غزة – محمد حبيب
غزة – محمد حبيب
تُعد مدينة غزة من أقدم المدن التاريخية والأثرية في العالم، حيث تزخر بتراث تاريخي وأثري عريق، يعود إلى آلاف السنين منذ نشأتها في العام 3000 قبل الميلاد، ما يعبر عن حضارة عميقة وجذور ضاربة القدم في التاريخ، حيث سكنها الكنعانيون الذين أنشئوها وعمَّروها.وقصر الباشا يُعد النموذج الوحيد المتبقي للقصور في غزة، ويمثل في تصميمه
ومحتواه المعماري فلسفة وطابع العمارة الإسلامية، وهو يقع في حي الدرج (شرق المدينة)، وهذا الحي يُعد من الأحياء الغنية بالمباني التاريخية، التي تبرز عراقة تاريخ غزة على مر العصور، ولا توجد لوحة تأسيسية تُؤرِّخ لبناء هذا المبنى، ويقال؛ إن بناءه يعود للعمارة الإسلامية المملوكية، ودل على ذلك وجود رنك (شعار) الأسد، على المدخل الرئيس للقصر؛ وهو عبارة عن أسدين متقابلين اُتخذ للدلالة على انتصار المسلمين على الخطرين المغولي والصليبي.
وتنعكس في التصميم المعماري للمتحف، فلسفة وطابع العمارة الإسلامية، حيث يتكون من مبنيين منفصلين، شكَّلا فيما بينهما ساحة وسطية بالإضافة إلى الساحة الأمامية للمبنى القديم الذي يتكون من طابقين، وتستفز الزخارف الهندسية الإسلامية؛ كالأطباق النجمية، والمقرنصات، والزخارف النباتية، أنظار الزوار الغزيين، الذين يترددون يوميًّا عليه.
ويتكون الطابق السفلي من المتحف؛ المميز بالقبو والعقود والكوة (أي فتحات في الجدران)، من ثلاث قاعات تحمل أسماء المدن الفلسطينية المشهورة، التي احتلتها إسرائيل في العام 1948.
وتحتوي قاعة "حيفا" السفلية على آثار بيزنطية؛ كالأسرجة المصنوعة من الفخار، والعملات النقدية، والجرار الفخارية، متنوعة الأشكال، إضافةً إلى تيجان وأنصاف أعمدة رخامية، وأدوات برونزية مختلفة.
ومن اللافت للانتباه، أن الجرار الفخارية مخروطة الشكل، والتي فسرت سر تشكيلها مديرة المتحف نبيلة مليحة قائلة، "الشكل المخروطي للجرار التي عُثر عليها في منطقة البلاخية (غرب المدينة)، تؤكد أنها استخدمت في تصدير الزيوت عبر السفن"، وتجدر الإشارة إلى أن منطقة ما تسمى بالبلاخية، كانت ميناء غزة القديم، إبان حكم الرومان.
في ما تحوي قاعة "يافا" آثارًا رومانية، تمثَّلت في "أسرجة" فخارية، وعملات نقدية، وأدوات مصنوعة من البرونز، إضافةً إلى الكثير من الجرار الفخارية، والقوارير مختلفة الأشكال والأحجام، أما قاعة القدس؛ فنقلت الحضارة إسلامية إبان العهود؛ الأيوبية، والمملوكية، والعثمانية، حيث يوجد بها الكثير من الأباريق النحاسية المختلفة، بجانب العملات النقدية.
وسُمي قصر الباشا بالكثير من التسميات، التي عُرف بها خلال مراحل تاريخية مختلفة مرت بها مدينة غزة، فأطلق عليه خلال العصر المملوكي (658- 922هـ/1260-1517م) لقب "مقر نيابة غزة"؛ وهو لقب الذي كان يطلق على حكام الولايات خلال ذلك العصر، أما في العصر العثماني (922-1341هـ/1517-1923م)؛ فأطلق عليه "قصر الباشا"، و"دار السعادة"، و"قصر آل رضوان"؛ نسبة إلى أسرة آل رضوان الغزية، التي حكمت غزة خلال العصر العثماني بين عامي (963-1101هـ/1556-1690م)، وتعرض قصر الباشا للاحتلال من قِبل الحملة الفرنسية لبضع أيام أثناء اندحارها مهزومة من مدينة عكا في العام (1213هـ-1799م)، لذلك أطلق عليه العامة تسمية خاطئة باسم "قلعة نابليون"، ثم استمر القصر يؤدي وظيفته كمقر لوالي غزة خلال العصر العثماني، حتى مجيء الاحتلال البريطاني لفلسطين في العام (1336هـ/1918م)، حيث تحول القصر إلى مركز لشرطة الاحتلال البريطاني وسُمى بـ"الديبويا"، وأثناء حكم الإدارة المصرية لغزة بين عامي (1367-1386هـ/1948-1967م) اُستخدم كمبنى لإدارة مدرسة الأميرة فريال، وهي أخت الملك فاروق، وبعد انتهاء ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، تغير اسم المدرسة إلى مدرسة الزهراء الثانوية للبنات، تيمنًا باسم فاطمة الزهراء، ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك آل إلى وزارة السياحة والآثار؛ التي قامت بترميمه وتوظيفه كمتحف أثري يعرض آثار غزة منذ أقدم العصور وذلك في العام 2010.
ويتكون القصر من مبنيين منفصلين، شكَّلا فيما بينهما حديقة، ويقع المدخل الرئيس للقصر في الواجهة الجنوبية للمبنى الشمالي، وهي من أجمل الواجهات بناء وزخرفة، حيث زُينت بزخارف هندسية جميلة نُقشت بالحجر، وزُينت المداخل والواجهات بالكثير من العناصر المعمارية والزخرفية المميزة ، كالعقود والأطباق النجمية، التي تدل على رقي وازدهار فن العمارة الإسلامي.
وبدأ التنقيب عن الآثار في قطاع غزة على أيدي خبراء أجانب منذ العام 1998، ولكنه توقف قبل خمس سنوات، بفعل الأوضاع السياسية غير المستقرة، وبقيت وزارة السياحة محتفظة بتلك الآثار.
واستهدفت إسرائيل أكثر من موقع أثري في غزة، كان آخرها قصف كنيسة جباليا خلال اجتياح البلدة في العام 2002، ويقيد الحصار المفروض على قطاع غزة منذ 4 أعوام، أيدي القائمين على وزارة السياحة والآثار، حيث أن إغلاق المعابر تحول دون إدخالهم للأدوات المساهمة في تنظيف الآثار وترميمها.
واكتشف أخيرًا في قطاع غزة، المئات من المقتنيات الأثرية والقطع النقدية المعدنية الثمينة، تم التنقيب عنها، والعثور عليها، في تل رفح على الجانب الفلسطيني من الحدود المصرية الفلسطينية.
وأكَّدت وزارة السياحة في غزة، في بيان لها، أن "أعمال التنقيب لا تزال مستمرة، عقب اكتشاف 1300 قطعة أثرية من العملات النقدية الفضية الكبيرة والصغيرة"، مشيرة إلى أنه "تم العثور أيضًا في جنوب تل رفح على سرداب غريب الشكل له مدخل مسدود شبيه بمداخل القبور"، منوهةً إلى أنه "من غير المعروف ماهية هذا السرداب حيث تحتاج تلك المنطقة إلى دراسة وتنقيب وبحث مُعمَّق".
وأوضح مدير عام وزارة السياحة والآثار في محافظات غزة، الدكتور أكرم العجلة، أنه "مع قيام السلطة الوطنية في العام 1994، تولت وزارة السياحة والآثار مهمة الإشراف على المرافق التاريخية وحمايتها، وبدأت الوزارة بمشروع ترميم وصيانة القلعة في العام 2004".
وأشار إلى أن "المشروع اشتمل على إزالة الكتابات والملصقات عن سور القلعة بواسطة آلة حديثة للحيلولة دون ترك آثار جانبية على السور، إلى جانب إزالة التدخلات العشوائية غير المدروسة، مثل؛ الكحلة الإسمنتية السوداء، والكحلة القديمة المتآكلة، ووضع كحلة جديدة "مونة" ملائمة للون الحجر الأصلي، علاوة على تعبئة الفجوات الفارغة بأحجار أثرية مطابقة للأصلية، إضافةً إلى معالجة المئذنة والقبة على وضعها الحالي، وإعادة بناء ما تبقى من البرج الشمالي الغربي، وكذلك تركيب إنارة بطريقة هندسية لتزيد القلعة رونقًا وجمالًا".
ولفت إلى أنه "في غياب أية مؤسسة متخصصة في الآثار قبل عهد السلطة الوطنية، لم تكن هناك محاولات لترميمه أو الحفاظ على ما تبقى منه، لذلك قامت وزارة السياحة والآثار بحماية ما تبقى من الخان وترميمه للحفاظ على التراث الإسلامي والحضاري.
وأكد العجلة أن "الوزارة تُولي أهمية قصوى لإزالة التعديات كافة، كون جميع المباني المقامة داخل القلعة غير مرخصة وغير مثبتة ملكيتها لأحد، وكذلك إعادة بناء الخان بحكم أنه من أقدم الخانات التي ما زالت قائمة في فلسطين، وذلك ضمن رؤية تخدم التراث الوطني"، مشيرًا إلى "رصد نحو 4 ملايين دولار لهذا الغرض".
وشدَّد على أنه "في ظل الهجمة الإسرائيلية على التراث الفلسطيني، الهادفة إلى طمس الهوية الوطنية، بات من الضروري بث روح الوعي لدى جميع فئات المجتمع بأهمية المعالم والآثار التي تحتضنها أية مدينة فلسطينية، وضرورة تقدير قيمة التراث الذي يعد بمثابة شهادة الميلاد التي تُؤكِّد الوجود الثقافي والحضاري".