تونس – العرب اليوم
ثمة روايات لا يختار صاحبها موضوعها أو زمن كتابتها، بل تطرق بنفسها الباب عليه في لحظة ما. وينطبق هذا الأمر على رواية الكاتبة التونسية فوزية زواري "جسد أمي" التي فرض موضوعها نفسه عليها لحظة وقوع أمّها في غيبوبة عام 2007.
لكن الكاتبة لم تباشر تدوين الرواية إلا مطلع عام 2011 بعد أن وعت بأن "الإرث الوحيد الذي تركته أمي لي، مرغمةً، هو الكلمات".
تتألف الرواية التي صدرت حديثا في فرنسا وتونس من مدخل وثلاثة فصول وخاتمة. في المدخل، تتوقف زواري عند الأسباب التي كانت تحول دون انطلاقها في كتابة روايتها، رغم حضور معطياتها، كخوفها من حكم أمّها عليها من خلف حجاب الموت، خصوصا أنها لم تكن تنظر بعين الرضا إلى احتراف ابنتها للكتابة.
هنالك أيضا المحظور الديني الذي يمنع في شرقنا من كشف الحميمي، "خصوصا حين يتعلق الأمر بالنساء"، فضلا عن اللغة الفرنسية التي كانت الكاتبة على يقين من أنها "أبدا لن تتمكن من قول أمي".
في الفصل الأول، نشاهد الراوية قرب أمها يامنة في المستشفى الذي لن تلبث الحياة فيه أن تسير على وقع زيارات أفراد العائلة والأصدقاء، وأيضا على وقع تذكّر الكاتبة هذه الأم التي "لم تكن ترفض الواقع، لكنها كانت تترك الباب مفتوحا للخارق الذي كان يأخذ مكانه في حياتها اليومية وينظّمها على هواه".
"رواية "جسد أمي" غنية بقصص الجنّ والشعوذة، وبتفاصيل لا تحصى حول عالم المرأة القروية ولوازم زينتها وتبرّجها، كالحلي والعطور والكحل والأقمشة والأزياء التقليدية"
حياة يامنة
وتتذكّر الكاتبة صوت أمها الذي "كان يفصح عن مخالطاتها الغريبة كما نفصح عن حقيقة لا نقاش فيها"، وأصابعها التي "كانت ترسم في الهواء باقة من الشخصيات والمشاهد" بينما "كان رنين أساورها يمنح الإيقاع لحكاياتها".
ومع مرور الأيام، تزداد مخاوف الراوية من عدم خروج أمّها من غيبوبتها ورحيلها مع أسرارها، فتسعى عبثا إلى سد عطشها عبر مساءلة أفراد العائلة عن حياة هذه الأم. وفقط حين تستسلم لفشلها، تتلقى قصة والدتها من خادمة هذه الأخيرة، نعيمة.
هكذا تخرج قصة زواري في الفصل الثاني من المستشفى للتمدد داخل فضاء أوسع تتقابل فيه الحياة الريفية في قرية الأم التي تتحكّم فيها التقاليد والأعراف، والحياة الحضرية في العاصمة تونس التي تسير على وقع الحداثة المتفشّية.
وإذ نترك للقارئ متعة اكتشاف قصة يامنة المثيرة والمؤثرة، نشير إلى أن الإطار الجغرافي الذي ترسم الكاتبة معالمه بدقّة في نصّها يسمح لها بتصوير وضع تونس خلال الاستعمار الفرنسي، ثم خلال الاستقلال، وأيضا مناورات سلطة الاستعمار في هذا البلد.
ويسمح هذا الإطار أيضا لها بتسيير شخصيات كثيرة غنية بالألوان، بعضها واقعي والآخر خرافي أو أسطوري، مثل غدور والد يامنة، الذي كان يلاحق العذارى للإيقاع بهن وكان السبب في تعاسة أمها بزواجه من امرأة أخرى لن تلبث أن تصبح عدوة يمنى اللدودة، والفرنسي جوافر الذي استقر في القرية وشيّد سكة الحديد فيها قبل أن يعتنق الإسلام ويصبح وليا بعد وفاته، وإمام القرية الذي سعى جاهدا إلى منع أي تطوّر في سلوك أبنائها...
ويجب انتظار الفصل الثالث من الرواية وتناوُل نعيمة فيه حياة يامنة في العاصمة تونس إثر مرضها كي تفهم الراوية لماذا اختارت أمها سرد قصتها للخادمة وليس لأولادها.
قصة نموذجية
فهؤلاء الآخرون لم يعوا مدى تألمها لإبعادهم إياها عن قريتها حيث كانت لها الكلمة الفصل في حياة أهلها، كما لم يدركوا، ببحثهم الحثيث عن غزيرة الأم فيها، أن الضرورة الوحيدة التي وجّهت حياتها في القرية كانت أن تبقى حبيبة زوجها الوحيدة وتتجنّب مصير أمها.
ولعل قيمة هذه الرواية تكمن في هذه النقطة بالذات، أي في استعانة زواري بقصة أمها النموذجية من أجل منحنا صورة دقيقة عن حياة المرأة داخل المجتمع القروي وصعوباتها، كما تكمن في أسلوبها الغنائي الرائع الذي لا يخلو من طرافة، حتى حين يتعلّق الأمر بأحداث مؤلمة أو بطُرَف ذات طابع مأساوي.
أسلوب ينتمي في بعض جوانبه إلى الواقعية السحرية ويعكس في سلطته التعبيرية تمكّن زواري الكبير من اللغة الفرنسية، ويفسّر المتعة التي نشعر بها لدى قراءة نصّها الغني بقصص الجنّ والشعوذة، وأيضا بتفاصيل لا تحصى حول عالم المرأة القروية ولوازم زينتها وتبرّجها، كالحلي والعطور والكحل والأقمشة والأزياء التقليدية.
ولا شك أن ذلك يمنح الرواية بعدا سوسيولوجيا أكيدا ويجعل منها شهادة قيّمة حول عادات المجتمع القروي في المغرب العربي وتقاليده وطقوسه وظروف حياة الفرد فيه.