بكين - لبنان اليوم
“تحبَل في الصين فتخلّف عندنا”، مثل سمعناه كثيراً في كل أزماتنا لكنه هذه المرة يتخذ معنى حرفياً، فالصين الحبلى بفيروس كورونا القاتل صدّرت إلينا الخشية من هذا الفيروس رغم طيب العلاقات بين البلدين. والخوف ليس من انتشار الفيروس بالهواء بل هو خوف على مولود آسيوي لنا تبنيناه منذ عقدين وتعلقنا به هو الـ”سوشي”، الذي عاد الى أصوله وصار في موقع اتهام مضطراً الى الدفاع عن نفسه بسلاح الليرة.
يحكى أن شاباً كان مغرما بصبية لكن الحال ضيقة والماديات “على القدّ”، فكان كلما أراد دعوة محبوبته إلى الغداء يعزمها على أكلة فلافل، على أساس المثل القائل “إذا كان ما باليد حيلة فالفلافل بتنقضى بفلوس قليلة” إلى أن أُتخمت الصبية وطلبت فسخ الخطوبة لأن “الفلافل عال بس مش عال عطول…”
اليوم الفلافل عال… تشهد أيام عزها وتتدلع وتتكبر بعد أن بات الـ”سوشي” منافساً لها يزاحمها على معدة الفقير وجيب الغني. الـ”سوشي” برستيج اللبنانيين الذي حل عندهم كصرعة في بداية الألفية الثالثة وصار وجوده كوجود القوات السورية سابقاً، “ضروري، شرعي و( غير) موقت “يعيش اليوم أزمة وجودية فرضها عليه ضيف ثقيل آت من الصين وشائعات كثيرة آتية من حيث لا نعلم. أزمة أنزلت الـ”سوشي” عن الرف، أنهت أيام عزه، كسرت هالته وجعلته يقارع الأكلات الشعبية. هو الكورونا فتك بالصين وأهلها وجاء شبحه ليفتك عندنا، بغير وجه حق، بما تبقى لنا من اقتصاد ومطاعم تعمل.
لم يدخل الكورونا الى لبنان، فوزير الصحة يترصده على المطار باجتهاد قلّ نظيره، ولم تسجل حالات مشبوهة بالفيروس القاتل، فلا قادمون عندنا من الصين، لكن الـ”سوشي” كان أول ضحايا الكورونا في لبنان والمطاعم وأصحابها أول المصابين.
الـ”سوشي” الذي بات من أكلاتنا التراثية المفضلة، ورمز الارتقاء على سلم ريختر الاجتماعي هو اليوم في خطر. اللبنانيون خائفون من تناوله، يخشون أن يخفي في ثناياه شيئاً من ذلك الفيروس، يتعاطون معه بحذر. فهل يستطيع اللبناني أن يحيا بلا “سوشي”؟ هل يمكن ان يعود الى زمن الكبة النية وسندويش الفلافل؟ وهل ما زال قادراً على تناول الفلافل بعد أن كاد سعر الدزينة يوازي سعر دزينة الـ”سوشي”؟ إذا احتسبنا الارتفاع الجنوني في سعر الحمص والفول والفاصوليا البلدية وهي مكونات الفلافل التي كادت تتفوق على سعر السمك والقريدس وتوابعهما!
نقابة أصحاب المطاعم والملاهي والباتيسري استدركت الأمر وطمأنت اللبنانيين الخائفين ان الفيروس لا ينتقل من حيوان ميت الى إنسان حي، بل ينتقل فقط من جهاز تنفسي الى جهاز تنفسي آخر وكل مكونات الأكلة المتهمة الآتية الى لبنان تخضع لرقابة قوية. لكن اللبناني الذي لم يعد يثق كثيراً بكلام المسؤولين لأي جهة انتموا ومن اي فئة مسؤولة كانوا، ما زال حائراً بين التصديق والعودة سعيداً الى أحضان الـ”سوشي”، وبين التأني والتأكد من سلامة أكلته المفضلة وخلوها من أي أثر للفيروس. لكن ما لا يعرفه اللبناني ان أكلة الـ”سوشي” اختفت من الصين مع اختفاء سلالة أباطرة منغ حوالى العام 1644، وأن المسافة التي تفصل الصين البلد المنكوب بالفيروس عن اليابان منشأ الـ”سوشي” وبلده هي أكثر من 3000 كلم، وأنه في المبدأ ليس هناك ما يخشاه من سمكة عبرت مئات آلاف الأميال لتصل إلينا وقضت هي وصحبها من قريدس وحنكليس وأخطبوط أياماً وأياماً في الثلاجات قبل أن تحط على موائدنا. وما لا يعرفه اللبناني ربما، او يغض النظر عنه، أن التلوث الذي يعيش فيه براً وبحراً و جوّاً يحمل أمراضاً وجراثيم وأوبئة قد تكون أشد فتكاً من الكورونا وامثاله.
وكأن ما فينا لا يكفينا حتى جاءت أخبار الكورونا لتضرب قطاعاً لبنانياً كان حتى الأمس القريب لا يزال يتحدى الأزمة الاقتصادية وشح السيولة ويقف في وجههما مترنحاً إنما صامداً. دق أصحاب مطاعم الـ”سوشي” ناقوس الخطر وأعلنوا حالة طوارئ تسويقية.
صاروا كالباعة المتجولين ينادون على اطباقهم بأعلى صوت: القطعة بألف، القطعة بألف والمية بخمسة وسبعين… العروضات مذهلة والأسعار بالأرض، زورونا تجدوا ما يسركم… فالأعمال شهدت تراجعاً ملحوظاً بفعل الخوف والحذر فكان لا بد من التحرك لتحريك سوق الـ”سوشي” من جديد. وعلى قاعدة “ما أطيب من البقلاوة إلا الخل ببلاش”، انهمرت العروض وعمل أصحاب المطاعم على تكسير الأسعار بشكل غير مسبوق حتى كاد الـ”سوشي” يصبح بالفعل أكلة الفقير وبالليرة كمان.
وكان العشاق أول الفرحين بهذا “الانهيار في سعر صرف الـ”سوشي”،” فحوْل القطع الملونة العابقة برائحة البحر والتوابل يلتقي قلب العاشقين في ليلة فالنتاين، وعلى نكهاته وألوانه تغرد عصافير البطن والحب بينهما. عروضات الفالنتاين ملأت شاشات التواصل فتفوقت على الورود والدباديب الحمراء ومنحت العشاق ما يحتفلون به.
يبقى السؤال الملحّ هنا هل الكورونا وحده هو ما تسبب بأزمة لمطاعم الـ”سوشي”؟. يقول السيد وسام الخوري صاحب عدة فروع من سلسلة مطاعم Sushi Star المعروفة أن تأثير الكورونا موجود لكنه لم يتخط 20%، وذلك لأن الشعب اللبناني ينسى بسرعة، يهب في البداية في همروجة كبيرة ثم يهدأ ويعود الى ما كان عليه. ويضيف: “لقد كنا أول من أطلق عروضات الـ”سوشي” قبل الأزمات كلها ووضعناه في متناول الناس، وجعلنا الحبة بدولار بعد أن كان نخبوياً وأسعاره نار. أما اليوم فلسنا نبالغ في العروضات ولم نجعل أسعارنا بالأرض لأننا لسنا مذنبين ولا بصدد الدفاع عن أنفسنا. لقد أصدرت نقابة المطاعم بياناً أوضحت فيه كل الأمور المتعلقة بالـ”سوشي” وبفيروس الكورونا الذي لا يعيش لأكثر من 12 ساعة خارج الجسم ثم يموت، فكيف يمكنه أن يصل إلينا بالشحن من الصين؟. لقد أصررنا على إبقاء عروضاتنا ذاتها لاجتذاب الزبائن الذين أنشأنا بيننا وبينهم علاقة ثقة، ولكن لا يمكننا تخفيض الأسعار على حساب النوعية، فنحن نستورد مكوناتنا من بلدان اوروبية لا آسيوية وكل المكونات تخضع لرقابة ونحرص في العروضات التي نقدمها اليوم على إبقاء الأصناف ذاتها فلا نلغمها بالأرز كما يفعل الكثيرون. فاتورتنا
بالليرة اللبنانية ودولارنا ما زال بـ 1500 ليرة ومكوناتنا كلها طازجة بنوعية لا تحتمل الشك. بعض الزبائن واعون يسألون ويستفهمون عن كل شيء لا سيما النساء، والبعض الآخر لا سيما الشبان “مش فرقانة معهم” يريدون فقط الاستمتاع بأكلة سوشي طيبة. لكن لا شك هناك ” نقزة ” من الأسعار في البداية تتبدد بعد التدقيق بالأسعار المطروحة التي لم تتغير عن السابق.
أكيد أن الكورونا ليس المذنب الوحيد في ما آلت إليه حال الـ”سوشي”، فمطاعمه تأثرت كغيرها بالأزمة الاقتصادية وتراجع الشغل وخف عدد الزبائن نتيجة حالة الناس المادية وفقدان السيولة من بين أيديهم، ولم يعد أصحاب المطاعم يجدون من يدفع فاتورته بالدولار كما في السابق، ليتمكنوا بدورهم من تسديد مشترياتهم من الخارج بالدولار ولا شك أنهم سيجدون أنفسهم قريباً مجبرين على زيادة الأسعار للتمكن من الاستمرار.
ويروي احد العاملين في هذا القطاع أنه في بداية الثورة كان “الشغل نار” وكان الناس يلتقون في المطعم للكلام في السياسة ولكن بعد رأس السنة شهد السوق جموداً كبيراً، وكأن الناس قد أحسوا بالسخن وبدأت القلة تفعل فعلها فيهم. يقول: يأتي الناس إلينا حذرين ويسألوننا بداية إذا كان بين موظفينا صينيون، ثم يسألون عن مصدر اسماكنا والحذر هنا مشروع والسؤال منطقي ويتكرر في كل بلدان العالم حتى أكثرها تشدداً بالقوانين. بعضهم يمزحون بسماجة مع العاملين الآسيويين ومعظمهم من الجنسية الفيليبينية، وبعضهم يتظاهرون بالمرض عند تناول القطعة الأولى، لكن بعيداً من السماجة فإن معظم الزبائن يثقون بالمطعم الذي يقصدونه بخاصة إن كانوا معتادين عليه. إنما باتوا يلاحظون أي ارتفاع في السعر ولو طفيفاً ويجادلون حوله. ويبقى الأمل الآن معقوداً على فترة الصيام عند المسيحيين وهي التي تنعش مطاعم الـ”سوشي” ومحلاته، حيث تحل اسماكه النيئة ومخلوقاته البحرية محل الزفر واللحم في الأطباق، وتعوض الصائمين عن بروتينات يفتقدونها.
والـ”سوشي” مقامات فمنه التجاري بالسومون والقريدس والسلطعون، ومنه رفيع المستوى بالأخطبوط والحنكليس والإسقالوب البحري. وإذا كان الأول في متناول البروليتاريا فالثاني نخبوي لا يقدر عليه إلا المقتدرون مادياً. والعروضات تفهم اللعبة جيداً ولا تكون إلا على أصناف الفئة الأولى المدعمة بكمية لا بأس بها من الأرز، أما الفئة الثانية فلا عروض فيها بل زيادة في الأسعار قد طاولتها اكتشفها المتمرسون بالـ”سوشي” بسرعة.
ختاماً يبقى أن نتمنى أن تعبر الأزمة على خير عندنا كما في الصين، وألا نستورد المصائب ونساهم في تعظيمها كمن يجلد نفسه. أتركوا لنا الـ”سوشي”، أخذتم كل شيء فلا تحرمونا من أكلة توحمت بها أمهاتنا ورضعنا حليبها صغاراً… في ثورة الفلافل أتركوا لنا الـ”سوشي”…
قد يهمك ايضا:
تعرف على المدارس المُستدامة المحافظة على البيئة لمواجهة صعوبات المستقبل حول المناخ