إبراهيم عبد المجيد


هل اختفى أدب الرحلة وانزوى فوق رف التراث، ولم يعد جاذبًا للكتاب أنفسهم، وسط اللهاث وراء تيارات الحداثة وما بعدها، واتساع فضاء الإنترنت وفنون الاتصال الحديثة؟ هذا الأدب الذي شكل في عقود كثيرة نوافذ للمعرفة والاستكشاف، لأمكنة وأزمنة وثقافات ومجتمعات، كيف يمكن استعادته وتطويره ليلقى الاهتمام اللائق به بصفته جنسًا أدبيًا؟

في هذا التحقيق آراء لكتاب مصريين حول أسباب عدم الاهتمام به، وقلة المهتمين بكتابته، ودور المؤسسات الثقافية والمراكز البحثية ودور النشر في النهوض به:

- الروائي إبراهيم عبد المجيد: عرفت بلادًا لم أزرها من خلاله

الذي شجعني على كتابة بعض رحلاتي هو أني وجدت هذا النوع من الأدب غير متوفر في مصر الحديثة، رغم أنه كان موجودًا من قبل في تاريخ العالم العربي وتاريخ مصر. أكثر من كتب فيه من المعاصرين لنا الراحل محمود السعدني. كما أني وجدت بعض كتاب العالم العربي يكتبونه كخليل النعيمي مثلًا. وقد شغلني الحديث عن المكان، خاصة أن كثيرًا من البلاد التي زرتها، مثل فرنسا والمغرب، كنت أعرفها من قبل من خلال ما قرأته عنها من روايات. وقد أردت أن أكتب عن المكان كما رأيته، لا كما تخيلته من الروايات.

للأسف، هذا الأدب لا يلقى اهتمامًا من النقاد في مصر. أما مسألة الجوائز، فطبيعي ما دام لا يلقى اهتمامًا من النقاد ألا يكون له حظ مع الجوائز في مصر. هناك جائزة لهذا النوع من الكتابة سمعت بها مؤخرًا في عُمان فقط، لكنها لم تنتشر في العالم العربي. أعتقد أنه في حاجة إلى التشجيع طبعًا، فهو نوع راقٍ من الكتابة. نحن العرب لسنا أقل من غيرنا، ولنا تاريخ منذ ملحمة سنوحي الفرعونية إلى الآن، مرورًا بابن بطوطة وابن جبير وغيرهم.

- الروائي مختار سعد شحاتة: يتوازى مع مدونات التاريخ الشفاهي

يُعد أدب الرحلات واحدًا من أهم المصادر التاريخية التي تتوازى مع كثير من مدونات التاريخ الشفاهي للشعوب، بل ترتقي لتكون واحدة من محددات الحكم على التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالمجتمعات وطبيعتها الطبوغرافية والإثنية والميثولوجيا السائدة فيها. وللأسف، يضعف تمويل ذلك القطاع، ربما لأن النخبة تتجه بعينيها نحو الأدب الأكثر رواجًا في السوق، رغم وجود مراكز بحثية كبيرة يمكنها دعم أو تقديم الموارد اللازمة للنهوض بأدب الرحلة.

وهذه النظرة التي لا تبالي بأدب الرحلة تغيب كثيرًا من الكتابات المهمة، وتدفع سوق النشر إلى إهمالها، لكن اللافت وجود مراكز عربية داعمة بقوة لذلك، مثل مركز “ارتياد الآفاق” بالإمارات العربية الذي يمول واحدة من الجوائز الدولية والعربية التي لم تأخذ نصيبها ومكانها اللائق حتى الآن عبر جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، وقد تشرفت بالفوز بها في دورتها العام الماضي عن كتابي “يوميات عربي في بلاد السامبا”. وفيه حاولت نقل صورة حقيقية عن المجتمع البرازيلي خلال وجودي لدراسة الماجستير والدكتوراه هناك. وقد تنقلت بين مدن عدة، مثل ريو دي جانيرو وساو باولو وميجال بيريرا وغيرها، لتتغير الصورة النمطية في ذهني عن البرازيل، وهو ما حاولت نقله ليس بعين الأديب فقط، بل بعين باحث التاريخ والأنثروبولوجيا لتعميم الفائدة.

وبالعودة إلى قضية إهمال أدب الرحلات، يجب أن أنبه إلى الدور الذي يلعبه الناشر وسوق الكتاب، خاصة وسط الضغوط المادية على دور النشر، وهو ما يدفعها نحو تخوف ما من نشر كتب أدب الرحلات، علمًا بأن مثل هذه الكتابات بها من التشويق والإثارة ما يُلبي شغف قراء كثيرين.

واللافت أن كتابة الرحلات الآن قفزت قفزة هائلة، وطورت أدوات كتابتها ونمط وشكل الكتابة، وهو ما يدفع إلى مزيد من الشغف بها.

 

هناك أمر آخر مهم جدًا، وهو أن كثيرين ممن يكتبون أدب الرحلة يخلطون في كتاباتهم تلك بين كتابة التقارير الصحافية والتحقيقات وأدب الرحلة بصفته فنًا كتابيًا منفصلًا تمامًا، لذلك تتحول معظم الكتابات إلى مجرد تقارير صحافية مطولة، وهو ما يفقدها أهم ما يميزها وهو “المشهدية” التي تكون أساس كتابة أدب الرحلات، كذلك أمر آخر هو وقوع بعضهم في أسر نمط الكتابة بالشكل التقليدي لأدب الرحلات، وهو ما تجاوزه هذا الصنف الأدبي، بصفته نمطًا كتابيًا متفردًا بمشهدية خاصة ينطلق منها الكاتب وهو على وعي شديد بين الذاتي والعام، بما يخرج يومياته تلك من الشخصنة إلى الفضاء العام.

 

 

- د. حسين حمودة: تراجع في أغلب الثقافات

 

أتصور أن أدب الرحلة قد تراجع في أغلب الثقافات، وليس في مصر وحدها، خلال العقود الأخيرة، ولعله قد تراجع خلال العصر الحديث كله، بوجه عام، في مقابل حضوره خلال العصور الوسيطة والقديمة. في تلك العصور، كان أدب الرحلة يقوم بأدوار مهمة جدًا، بصفته مصدرًا معرفيًا لاستكشاف البلدان والمجتمعات الأخرى، والتعرف على ثقافاتها وتاريخها وكل ما يتعلق بها، بالإضافة للتعرف على التجارب الشخصية للرحالة الذين يدونون رحلاتهم. تراجع أدب الرحلة، عبر التاريخ، وهذا يتصل باستكشاف وسائل أخرى في العقود الأخيرة تقوم بهذه المهام على نحو أفضل، مع استخدام وسائط ووسائل الاتصال الحديثة... فمن خلال هذه الوسائط والوسائل يمكن زيارة أي بلد زيارات افتراضية، مزودة بالصور والفيديوهات والمعلومات الموثقة.

 

لكن يبقى التساؤل حول القيمة الأدبية في أدب الرحلة؛ أي يبقى الجانب المتعلق بالكتابة... وأعتقد أن هذا جانب مهم يصعب التخلي عنه، وأنه لم يتراجع بتراجع “أدب الرحلة” بالمعنى الخالص التقليدي... وربما يمكن ملاحظة أن هذا الجانب (الأدبي) قد تم تمثّله واستمرار حضوره فيما يسمى “روايات الرحلة” أو “روايات الطريق”، وهي الروايات التي تبقي على عنصر “الارتحال” بصفته عنصرًا تكوينيًا أساسيًا، سواء ارتبطت الرحلة أو الطريق بالمعنى الحرفي الذي يعنى الانتقال عبر الأماكن أو ارتبطت بالمعنى المجازي، كأن تكون الرحلة هي رحلة المعرفة أو رحلة الحب أو الاستكشاف أو العدالة أو الانتقام... إلخ.

 

 

- الشاعر سمير درويش: الأدباء المصريون لا يهتمون بأدب الرحلة

 

الأدباء المصريون لا يهتمون بأدب الرحلات لأن المصريين -ببساطة- ليسوا من الشعوب التي تهتم بالسفر إلى المناطق السياحية العالمية سنويًا، مثل شعوب كثيرة تضع ميزانية سنوية لهذا الغرض، بل إنك ستجد أن المصري يتنقل في منطقة محدودة داخل مصر نفسها قلَّما يخرج عنها؛ المشكلة الاقتصادية أزاحت هذه الفكرة بعيدًا عن رؤوسنا. والمفاجأة أن عددًا كبيرًا من المصريين يسافرون خارج مصر، لكنهم يسافرون في الغالب إلى بلد واحد بغرض العمل، وهذا النوع من السفر محكوم بحسابات اقتصادية، وثمن للغربة لا بد من تحصيله، وهموم كثيرة تجعل فكرة “التنزه” ليست واردة.

 

سكان مدينة القاهرة وحدها يمثلون نحو خُمس تعداد مصر، وهؤلاء -غالبًا- لا يعرفون شيئًا عن الصعيد والصحراء والواحات وسيناء، وبالكاد يسمعون عن المدن الكبرى في الدلتا، بل لا تستغرب إن عرفت أنهم لا يعرفون القاهرة نفسها بشكل جيد، ولا يزورون مناطقها الأثرية، فهم يدورون في مناخ مزدحم يعاني من الضوضاء ونقص الخدمات، ولا يفكرون خارج هذا الصندوق. لذلك لا أذكر أنني قرأت كتبًا كثيرة في أدب الرحلات. ففي شبابي الأول، قرأت “حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور، ثم قرأت مؤلفات صبري موسى “في البحريات” و”في الصحراء”. وقد فعلت إدارة تحرير مجلة “صباح الخير” خيرًا -وقتها- لأنها موَّلت رحلاته، ووفرت له مصورًا صحافيًا يوثق المناظر التي يريد توثيقها.

 

أما بالنسبة لي، فقد حصلت على إقامة دائمة في أميركا، في ولاية نيويورك، منذ بداية عام 2013. وانتقلتْ عائلتي للإقامة والتعليم هناك، فرأيت نمطًا جديدًا من الحياة لم أكن معتادًا عليه، لا في مصر ولا في معظم الدول العربية التي سافرت إليها عدة مرات... أميركا مختلفة في كل شيء، من شكل المباني والشوارع والمتنزهات إلى سلوك البشر ومساحة الحريات المتاحة، بجانب النظافة والنظام... إلخ، هذا الاختلاف دفعني إلى كتابة ما يشبه أدب الرحلات، أتمنى أن أصدره في كتاب قريبًا.

 

وإذا نظرت لعدم اهتمام المؤسسات الثقافية المصرية بأدب الرحلات، فستجد أن السبب هو قلة إنتاجه إذا قيس بالأنواع الأدبية الأخرى، كالشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح... إلخ، والحقيقة أن هذا ليس في مصر وحدها، بل في الكتابة باللغة العربية بشكل عام، فمواطنو الخليج مثلًا حظوظهم أوفر في السفر سنويًا إلى دول عربية وأجنبية، لكن فكرة “التنزه” وإمعان النظر في عادات وتقاليد الشعوب الأخرى، واختلاف أنماط المعمار وهندسة المدن؛ بعيدة عن تفكيرهم إلى حد كبير، لهذا لم يفرض أدب الرحلات نفسه على من يضعون الجوائز، وأظن أن هذا الحال مرشح للاستمرار فترات طويلة آتية، مع الأسف.