بيروت - لبنان اليوم
بات الاهتمام بالفنون يضعف يوم بعد يوم، فليست أولوية أحد في المنطقة العربية، وسيتسبب هذا الإهمال بتهديد وجودي لها في الأشهر المقبلة وهي تجتاز أزمتين عصيتين في وقت واحد: الإغلاق بسبب الوباء وما سيستتبعه من بطء للنشاطات قد يمتد طويلًا، تضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية، وهو ما يهدد كثيرًا من المؤسسات الثقافية بالتوقف والفنانين بالبطالة، والكادرات الإبداعية التي هي ثروة بشرية يصعب تعويضها بالتشتت. وإذا كانت المنطقة العربية كلها تعاني، فإن لبنان هو الأكثر وجعاً بسبب توالي الأحداث التي بدأت باندلاع الثورة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تلاها الانهيارين الاقتصادي والنقدي، ومن ثم ما حملته جائحة كورونا من شلل لمناحي الحياة كافة.
وخشية على العمل الثقافي، الحلقة الأضعف اجتماعياً، بدأت جهات مانحة بالإعلان عن أشكال مختلفة من الدعم والتمويل، في محاولة لاحتواء الأزمة. ففي منتصف الشهر الماضي، أطلق كل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) ومؤسسة المورد الثقافي برنامج «صندوق التضامن» لدعم المؤسسات الفنية والثقافية في لبنان، وهو التعاون الأول بين المؤسستين الإقليميتين. وفي الصندوق ما يقارب 800 ألف دولار ستمنح لعدد من المؤسسات، قد تصل إلى 16 مؤسسة، قيمة الدعم يبلغ 80 ألف دولار أميركي كحدّ أقصى للمؤسسة الواحد. والهدف هو إعانتها على تجاوز هذا الظرف الذي لم يسبق للبنان أن مرّ بمثيل له، حتى خلال الحرب الأهلية في سبعينيات وثلاثينيات القرن الماضي. ويأتي الدعم لـ«صندوق التضامن» من ممولي آفاق والمورد الثقافي، بما فيهم مؤسسات المجتمع المفتوح ومؤسسة فورد. وينتهي تقديم الطلبات على موقعي المؤسستين في 15 من يونيو (حزيران) الحالي.
ويختلف هذا الدعم عما تتلقاه المؤسسات الثقافية عادة لأنه غير مرتبط بتنفيذ مشاريع محددة، إنما الهدف منه هو إعانتها على الحفاظ على وجودها، وإعادة التفكير بمواردها وأهدافها ونشاطاتها وهيكلتها، وربما إعادة النظر بدورها، أو إمكانية التعاون مع مؤسسات أخرى. بكلام آخر، ما هو مطلوب اليوم هو حماية هذه الكيانات من الانهيار، بعد سنوات خصبة من العمل الإبداعي.والمخاوف على العمل الثقافي في لبنان لم تبدأ مع كورونا، وإنما باندلاع الثورة اللبنانية في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وثمة نقاشات تمت وتتواصل بين المبدعين أنفسهم، وبينهم وبين الممولين المتبقين، خاصة أن بعض من كانوا يضخون المال في الحياة الثقافية لم يعد لهم وجود، أو باتوا في أزمة، مثل المصارف على سبيل المثال.
وتشرح لنا ريما المسمار، المديرة التنفيذية للصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، أن «طلبات المتقدمين لمنحة الصندوق ستدرس من قبل لجنة محايدة، مكونة من 3 أشخاص لهم معرفة بالسياق الثقافي والفني وإدارة المؤسسات. وميزة هذه المنحة تحديداً أنها ليست مشروطة، ولا مرتبطة ببرنامج، والأهم أنها ستصل بسرعة لأصحابها، مراعاة للحاجة الداهمة لها. وتترك للحاصلين على المساعدة مهمة التصرف بها بالطريقة التي يرونها مناسبة لهم». وتختم المسمار حديثها بالقول: «الفنانون باتوا يدركون أن دورهم المقبل مختلف عما كان عليه في السابق، ويشعرون أنه بات من الضروري أن يعيدوا ابتكار دورهم، ونتمنى أن تسهم هذه المبالغ التي يتلقونها في مساعدتهم على ذلك».
إيلينا ناصيف، المديرة التنفيذية لمؤسسة المورد الثقافي الشريكة في «صندوق التضامن»، تعد أن المشكلة الرئيسية هي أن «نظام الرعاية للثقافة غير موجود في المنطقة العربية، ولا يوجد أيضاً تقليد من نوع أن يحول الأغنياء جزءاً من أملاكهم للخدمة العامة، كوقف لتمويل الثقافة والمساعدة على إيجاد صروح عريقة لها تاريخ. وهذا أحد أسباب الأزمة العميقة التي تبعت الجائحة، بالنسبة للحياة الثقافية في البلدان العربية بشكل عام. وهو ما جعلنا نفكر بضرورة إيجاد حل لهذا الشح الكبير».
وترفض كل من مسمار وناصيف فكرة أن تكون المؤسسات الغربية المانحة تتوخى تحقيق أهداف من تمويلها في المنطقة العربية، إذ تؤكدان أن هذه المنح تعطى من دون أي إلزام للفنان بأي شرط، بل هي حرة، وتترك لمن يحصل عليها تقدير المكان الأنسب لاستثمارها في عمله.«لا يوجد من يمكن أن يعطينا إجابات اليوم حول الطريقة التي سيواجه بها الفنانون التحديات الجديدة، سواء كانت فكرية أو إبداعية. لا نعرف ما الأشكال الجديدة التي ستتفتق عنها هذه الأزمة، وأي دور يمكن أن يلعبه الفن»، تقول ناصيف التي تضيف: «نحن أمام مرحلة ضبابية، فيها كثير من اللايقين.
لذلك لا نريد أن نسقط رؤيتنا على المبدعين الذين هم أصلاً في مرحلة مخاض ومراجعة. هدفنا أن نتيح لهم فرصة إعادة بناء مشاريعهم ومؤسساتهم، والانطلاق من جديد، وحمايتهم من السقوط».ومن بين التصورات المحتملة لإنقاذ هذا القطاع التعاون بين العاملين الثقافيين في مجالات مختلفة، ربما توطيد التواصل بين منظمين لمهرجانات أو بين مديري مسارح أو جمعيات، ورؤية إذا ما كان ثمة مشاريع يمكن أن تقام بالتعاون بين فنانين من ميادين مختلفة، كأن يعمل موسيقيون مع ممثلين، أو تشكيليون مع مصورين، وغير ذلك، أو بناء أنشطة تدمج وتوحد، وتخلق رؤى جديدة، وهو ما سيرفع عدد المهتمين بهذه الأنشطة لأنها ستجمع جمهورين أو أكثر.
العمل على هذا النوع من التلاقح الفني بدأ. والسيدتان المسمار وناصيف متفائلتان بسبب ما تريانه من حماسة لدى الفنانين، والحيوية التي بدأت تنمو في أوساطهم.الذهاب نحو الأعمال المشتركة، وإدراك أن التعاون هو السبيل للخروج سيكون فرصة لم تتح من قبل. وتعد ناصيف أننا أمام «لحظة ذهبية، إن استغلت بالفعل سنرى أعمالاً مبتكرة في مختلف المجالات الفنية، ما كانت لتولد من دون الأزمة والاضطرار للعمل معاً».وتختصر ناصيف ذلك بالقول: «كانت الأولوية بالنسبة لنا أن تتم المحافظة على المؤسسات، وأن تتمكن كل مؤسسة من الإبقاء على مكاتبها وفريق عملها، من إداريين وفنانين، لأن إعادة جمعهم إذا ما تفرقوا مسألة غير مضمونة على الإطلاق، إذ إن كلاً منهم قد يذهب إلى مهنة أخرى غير فنية يعتاش منها. ثم إن الهدف الثالث هو أن يتمكنوا خلال هذه المرحلة الانتقالية ليس فقط من الإبداع، بل أيضاً ابتداع حضورهم، فهم حاجة مجتمعية، وإن كنا لا نلحظ ذلك في مجتمعاتنا العربية».
الظروف ليست صعبة في لبنان فقط، وإن كان الوضع في بلاد الأرز استثنائياً بسبب توالي المشكلات وتراكمها في وقت واحد. فهشاشة الاقتصاد بعد الإغلاق الطويل بسبب الجائحة يطال الجميع في المنطقة. وثمة دول عانت حروباً طويلة، وأخرى لديها صعوبات ذات صلة بالحريات، لذلك سيكون لـ«آفاق» مبادرة لدعم الفنانين العرب كأفراد لمرحلة تمتد ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر. وذلك من خلال منح حرة، تبلغ قيمتها ثلاثة آلاف دولار للشخص، ستذهب إلى نحو 150 شخصاً تضرروا من الجائحة، وبحاجة لإكمال مشروع توقف، أو لبدء عمل يريدون إنجازه. ولا تشترط المنحة إنجاز عمل بالضرورة، ولا تطلب من الحاصلين عليها تقديم أي نتاج، وإن كانت ترحب بذلك.
وفي مساعدة مشابهة موجهة للأفراد أيضاً سيطلق «المورد» قريباً ضمن مبادرة «كن مع الفن» الموجودة منذ عام 2016 برنامج دعم للفنانين والتقنيين والفاعلين الثقافيين في المنطقة العربية، في صورة منحة تصل إلى خمسة آلاف دولار للشخص. وتأتي هذه المساعدة لمساندة فنانين باتوا يعانون من غياب الضمان الصحي، أو فقدوا عملهم، أو توقفت مشاريعهم، وربما يتمكنون من استكمالها بهذه المنحة.وهناك مبادرة أخرى من المورد، إنما لدعم المؤسسات العربية المتضررة، من خلال الدعم الفني، ضمن برنامج موجود منذ عام 2011 يحمل اسم «عبّارة»، ستستفيد منه نحو 11 مؤسسة على مدى سنتين تقريباً. والبرنامج ينطوي على ورشات، وتدريب، ومساعدة على التشبيك، وإعطاء النصائح التقنية والخبرات.
وتشرح ناصيف التي تتواصل بحكم عملها مع مؤسسات عربية عدة أن «كثيراً منهم لن يتمكنوا من الصمود إن لم تنتعش الأنشطة بدءاً من هذا الشهر». وهو أمر محزن، لأن الجائحة بينت كم أن حاجة الناس للفنون كبيرة. فالمحجورون لم يجدوا أفضل من الموسيقى والأفلام وزيارة المتاحف والمكتبات للتغلب على محنتهم في عزلتهم. بالتالي، وبعد هذه التجربة المهمة، يجب أن نستخلص العبر، بحيث تصبح النتاجات الثقافية من القطاعات التي تستحق أن تعنى بها الدولة لضمان المصلحة العامة، كالصحة والتعليم.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
هلا حسن تؤكد أنها تتمنى فتح قنوات اتصال بين الناشر والمؤسسات الثقافية