الخرطوم - العرب اليوم
في ظلّ التطور المتسارع الذي تشهده البشرية في كل مجالات العلوم، فإن عدم وجود مصادر المعرفة التي تغذّي الروح والعقل– الذي قد يكون ترفًا لا مجال له في مدن عدة حول العالم –من شأنه أن يهدّد مستقبل جيل بأكمله. وفي مواجهة هذا الوضع، هناك من يستسلمون للأمر الواقع، ليسقط الكتاب وما يمثله من قيمة معرفية من قاموس وجودهم، في حين ثمة آخرون يؤمنون أن لا شيء يمكن أن يحول بينهم وبين الكتاب. بطل حكايتنا طه عثمان، ابن الثمانية أعوام من السودان، من هؤلاء الذين لا يسمحون للواقع بأن يقهرهم، هو الذي رغم يفاعة سنه، اكتشف معنى أن تكون قارئًا من الصغر، فقاده شغفه بالمعرفة إلى الغوص في عوالم الكتب المثيرة، محققًا تميزًا جعله محطّ إعجاب أسرته وأساتذته. ليس هذا فحسب، بل أن مشروع طه لم يعد مشروعًا فرديًا، لتثبتَ القراءةُ أنها كثمرة يمكن أن تكبر بسرعة لتصبح شجرة، تظلِّل مجتمعًا بأكمله.
وتبدأ قصتنا مع طه، التلميذ في المدرسة الذهبية في الخرطوم، منذ تعرّفه للمرة الأولى على مشروع "تحدي القراءة العربي" الذي أطلقه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وكانت تلك لحظة فارقة في حياة عثمان وعائلته وحتى المدينة التي يقطنها.
وتقول والدته: "جاءني طه ذات يوم وهو يردد أغنية، قائلًا: "يا ماما، أنا عايز أشترك معاهم". لم أفهم ما يقصد في البداية، حتى طلب منّي أن أغيّر محطة التلفزيون، وأن أتابع الإعلانات التي جاء ضمنها إعلان المسابقة.كان قد بقي يوم واحد على انتهاء التسجيل، ومع ذلك، أصرّ طه على الاشتراك على الرغم من أن الشروط تقتضي أن يتم ذلك عن طريق المدرسة وألا يكون اشتراكًا فرديًا".
وأضافت: "لم تتوفر لدينا أية معلومات عن المسابقة في حينه، لكن بعد أن أجرينا بحثًا على الإنترنت، اكتشفنا أنه لا يمكن دخول المسابقة من دون موافقة المدرسة وإشرافها. وهكذا، ذهبنا في اليوم التالي إلى المدرسة، وأقنعنا المدير بإرسال بياناته إلى المسابقة كي يتاح لكافة الطلبة المشاركة، وفي الوقت نفسه طلبنا تمديد فترة التسجيل كي يتم إفساح المجال للجميع للتشاور مع أهاليهم قبل القيام بالتسجيل في المسابقة. والحمدلله شارك عددٌ كبير، وبالتأكيد سوف تكون لهذه الذكرى الجميلة أكبر الأثر في حياة الطلبة في المستقبل، فالمسابقة حفّزت فيهم حبّ المطالعة والفضول للمعرفة".
وأظهر من البداية طه حرصًا على إتمامالمسابقة حتى نهايتها، دون أن يسمح لأي شيء أن يعطله عن هدفه؛ فما أن ينتهي من واجباته المدرسية حتى يبدأ بتلخيص الكتب التي يقرأها من أجل تحدي القراءة العظيم. لم تكن المسابقة هي السبب الوحيد لطه كي يقرأ، فهو محب للقراءة، ويقبل عليها بجدية تامة، لعلمه أنها الأساس الذي سوف يقوده إلى النجاح في المستقبل. فقد كان يلتهم الكتب الموجودة فيمكتبة المنزل والتي تغطي مجالات معرفية شتى، مظهرًا شغفًا كبيرًا.
وتقول والدته إنها كانت تشفق عليه وهي تراه منكبًا على تلخيص الكتب التي يقرأها حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد علت وجهه علامات التعب والإرهاق. وفي كل مرة تعرض عليه مساعدته في أداء واجباته المدرسية أو على الأقل مساعدته في كتابة ملخصات الكتب، كان يرفض بشدة. وكثيرًا ما حاولت أن تقنعه بأن يسترخي بعض الشيء، فالأمر لا يعدو أن يكون مسابقة، ويمكنه أن يشارك في العام المقبل، لكن طه لم يكن ليخفِّف من جهده أو يفكِّر بالتراجع أبدًا، على الرغم من قصر فترة التحضير للمسابقة، حتى أن آخر كتاب قام بتلخيصه كان في الصباح، قبيل دخوله على لجنة تقييم تحدي القراءة.
ويمتلك طه هوايات أخرى إلى جانب ولعه بالمطالعة، كالإخراج وكتابة سيناريوهات لأفلام قصيرة، يعبر فيها عن آماله وأحلامه ومشاعره التي تلتقي وأحلام ومشاعر الناس من حوله. وبالتأكيد، أسهمت قراءاته الغزيرة والمتنوعة في شحن خياله الخصب بأفكار العديد من قصصه وسيناريوهاته، مجسدًا بذلك مقولة: الكاتب الجيد هو قارئ جيد بالضرورة. ولما كانت القراءة تصنع إنسانًا أكثر قدرة على التأثير في من حوله، لتعزِّز بذلك صفة الشخصية القيادية، فإن الفتى طه يسير على طريق القادة، وذلك بشهادة معّلمه في المدرسة الذهبية معاذ التيجاني أحمد صالح، الذي يقول عنه بأنه ليس فتى متفوقًا فحسب، بل يمتلك سمات قيادية تؤثر في الناس من حوله نحو الأفضل، لذا يتوسم فيه بأن يصبح يومًا ما شخصية عامة في المجتمع، لها تأثير بيّن.