساء فكانت تغني رثاء أشعارها لإخوتها مع الموسيقى..وهكذا نستطيع أن نتعرف على الأدوات الموسيقية في الجزيرة العربية، فما كان يسمى بـ «المعزف» في اليمن وهي أداة تشبه القيثار السومري، كان هناك أيضًا آلة تسمى بـ «المعزفة» وهي آلة حجازية، لم نتعرف على شكلها تمامًا لكنه من المحتمل أن تكون شبيهه بالمعزف اليمني.
هناك أيضًا آلة المزهر أي آلة العود مع اختلاف أن بطنه من الجلد، وكذلك آلة الموتر، ومعنى الموتر أي أنه آلة من الأوتار، وسميت بذلك نسبة إلى الوتر، وكذلك الكيران الأشبه بـ«الجيتار» الحديث، ليجمع عليه الباحثون بأنه الأقرب للعود.
المدرسة العودية
وسوف نترك الاستذكارات التسلسلية للموسيقى العربية وأدواتها في جزيرة العرب، لأننا نريد الذهاب إلى أهم صانع ومطور لها، وهو الكندي الذي أتى إلى الحياة بعد أن مرَّ على الإسلام نحو قرنين من الزمن، وقد تم التحقق من أصله الذي يعود إلى كندة في جزيرة العرب وقرب مملكة سبأ المعروفة، هاجر أجداده إلى الكوفة مع انتشار الإسلام وعاشوا هناك، وهو أكثر من ترك إرثًا في المجال الموسيقي، لينتمي الكندي إلى المدرسة "العودية" وهي مدرسة قديمة، مساهمًا بكتابة العديد من الرسائل الموسيقية، واضعًا بعدها كتابًا عن الصناعة الموسيقية، وبالتالي عن صناعة التأليف، ليسهب بها، ومن الطبيعي بعدها أن يذهب إلى المؤلفين والشعر والمصوتات الوترية واللحون والنغم ليتحدث عن أدوارهم.
رسائل موسيقية
وضع في رسائله قواعد الموسيقى الأساسية، وهي مستخدمة إلى يومنا هذا، منها اثنتا عشرة نغمة للعود، لتصبح مدرسة الكندي حينذاك من أهم المدارس الموسيقية في العالم. بعد إنهائه أطروحات ونظريات موسيقية هائلة، بات هو أول من وضع قواعدها في العالم العربي والإسلامي، والدليل رسمه للسلم الموسيقي الذي ما زال مستخدمًا حتى يومنا هذا، إلى أن تفوق على الموسيقيين اليونانيين بعد إلحاقَه الوتر الخامس للعود والذي يساعد على تلطيف الأصوات، ويمنح الصوت بعض الرحمة والعطف والرهافة، لذا لم يكتفِ بالعزف عليه، بل قام من خلاله بعلاج المرضى.
ضوء وهواء وألوان
كثيرون يعتقدون بأن مخترع الوتر الخامس هو المغني المعروف زرياب الذي عاش في نفس الفترة الزمنية، ورحل إلى الأندلس ليبهر من هناك بسحر صوته وعزفه وسعة ثقافته، والحقيقة أنه الفيلسوف الكندي مخترع الوتر الخامس الذي مارسه على المرضى لتأكده بأنه يُعد ذلك علاجًا ذهنيًا وروحيًا وجسديًا بالتالي، وتقدم تقدمًا هائلًا في مجال الطب حين حاول علاج صبي مصاب بالشلل الرباعي، الأمر الذي دعاه لكتابة ذلك ما أذهل الناس فيما يخص الوتر، فألفَّ دراسات سميت بالرسائل حول الموسيقى كنظرية ومفهوم ومعنى، يناقش فيها المستوى العلاجي للموسيقى بحيث إن كل وتر يماثل عضوًا في الجسد ليعالجه..ودليه وصفات بالألحان تقوي الدم وتعالج المرارة الصفراء.
الألحان تبعث في النفس مشاعر تجدد الصحة والمزاج
الموسيقى لدى الكندي في معناه الأصلي علاج للنفس والبدن، ليكرس الاهتمام بالألحان وما يرافقها من النقرات وما تبعثه من الألحان في النفس من سرور أو حزن أو شجاعة... فيأخذ اللحن مأخذه الفكري إن أثر في المزاج والصحة. كما أن الكندي وقبل أن يقسم الموسيقى كعلم إلى أربعة أقسام وهي المعدودات والتأليف والهندسة والتنجيم، كان قد ربط الأوتار بالأجرام السماوية ليضع دستور الموسيقى وبرهانه الرياضي والمنطقي والفلسفي، مدخلًا الموسيقى إلى الثقافة العربية كمعرفة متطورة بعد المدرسة الإغريقية القديمة التي نقلها العرب.
الموسيقى من عناصر الحكمة الرباعية
اعتنى الكندي بأداء اللحن، واللحن أصلًا كان العرب يسمونه الغناء بدل كلمة اللحن أو الموسيقى، لكنه يطلق اليوم على الفن العملي فقط.. وبفضل الكندي صار للعرب موسيقى يعد أحد العلوم المعتمدة في الرياضيات وعنصرًا من عناصر الحكمة الرباعية من ماء وهواء ونار وتراب، حيث إن لكل منها صوتًا وعلمًا، فأمست كلمة «الموسيقى» في اللغة العربية تعني علم الموسيقى، واضعًا الكندي الموسيقى في تصنيفه، للعلوم ضمن العلم الأوسط، فيوضح بذلك وضع هذا العلم بين علمين، علم ما فوقه وما تحته.
الموسيقى وعلاج الأمزجة والطبائع والأجساد
قسم الكندي الموسيقى إلى تلك الصنوف المؤثرة على النفس، فمنه اللهوي، ويقصد اللهو، ومنه الطربي، وهناك التلذذي، والتنعّمي، وهذه الألحان تأخذ سامعيه إلى مشاعر مثل الجرأة والنجدة واليأس والإقدام.. أما الألحان الشجية فيقول الكندي أنها أكثر استخدامًا ورغبة كالنواح والحزن والبكاء والرقاد، فهي من التي تُفعل الشفاء من قلق الحياة. وأكد الكندي أن للطفولة ألحانها وكذلك للشباب وللشيخوخة، وللصيف ألحانه.. وللشتاء، وللصبح والمساء والليل..وثمة ألحان تساعد على الهضم وتلطيف الطبائع وما يفيد الجسم وما يضر، ليجعل الكندي للموسيقى منهجًا دراسيًا معتمدًا.
«المصوّتات الوترية»..نغمات وتقسيمات
من يقرأ كتاب "المصوتات الوترية" للكندي، يتعرف على رسائله التي يخبرنا فيها عن تقسيم النغمات ومن ثم حرص على أن يمنح كل نغم اسمًا ونسبًا وبُعدًا وعددًا، ماضيًا بالشرح لتصبح رسالته عن معنى صناعة التأليف، فيتحدث عن اللحن كيف يكون بدايته ثم التبحر فيه، ومدى تأثيره على النفس، وأنه علينا أن نميز بين اللحن والطنين. وشرح الكندي أبضًا أصل الأوتار العشرة، أو كما ذكرها "المصوتات الوترية" وحددها بأنها أصل تلك الأصوات الوترية، فالوتر الواحد وُجد في الهند وبالتحديد في آلة «الكنكلة»، أما الثاني ففي خراسان ونواحيها، والثالث والرابع لدى الروم، بينما الوتر الـ5 موجود في الطبيعة الأولى كما يقول الكندي ليضيفها للعود.
ويذكر الكندي بأن الأوتار الستة والسبعة كثيرة التناسب لكن من يستعملها قليل، بينما الوتر الثامن أرجعه للنبي داود، عليه السلام، الذي استخدمه.. ويمضي ولا يذكر ما يخص الوتر التاسع، ليصبح العاشر نسبة إلى النبي داود أيضًا.. وبالتالي تكتمل المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة أوتار، أوتارًا وأعدادًا.
ولم يدع الإيقاعات تمر عليه مرور الشرح العام، آخذًا بنقاش الإيقاعات الثمانية وعلاقتها بالأشعار مع الأوتار والفصول والأركان والرياح. وأخيرًا ركز الكندي على ما يصدر من الأوتار من نغمات بأعدادها السبعة ومواقع أبعادها.
4
كان لمؤلفات الكندي كبير الأثر في مكوّن الثقافة والحضارة الإنسانية، وهناك من بينها أربعة مهمة جدًا: رسالة في صناعة الموسيقى، رسالة في الإيقاع، رسالة عن صناعة الموسيقى، رسالة في ترتيب النغم الدالة على طبائع الأشخاص.
5
بعد أن درس الكندي علوم الموسيقى لدى اليونان، وحققها وشرحها، قام بإضافة الوتر الخامس للآلة ليعالج به معللًا بأن أصله من الطبيعة والكون.
15
للكندي خمس عشرة رسالة موسيقية، شرح فيها تفاصيل الأنغام ومستوياتها وتبحر بها، ومن المؤسف أنه لم تصلنا منها سوى خمس رسائل فقط.