باريس - لبنان اليوم
وأوضح موران، أنه كان هناك أوبئة عالمية، لكن لم يسبق أبدا أن كان هناك حجر صحي على النطاق العالمي، كما كانت هناك اضطرابات وارتجاجات اجتماعية أثارتها الأوبئة، لكن لم يسبق أن كان هناك اضطراب عالمي، لافتًا أنه كان من بين أولئك الذين ذهبوا إلى أن المجرى المجنون الذي انجرفت في خضمه الإنسانية سيحمل معه كوارث، لكن مثل هذه الكارثة لم تكن تخطر له على بال.
وأشار عالم الاجتماع الفرنسي، إلى أن الحظ كان في صفه بأن جعله يعيش في مثل هذه السن تجربة الحجر الصحي في المنزل بدلا من دار المسنين، كما أنه محظوظ بعيش الحجر الصحي إلى جانب زوجة تحبّه وتعتني به، بجانب أن تكون له حديقة تتيح له الجلوس تحت شجرة الويستارية مستمتعًا ببداية فصل الربيع، وأن يكون له جيران طيبون يتسوقون له.
وتابع: كما أن بناته وأسرته الرائعة وأصدقائه، القريبين والبعيدين، جميعهم حاضرون عبر الهاتف و"سكايب"، غير أنه يفكّر في كل المآسي الناتجة عن الحجْر، من الاكتظاظ في الإقامات الصغيرة إلى النساء المعنَّفات والأطفال المرعوبين؛ موضّحًا أن الحجر الصحي يُضاعف الاختلافات والخلافات في العلاقات الزوجية، وبالتالي قد يحطمها، مثلما يشجع تواصلًا وتفاهمًا جديدًا كذلك، فقد صار له مع زوجته الكثير من الوقت لأجل التبادل والتواصل.
ولفت موران أن أيامه في ظل الحجر الصحي لا تعاني فراغًا، وهي ممتلئة تمامًا، فقد صار يباشِر أنشطته من بيته عبر "سكايب" والبريد الإلكتروني، إذ يلِجُ العالم البيوت عبر ما هو رقمي، ليحُثَّ الجميع دون توقف على مساءلتِه وليُسَائِلَنا، موضّحًا أنه له طقْسا يوميًا رفقة زوجته هو طقسُ التبادل حول معلومات التلفزيون والمذياع والجرائد ليبحثوا سويًا عن مراجعتها وخلق تقاطع على نحو أفضل بين المعلومات التي تخص الوباء؛ في ما يتعلق بمساره، وعلاجاته، ووجهات النظر المتنوعة والمتعارضة أحيانا للأطباء والبيولوجيين بخصوصه، إضافة إلى ما أحدثه الوباء من أزمات في الصين، أضف إلى ذلك ما صرنا نتوفر عليه من إمكانية أكبر لأن نتشارك في كل ما نتوصّل به من قبيل طلب إجراء حوارات أو تقديم مقالات، وهو ما تتعاون فيه معه صباح بآرائها وتأملاتها. فكل شيء يظل متحركا وغير يقيني، وما نحاوله هو أن نضع تقييمًا.
ومن جهة أخرى نحن نُثمِّنُ النكت وأشكال التصوير الكاريكاتوري والرسائل السَّاخرة التي أثارها الحجر الصحي باعتبارها أجساما مضادة أو مضادات للاكتئاب. وعلى وجه الإجمال قد جنَّبنا التواصل من كل نوع الشعورَ بالحجر الصحي كما لو كان حبسا واحتجازا.
وعمّا إذا كان يظن مثل كامو أن "الناس وسط المحن يكون ما يثير الأعجاب فيهم أكثر بكثير مما يدعو إلى الاحتقار والازدراء"، لفت موران أنه إذا كانت هناك بعض الأفعال الدنيئة والخسيسة (عمليات سرقة الأقنعة، عمليات احتيال بخصوص الوعود الزائفة بتوفير أدوية مثلا)، فإننا لم نعْدم تجليات مدهشة للتضامن الذي كان يشارف على التلاشي، انتشرت في صفوف المعالِجين بالدرجة الأولى ثم عمَّت كل مكان تقريبا، على مستوى تقديم يد المساعدة بشكل عفوي لمن يعيشون في وضعية عزلة وللأشخاص المسنين، وللبؤساء، ولمن لا مأوى لهم، ومما يبعث على العزاء أيضا أن نرى نكران الذات الذي أبَان عنه العديد من الشباب في الأحياء المهمَّشة؛ فقد كانت هناك صحوة للتضامن الجمعي وجدت تعبيرها الرمزي عبر التصفيقات من شرفات المنازل.
وعن شعوره حين سمع الرئيس يقول أن البلاد في حالة حرب، أوضح أنه أحسّ بأن الاجتياح تم فعلا، لكن من طرف عدو ليس عدوًا إنسانيًا، وبأنه لا مناص لنا من المقاومة، وبإيجاز، كانت للفظ الحرب قيمة استثارة إجراءات الاحتراس (وتبرير الإجراءات التي اتخذتها السلطة) ولم يكن لأجل تعريف الوضعية وتحديدها على الحقيقة، وهو ما يعني، كما عليه كان الحال إبَّان حرب 1940، أن هناك الكثير من انعدام الإعداد وأشكال الضعف ومن الأخطاء، ولم يعد في مقدورنا إقامة طقوس تليق بوداع موتانا، ما هي آثار ذلك على علاقتنا بالموت، وعلاقتك أنت بالموت. ألا تقودنا الحياة بشكل مفجع إلى نهايتنا؟
ووأشار إلى أن ما يقتضيه موت قريب هو ضرورة مرافقته إلى أن يتم دفنه، إذ تلزمنا طقوس ومأتم جماعي، لأن الأحياء يكونون بحاجة إلى التطهر من الألم داخل ضرب من المشاركة. ومع فقدان طقس ديني يكفل العزاء والمواساة، يشعر العلمانيون، وأنا منهم بالحاجة إلى الطقوس التي تعمل بشكل مكثف على بَعْث وإعادة إحياء الشخص الميت في أنفسنا وتُخمِد الألم بنوع من الأوخارستيا Eucharistie أو القربان المقدس، ومَثَّلت عمليات الدفن المستعجلة أحد المظاهر الكارثية للحجر الصحي، إذ يتم الاستشهاد بحالة في إيطاليا وصل فيها الأمر إلى حد الإلقاء بجثة ميت في القمامة لغياب مكان لدفنه بالمقبرة.
وتابع: "لقد انتظرت، من جهتي، أن أموت في الثمانين من عمري، وبعد أن تجاوزت التسعين تعودت على الاستمرار في الحياة، لذلك فقد الموت ما يُمكِّنه من إثارة ذهني حتى وإن علِم علْم اليقين بدنوه وقربه"، موضّحًا أن شباب زوجته قد أثَّرَ علي بما يشبه العدوى. لأنها تجذبه نحو الحياة أكثر مما تجره صوب الموت، لافتًا إلى أن التهديدات المميتة متعددة: تحلل الكوكب الأرضي وتكاثر الأسلحة النووية، وعودة صور البربرية.
ونوه أنه في الأخير هذا الفيروس المكتسح الذي فرض التخلي نهائيًا عن أسطورة الإنسان سيِّدُ مصيره وسيِّدُ الطبيعة، فنحن في الوقت نفسه أقوياء جدًا وواهنون إلى أقصى حد، ظافِرُون على صعيد تقنيَّاتِنا، عاجزون أمام الألم والموت.
وعلى العكس من حلم أصحاب النزعة المابعد إنسانية، يقول موران، إن الإنسان إن كان في استطاعته تأخير موته الطبيعي، من الضروري أن يواجه دائما الحوادث وأصناف البكتريا والفيروسات التي تعرف كيف تتحول كي تعيد إنتاج نفسها، لذلك فإن ما يلزم الاعتراف به هو أن كل شيء إلى زوال وموت بما في ذلك شمسنا وكوننا، ما يجعل من حياتنا المؤقتة والظرفية هي خيراتنا الوحيدة التي لا ينبغي تبديدها وتبذيرها.
وعن قوله إن الحجر الصحي يمكن أن يكون ناجعا لأجل تنقية نمط العيش مما علق به من سموم، قال إنه قبل الوباء تشكَّل بالتدريج ولكن ببطء اتجاه، وإن كان ممثلوه قلة، من أجل مواجهة النزعة الاستهلاكية، والجبروت الذي يمارسه الزمن المقاس بدقة، ولأجل محاولة العيش بشكل أفضل، وما يقوم به الحجر الصحي هو أنه يساعدنا على أن نَعِي ما كنا نعرفه جميعا على نحو غامض: أن الحب والصداقة وازدهار الذات داخل جماعة والتضامن هي القيم الحقيقية. وإمكانية الاستمتاع بالروائع من الأعمال في فراغ الحجر الصحي يمكنها إعانتنا على البحث بشكل أفضل عن شعرية الحياة. ماذا تبقى منها؟ لست أدري.
ولفت إلى أن الإنذار البيئي العالمي تم إطلاقه منذ خمسين عامًا من طرف تقرير Meadows ميدوز(صدر سنة 1972)، لكن الوعي يبقى بطيئًا جدًا وغير كافٍ بشكلٍ كبيرٍ أيضًا، موضّحًا أنه يعتقد أن عالمًا جديدًا سيكون ممكنًا، لكنه إلى حدود الآن غير متمتع بالأرجحية؛ لأن القوى التي تحافظ على الوضع كما هو تبقى هائلة، وما يشهده الفكر السياسي من فراغ هائل، بحكم ارتفاع الطلب في كل مكان على الفكر التجزيئي الذي يختزل كل شيء إلى الحساب، كما أن الربح المنفلت من كل عقال يعمل على تقويض كل عملية للتضبيط والتنظيم. ولا ينبغي، فضلًا عن ذلك، نسيان التوجه التقدمي النزعة العالمي خلال العشر سنوات الأخيرة.
ولفت إلى أن أزمة الديمقراطيات وما شهدته أمم عظيمة من انتصار وظفر للديماغوجيات، ثم الأزمة العامة للفكر السياسي. وما أنتظره هو حصول مُنعطف غير محتمل الوقوع يعمل على تعديل التطور الجاري. لكن يمكنه قول هذا التساؤل: "هل تؤمنون بميلاد عالم جديد؟"، يشكل جزءا من الأسئلة التي غالبا ما يتحدّث مع زوجته وأصدقائه حولها، لافتًا إلى أنه حاول استخلاص طريق جديد (كتاب طريق 2012 la Voie)، وهو الطريق الذي يبدو مخَلِّصًا وناجعًا.
وبخصوص الخروج من الإغراء الذي يمارسه الانطواء على المستوى العالمي والشخصي في الوقت نفسه، وهل مازال بالإمكان التفكير في الحل الكوسموبوليتي، أوضح أن الوباء أدى إلى انطواء وانغلاق الدول الوطنية على نفسها، وإذا ما كانت هناك أزمة اقتصادية كبرى بعد الوباء سيتفاقم الميل إلى النزعات الوطنية القائمة على كراهية الأجانب، بل وحتى نزعات وطنية عنيفة، فمسرحية اوجينيونسكو Ionesco "وحيد القرن" على سبيل المثال، تتحول كائنات إنسانية بالتالي إلى حيوانات وحيد القرن، وإذن فليحاول كل واحد منا ألا يتحول إلى وحيد القرن! والحل الكوسموبوليتي لكونفدرالية عالمية يبقى حلا مأمولا، وممكنا تقنيا، لكنه غير ممكن حاليا. لذلك فما يلزم كشرط مسبق هو الوعي القوي جدا بالمصير المشترك لجميع الكائنات الإنسانية.
وبالنسبة للتفكير في في علاقتنا بالآخر من منظور الإيثار والود أكثر من زاوية الجسد والحب، قال موران، إنه تعرّف الصداقات الحقيقية في ظل الحجر الصحي والتي ازدادت متانة، والعلاقات الزوجية تم اكتشافها وتعرّفها بشكل أفضل، غير أن الحجر الصحي يبقى رهيبًا بالنسبة للعلاقات الزوجية الجهنمية أو التي هي في طور الانحلال، لذا لا بد من التفكير في أن كل "أنا" هي حاجة إلى "أنت" وإلى "نحن".
وأشار موران، أن الثقافة صارت أكثر قابلية لأن يتم الولوج إليها مع إمكانية الإطلاق المجاني على شبكة الأنترنيت للأوبرا ومتاحف وبعض الكتب، موضّحًا أنها مبادرات هامة من أجل فتح الثقافة على ثقافة أولئك الذين ليس لهم منفذ إليها؛ وهو ما سيولد دون شك صورا من الافتتان الجمالي لدى أولئك الذين يكتشفون الأعمال المشهورة، أما بالنسبة له فلا يسعه سوى الحث على قراءة الكتاب الذين أحبهم، بالدرجة الأولى دستويفسكي.
وتابع أنه لا يعلم أن تيارات فكرية وفنية ستشهد ميلادها من رحم هذه الفترة، وفي كل الأحوال سيكون هناك فن وسخرية من الحجر الصحي مع تزايد الطرائف والنكت ومقاطع فيديو قصيرة والمحاكاة الساخرة التي يتعين المحافظة على بعضها، موضّحًا أنه يود احتضان من أكره على الانفصال عنهم، عند نهاية فترة الحجر الصحّي.
قد يهمك ايضا:إدغار موران يؤكّد أنّ اختلاف آراء العلماء يثير الشكوك في نفوس المواطنين