القاهرة - العرب اليوم
تلوّنت ميول الخير ورغبات التراحم في رمضان هذا العام بلون جديد وتوجّه فريد، ففي هذا الشهر الذي يرغب فيه كثر في الإنفاق في أوجه الخير اتباعًا لروحانيات المناسبة الكريمة، لم تعد أوجه ذلك وأولويات المساعدة ثابتة كلاسيكية لا تتغيّر كما كانت، بل خضعت لـ "نيو لوك" غير متوقّع وشكل مختلف لم تمليه جهة أو تفرضه مؤسسة.
مؤسسات عدة عرفت طريقها إلى المجتمع المصري في العقدين الماضيين، قدّمت نفسها باعتبارها مؤسسات خيرية تعمل على مساعدة المحتاجين ومساندة المعوزين، ولم تعتمد على الشكل التقليدي للمساعدة حيث كيلوغرام من اللحم أو عبوة من المعكرونة أو حتى قدرًا من المال ينفق غالبًا من دون أن تستفيد منه الأسرة المحتاجة، لكنها اعتمدت على الفكر التنموي في المساعدة، وعلى مدار العقدين الماضيين تطورت هذه المؤسسات من تقديم المساهمات الخيرية لتدريب السيدات على الحياكة، وتنظيم دروس محو أمية للكبار، ومجموعات تقوية للصغار، وتجهيز عرائس وغيرها إلى دعم الأسر المحتاجة دعمًا يستثمر في قدرة أفرادها المستقبلية.
صحيح أن بعض هذه المؤسسات التحف بالدين من أجل نشر فكر خيري في مظهره أيديولوجي- سياسي في مكونه، إلا أن بعضها ساهم في تطوير العمل الخيري التنموي تطويرًا يدعم جهود الدولة المحدودة تحت وطأة الاقتصاد المتأزّم في مساعدة المواطنين.
وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية طفرة كبيرة ملحوظة في مجال دعم قرى بكاملها، ومياه شرب، ومشاريع صغيرة ومتناهية الصغر، إضافة إلى قطاع الصحة الذي انخرط العمل الخيري فيه في شكل لا سابق له، وسبق شهر رمضان عام كامل من مخاطبة حواس المصريين بكم مذهل من الإعلانات، بعضها مدفوع وبعضها الآخر تبثه وسائل الإعلام مجانًا كنوع من المسؤولية المجتمعية، وباتت أرقام الحسابات التي تقبل التبرعات لصالح مستشفيات بعينها محفوظة ومعروفة لدى كثر، وقد لاقت إقبالًا من راغبي التبرّع أو الزكاة أو الصدقات، لا سيما وأن المجالات التي تعالجها ليست بعيدة عن كل بيت مصري، إذ لا يخلو بيت يخلو من قريب أصيب بالسرطان أو شخص تشوّه بفعل حريق أو سيدة أصيبت بسرطان الثدي وطفل ولد بتشوّه خلقي في القلب.
وقبل بداية رمضان بأيام قليلة، فوجئ ملايين المصريين بسيدة سبعينية تتبرّع بكامل ثروتها المقدّرة بنحو 5 ملايين جنيه، إضافة إلى شقتها المقدّر ثمنها بـ3 ملايين لصالح "مؤسسة مجدي يعقوب للقلب"، وعلى رغم أن قصة السيدة استحوذت على جانب كبير من الاهتمام، لأن قصة هذه السيدة إنسانية أو بالأحرى غير إنسانية، باعتبار أنها تعرّضت للإهمال والتجاهل والمقاطعة من أفراد أسرتها، ما دفعها إلى التفكير في هذا التبرّع لتستفيد من أموالها قلوب أطفال مريضة بدلًا من قلوب كبار المريضة، إلا أن المصارف تشهد موجة عاتية من التبرّعات الشعبية.
يقول أحد العاملين في بنك يتلقى تبرعات لعدد كبير من المستشفيات والمؤسسات العلاجية القائمة على مساهمات القادرين، إن هذه الحسابات تشهد إقبالًا من المتبرعين طول العام على مدى السنوات القليلة الماضية، لكن رمضان هذا العام شهد إقبالًا لا سباق له يصفه بـ "التهافت" على التبرع، سواء كصدقات أو زكاة لدرجة تجبر الموظفين على الاستمرار في الدوام بعد المواعيد الرسمية القصيرة نسبيًا في الشهر الفضيل.
الطريف أن التبرعات هذا العام تسبقها عملية تحرٍ دقيقة يقوم بها كثيرون بأدواتهم البسيطة، السيدة أماني سليمان (62 سنة) تقول إنها توجّه أموال الصدقات لمستشفيين تأثرت جدًا من أسلوب عملهما لصالح الأطفال المرضى، الأول في مجال مرضى القلب والثاني في مجال السرطان، وتضيف "إضافة إلى تأثري لعملهما، فإن من لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي، فقد كنت قبل سنوات أتبرّع لجمعية خيرية مقرها قريب من مكان سكني، واكتشفت بعد سقوط حكم الإخوان إنها جمعية إخوانية كانت تستخدم جزءًا من التبرعات في غسل أدمغة البسطاء للانضمام إليها"، وتتابع أنها في كل مرة تتوجه فيها إلى البنك لإيداع مبالغ مالية في حساب المستشفيين تتجاذب أطراف الحديث مع عملاء ينتظرون دورهم، فتستشف وتتأكد من أنهما بعيدتان عن الجمعيات التي تتاجر باسم الدين بآلام المرضى والبسطاء.
ويواكب هذا الوعي الشعبي البسيط آخر عميق وموجة من العمل الخيري الجماعي المرتكز على أساس مجموعات متشابكة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فمن دفعات من متخرجي كليات الطب في أعوام سابقة، إلى اتحاد شاغلي منتجعات سكنية، إلى أبناء مهنة واحدة تظللهم نقابة مهنية، إلى موظفي شركة كبرى، ظهرت "موضة" جديدة هذه الأيام ألا وهي المشاركة عبر صفحة "فايسبوك" أو "مجموعة "واتساب" لجمع أموال الصدقات والتبرّعات لتأسيس غرفة علاجية في مستشفى يعتمد في بنائه وخدماته على أعمال الخير.
يقول حازم فتحي (32 سنة) مسؤول التسويق في شركة متعددة الجنسيات في القاهرة، إنه وزميلاته وزملاءه في الشركة أعجبوا بإعلان يشاهده الجميع لدى بثه بين المسلسلات الرمضانية، يعرض قصة دفعة من متخرجي كلية الطب في جامعة طنطا قرر عضواتها وأعضاؤها أن يجمعوا مبلغًا ماليًا من بعضهم بعضًا، إضافة إلى زملائهم الذين سافروا للعمل في الخارج، لتجهيز غرفة لعلاج الأورام في مستشفى ضخم قيد البناء، ويشرح "قررنا أن نسير على نهجهم وبدأنا حملة تبرّع داخل الشركة للغرض عينه، لاقت قبولًا وترحيبًا غير متوقعين، كما قرر زملاؤنا بفروع الشركة في بلدان أخرى أن يساهموا معنا في هذا العمل الخيري الفريد".
ويبدو أن قطاعات عريضة من المصريين وجدت في هذه المؤسسات الخيرية التي تبنى أمام أعينهم، وتقدمّ خدماتها لمرضى يحتاجون العلاج، حتى وإن كانوا ميسورين لكن بعضهم لا يجد سريرًا شاغرًا، الوسيلة الأمثل للتبرع، لا سيما وأن المصريين فوجئوا بحجم الجمعيات الدينية التي كانت تحصل على تبرّعات البسطاء بالملايين على مدار عقود بعيدًا من عيون الدولة وأي رقابة أو مساءلة، واكتشف أمرها أخيرًا حيث تُعد أذرع تمويلية لجماعات متشددة.
من جهة أخرى، فقد تمددت ظاهرة المتسوّلين الـ "بارت تايم" وتوغلت توحشت، فهم يجدون في شهر رمضان فرصة ذهبية لابتزاز الصائمين عاطفيًا، وادعاء الفقر، بل وابتكار طرق درامية للتأثير على المارة بغية التربّح، فمن تأجير بزة عامل نظافة ومعها "مقشة" البلدية، إلى اقتراض أطفال الجيران للتسوّل بهم، إلى تداول روشتات (وصفات) طبية وهمية، إلى سكب ألوان حمراء على ملابس بيضاء يرتدونها وكأنهم مصابون بنزيف داخلي تحوّل خارجيًا، أيقن كثر إنهم يتعرّضون لعمليات نصب رمضاني منظّم.
وكشف النصب الرمضاني المنظّم عن وجه آخر أخيرًا، ألا وهو ظاهرة إعادة بيع محتويات الحقائب الرمضانية بغرض التربّح، فقد حققت منظومة "كرتونة رمضان" شهرة كبيرة خلال السنوات الماضية، وأصبحت ركنًا حيويًا في أغلب محلات السوبر ماركت، حيث يشتريها المتصدقون ويوزعونها على من يعتقدون إنهم محتاجون، لكن النتيجة كانت سوء توزيع، وحصول كثيرين على عشرات الكراتين، ما دفع بعضهم إلى بيع محتوياتها إلى محتاجين آخرين لم يوفقوا في الحصول على "كرتونة".
لقد تعلّم المصريون عبر طرق صعبة أن أفضل أعمال الخير في رمضان وأكثرها مصداقية وفعالية هي تلك التي تمر عبر مؤسسات معروف عملها وموثوق في سبل إنفاقها.