بيروت - العرب اليوم
أصبح من الملح جدًا اعتماد لبنان نظامًا ضريبيًا حديثًا، يُبنى على مبادئ العدالة في توزيع العبء والجدية في الجباية بتعميمها على كل المناطق، وتوظيف حصيلتها في مشاريع خدماتية وإنمائية، وليس فقط في الانفاق الجاري غير المنتج، كي يطمئن المواطن إلى أنّ وضعه الاجتماعي والمعيشي سيتحسّن مقابل الموجبات التي يسددها، حيث تنسحب الاستفادة من نظام كهذا على استقرار التشريع الذي يكون قابلًا للتحديث وفقًا للظروف، بحيث يعزز ثقة المستثمر ومجتمع الأعمال، ويثبّت مصادر الإيرادات لخزينة الدولة، لتغطية أي نفقات تطرأ عليها، خاصة في مجال تصحيح الرواتب، فيُجنّب المناخ العام أي أزمات مثلما حصل في ملف سلسلة الرتب والرواتب، الذي لم ينتهِ مسلسل تعليق تنفيذها، على رغم تقاضي الموظفين رواتبهم الشهر الماضي وفقًا للأسس الجديدة.
وطلبت الحكومة من المجلس النيابي في خطوة "وقائية"، بموجب مشروع قانون، الإجازة لها تجميد دفع الرواتب "الجديدة" الشهر المقبل، في انتظار إقرار مجلس النواب تعديلات القانون الرقم 45 المتعلق بالمواد الضريبية التي ستشكل المورد لتغطية تكلفة السلسلة، ويجمع الخبراء على ضرورة وضع نظام ضريبي، إذ شدّد الخبير الاقتصادي كمال حمدان، على "تنويع البنية الضريبية وتوزيع العبء الضريبي في شكل شبه متوازن"، فيما حضّ الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي لويس حبيقة، على ضرورة "صياغة نظام ضريبي جديد مبني على أسس الفعالية والعدالة والتحصيل الجدي"، مؤكدًا أنه "لا يتطلّب وقتًا طويلًا ويمكن إنجازه قبل نهاية السنة".
واعتبر حمدان أنّ "دقة الوضع المالي هي التي تضغط على أطراف الحكم، خاصة ما يتصل باحتمال تفاقم العجز في الموازنة وانعكاساته على الدَيْن وخدمته، في وقت لم يعد المجال متاحًا أمام الدولة للاستمرار في الاعتماد على الاقتراض من المصارف إلى ما لا نهاية"، موضحًا "في وقت تميل معدلات نمو الودائع نحو الانخفاض في شكل ملموس، وفي وقت بات الحجم المتراكم من اقتراض الدولة من المصارف يزيد على 50% من موجوداتها الإجمالية، ويتسابق أطراف الحكم على وضع تقديرات متباينة لتكاليف السلسلة، خاصة تداعياتها على متوجبات سداد معاشات التقاعد للعاملين في الدولة، من الطبيعي الاستنتاج بأن حرية الحركة التي بقيت متاحة للدولة لتدبير تمويل نفقاتها، أصبحت محدودة جدًا"، كما أنّه لم يُخفِ أنّ الأخطار "باتت واحدة على كل من الدولة والمصارف، فإذا ما اهتزّ أحدهما سيطاول الاهتزاز الآخر، والعكس صحيح"، مستندًا في هذا التحذير، إلى "ما تؤكده تقارير المنظمات الدولية، وبصورة خاصّة صندوق النقد والبنك الدوليين".
وعزا حمدان أصل المشكلة إلى "الفصل بين الموازنة وتمويل السلسلة، إذ كان الحديث عن تكاليف السلسلة في أحيان كثيرة وكأنها أمر قائم بذاته"، مؤكّدًا أنّ ذلك "يتناقض مع مبدأ الشمولية في الموازنة وفقًا لما نصّ عليه الدستور"، كما أنّه افترض أنّ "المقصود ربما من تركيز الحديث على السلسلة بكونها نفقة مستقلة عن الموازنة، هو الإيحاء بأن المشكلة التي يواجهها البلد تتمثل بالسلسلة، فيما بقية الأمور طبيعية ولا تشكو من أي خلل"، ولم يستبعد أن يكون "الهدف من ترويج هذا المنطق تحميل مسؤولية المشكلة للمطالبين بتصحيح أجورهم، مقابل انخفاض قوتهم الشرائية إلى ما دون النصف منذ عام 1996، بسبب الفجوة الكبيرة بين ارتفاع مؤشر أسعار التجزئة 120%، والتصحيحين المرتجلين للأجور عامي 2008 و2012، اللذين لم يُعوّضا إلّا عن نحو 40% من قيمة الخسارة الفعلية للقوة الشرائية للأجور".
وعلّق الخبير الاقتصاديّ على بدعة الفصل بين الموازنة وتكلفة السلسلة، بقوله إنّ "بدعة أخرى تمثلت بمحاولة الربط المُحكم بين هذه التكلفة من جهة، وتمويلها عبر موارد ضريبية من جهة أخرى"، موضحًا أنّ هذا الربط "انطوى على تخصيص للإيرادات، أي ربطها ببنود إنفاق معيّنة، مع العلم أنّ هذا المنطق يتنافى مع قانون المالية العامة، الذي يعتبر أنّ الإيرادات كلّ لا يتجزأ وتصبّ كاملة في خزينة الدولة، وقد ظلّ أطراف الطبقة السياسية يرقصون على إيقاع هاتين البدعتين على امتداد سنوات"، مضيفًا "بعد شهر من إقرار الحكومة لما اعتُبر حلًا، لم يلبث القانون المقرّ أن اصطدم بطعن المجلس الدستوري الذي تقدم به عشرة نواب"، مشيرًا إلى أنّ "الخشية كانت من أن المتنفّذين الكبار من أصحاب رجال الأعمال الذين طاولتهم جزئيًا بعض البنود الضريبية التي استُحدثت أخيرًا في القانون، هم الذين كانوا لا يزالون يمارسون كل أشكال الضغط للتحرّر بشكل جزئي أو كليّ من البنود المستحدثة التي طاولتهم، مع العلم أن لهؤلاء الصوت العالي في أروقة مجلسي النواب والوزراء بأشكال وصيغ معلنة ومستترة"، مستشهدًا بالبلدان التي "سبقتنا على طريق النمو، لا سيما تلك المنتمية إلى فئة الدول المتوسطة الدخل بحسب تعريف الأمم المتحدة، والتي لجأت إلى تنويع بنيتها الضريبية ووزّعت العبء الضريبي في شكل شبه متوازن على أركان ثلاثة، هي الضريبة على الاستهلاك والدخل والثروة"، فيما السمة البنيوية في لبنان "المميّزة للنظام الضريبي، تركز أكثر من 70% من العبء الضريبي على الركن الأول أي الاستهلاك والبنود المماثلة له، سواء في شكل صريح أو مستتر"، ويُقصد بالشكل المستتر وفق ما لفت إلى "ما نشهده من إخفاء للرسوم والضرائب غير المباشرة التي تطاول أكثرية اللبنانيين والمتمثلة بتركيبة تعرفات بعض الخدمات العامة، وأبرز مثال على ذلك قطاع الاتصالات، حيث تُجبى فعليًا مبالغ كبيرة من الرسوم غير المباشرة عن طريق آلية تسعير الخدمة العامة"، أمّا الركنين الآخرين أي الدخل والثروة، فهما "بقيا إلى حد كبير لا يخضعان إلا لعبء ضريبي متدن أو محدود، كما يُستدل من المقارنات الدولية مع البلدان التي سبقتنا".
ولم يخفِ حمدان أنّ "الخطر يكمن في تزايد الانحراف في بنية نظام ضريبي في بلد شهد في العقود الأربعة الماضية، ثلاث صدمات أساسية أطاحت بالقسم الأكبر من الشرائح المتوسطة والفقيرة"، حيث تتمثل الصدمة الأولى بحقبة التضخم الفالت "في الثمانينات وأواسط التسعينات، معدل التضخم السنوي زاد على 110%، بالتزامن مع انهيار سعر العملة الوطنية، التي يقوم عليها نظام تعويضات نهاية الخدمة للأجر في لبنان"، بينما تتمثل الصدمة الثانية بـ"تعاقب الفورات العقارية خاصةً بين عامي 2006 و2010، التي أحدثت خللًا فظيعًا في توزّع الثروة بين اللبنانيين لمصلحة القلة التي أتقنت الاستثمار في المضاربات العقارية، والتي تكاد تكون معفية من أي عبء ضريبي ذي شأن، فقط 6% لدى تسجيل البيوعات"، أما الصدمة الثالثة، فهي التي "رافقت وتلت ما سبقها من صدمات، وتتمثل بنمط إدارة الدولة لمسألة تفاقم العجز في الموازنة والدَيْن العام، بحيث استُسهل اقتطاع مزيد من الضرائب والرسوم غير المباشرة من أكثرية اللبنانيين، لتأمين خدمة دَين لا تنفكّ ترتفع وتؤول منافعها الكبيرة، عبر معدلات فائدة مرتفعة، إلى قلة من المصارف الكبيرة والمتموّلين الكبار، الذين يحتكرون معظم الثروة والدخل الوطنيين، في وقت كان أكثر من 90% من النفقات العامة المتسبّبة بالعجز، يطغى عليه طابع النفقات الجارية أي غير المنتجة"، مشدّدًا على أن "أي نظرة ثاقبة حول موضوع الموازنة خاصةً الشق الضريبي منها، تفرض بإلحاح الاستهداف المستقبلي لبنية ضريبية سوية وعادلة، تنتج قدرًا كبيرًا من التوازن بين الأركان الضريبية الثلاثة المذكورة أعلاه".
وأكّد حبيقة أنّ الأموال متوافرة لدفع الأجور على أساس السلسلة الجديدة، لأن "حسابات الدولة لدى مصرف لبنان المركزي تفوق أضعاف قيمة السلسلة"، لافتًا إلى أنّ "خوف الحكومة يتمثل بكيفية تأمين الأموال للأشهر المقبلة"، مقترحًا بدوره أن "يقرر مجلس الوزراء خفض الإنفاق العام بحجم تكلفة السلسلة، أي بليون دولار"، مؤكدًا إمكان "تنفيذ هذا الإجراء من خلال وقف تمويل بعض الجمعيات والإيجارات الوهمية، فضلًا عن الإنفاق الجاري غير المبرر، مثل أثاث الوزارات وباقات الورود"، وبهذا الخفض، "سيبقى العجز على مستواه"، مشيرًا عن تصوّره لمسار الأشهر المقبلة إلى ثلاثة اتجاهات متكاملة يجب السير بها، تتمثل في "قطع الحساب الذي يجب إنجازه ومعالجة المخالفات، ووضع موازنة عام 2018، وأخيرًا بدء العمل على تحديث النظام الضريبي، لأن هذا المعتمد حاليًا وُضعت مبادؤه في تسعينات القرن الماضي، عندما قرّر الرئيس الشهيد رفيق الحريري اعتماد سياسة ضريبية تحصّل إيرادات سريعة وكافية للدولة بعد الحرب، لأن تلك المرحلة كانت تتطلّب ذلك، على أن يُعدّل النظام الضريبي بعدها ليأتي منطقيًا وعمليًا وعلميًا وعادلًا وفعالًا، لكن ذلك لم يحصل لألف سبب وسبب".
وشدد الخبير الاقتصاديّ على ضرورة "صياغة نظام ضريبي جديد مبني على أسس الفعالية والعدالة والتحصيل الجدي"، مؤكدًا أن هذا الأمر "لا يتطلّب وقتًا طويلًا ويمكن إنجازه قبل نهاية هذه الســنة"، وللوصول إلى نظام عادل، "يمكن الاســتعانة بالمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي والمفوضية الأوروبية"، وإذ تحفّظ عن تعديل الضريبة على الدخل حاليًا، "في انتظار تحقيق استقرار الأوضاع العامة"، لأن هذه الضريبة "تطال الأفراد والأسر التي تواجه أصلًا تحديات في معيشتها، إضافة إلى قلقها على المستقبل"، لافتًا إلى ضرورة "الاتجاه نحو رفع الضريبة على الشركات والمصارف من 15 إلى 17%، من دون زيادة الضرائب على الفوائد البالغة حاليًا 5%".
وتطرّق حبيقة إلى الحديث عن الأملاك البحرية، مطالبًا بأن توضع "الغرامات على أساس المساحة والموقع ووجهة الاستعمال، لأنها في الجدول الحالي رمزية ومتدنية، وبالتالي لو دُفعت فإن المقيم عليها سيبقى فيها"، خلُص إلى الإشارة إلى عامل أساس للحد من الإهدار، ويتمثل بـ"مكافحة الإهدار والفساد جديًا"، مستذكرًا ما كشفه الراحل محمد شطح عن التهرّب الضريبي، البالغ 3 بلايين دولار"، كما أنّه تحفّظ عن "رفع الضريبة على القيمة المضافة وإبقائها على 10%، وعدم إعادة فرض الرسوم على البنزين، لأن الظروف غير مؤاتية لذلك".