بيروت ـ لبنان اليوم
ما ان أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إطلاق منصّة إلكترونيّة تُحدّد سعر صرف الدولار في السُوق، وتتيح للمصارف التدخّل في عمليّات شراء الدولارات وبيعها، حتى إنقسمت الآراء بين من أمَلَ أن يؤدّي هذا الإجراء إلى خفض سعر صرف الدولار وإلى تثبيته نوعًا ما، ومن إعتبر أنّ هذا القرار عبارة عن إجراء إعلامي-نظري، لن يكون له أيّ إرتدادات إيجابيّة ملموسة على الأرض! فهل سينخفض سعر صرف الدولار ويثبت؟!.
بداية من المَعلوم أنّه مع بداية الأزمات التي ضربت لبنان إعتبارًا من 17 تشرين الأوّل من العام 2019، برزت ظاهرة جديدة تتمثّل بتحوّل شرائح واسعة جدًا من التجّار والناس العاديّين، إلى التعامل بالسيُولة النقديّة (الكاش)، لدفع الأموال ولتحصيلها، بعد تراجع وحتى بعد فقدان الثقة بأساليب الدفع الأخرى، مثل التحويلات المالية الرقميّة والشيكات المصرفيّة، إلخ. ومع تناقص الدولارات في السوق، نتيجة وقف ضخّها من قبل مصرف لبنان، وحجزها من جانب المصارف، من جهة، وبفعل تراجع التحويلات الخارجيّة وإنعدام الحركة السياحيّة والمشاريع الإستثماريّة الجديدة، من جهة أخرى، إرتفع الضغط على العملة الوطنيّة بشكل كبير، لأسباب عدّة أبرزها بحث التُجّار عن الدولار في السُوق السوداء لتمويل عمليّات الإستيراد من الخارج، وسعي الكثير من الناس إلى تحويل الليرات التي يملكونها أو يجنوننها أو يسحبونها من المصارف إلى دولارات، إضافة إلى تواصل عمليّات التهريب إلى سوريا بشكل خاص. وبالتالي صار سعر صرف الدولار مرهونًا بعمليّات المُضاربة التي تحصل في السوق، مَعطوفة على مزاجية بعض الجهات الماليّة القادرة. فهل يُمكن أن يتغيّر هذا الواقع المأساوي بين ليلة وضُحاها، بفعل قرار مصرف لبنان؟.
بإختصار، وبعيدًا عن الشُروحات الإقتصاديّة والتقنيّة المُعقّدة، إنّ الخُبراء الإقتصاديّين والماليّين الذين يتطلّعون بتفاؤل إلى خطوة إنشاء منصّة إلكترونيّة، يعتبرون أنّ التلاعب الحالي الحاصل بسعر صرف الدولار هو سياسي محض، ولا يرتكز إلى أيّ أسس ماليّة وإقتصاديّة، حيث يُقدّرون السعر الحقيقي للدولار حاليًا بما بين 8000 إلى 9000 ليرة، مع إمكان خفض هذا السعرإلى نحو 7000 ليرة، بمجرّد حُصول التوافق السياسي المَنشود وتشكيل حكومة جديدة. وهؤلاء على قناعة تامة بأنّ من شأن تنظيم عمليّات تحديد سعر الدولار، أن يُخفّض سعر الصرف، وأن يُؤمّن ثباته وإستقراره إلى حدّ بعيد. ويوضح هؤلاء أنّ إجراء تأسيس المنصّة الإكترونيّة يندرج ضُمن سلسلة من الخُطوات الأخرى الرديفة الرامية إلى تحجيم ما بات يُعرف بإسم "إقتصاد الكاش"، وبالتالي إلى تقليص حجم الكتلة النقديّةالضخمة الموضوعة في السوق، والتي تُقدّر قيمتها بنحو 35 ألف مليار ليرة، الأمر الذي يضغط بشكل كبير على سعر صرف الليرة. ويرى هؤلاء الخبراء في عالمي المال والإقتصاد أنّه بمجرّد عودة الإستقرار إلى سعر الصرف، لن يتهافت الناس على شراء الدولار وعلى تخزينه، وبمجرّد ضبط التلاعب في السوق السوداء، سيُضطرّ الصيارفة إلى التداول بالدولار بحسب السعر الذي سيُعتمد بشكل مُوحّد، والذي سيُطبّق على منصّات المصارف أيضًا.
في المُقابل، تُوجد مجموعة أكبر من الخبراء الماليّين والإقتصاديّين غير المتفائلة إطلاقًا إزاء إمكان نجاح هذه المنصّة، وهي تعتبر أنّ الحديث عن تدخّل مصرف لبنان لإمتصاص السيولة كلّما دعت الحاجة، غير قابل للتطبيق عمليًا، بسبب تضاؤل الإحتياط المالي بالعملات الصعبة للمصرف المركزي بشكل كبير جدًا، علمًا أنّ هذا الأسلوب الذي كان مُعتمدًا لتثبيت سعر صرف الدولار عند حدود 1500 ليرة لبنانيّة على مدى عُقود أثبت فشله الذريع، والعودة إلى تطبيقه ممّا تبقّى من ودائع المُودعين(1) هو ضرب من الجنون! وهذه الفئة من الخبراء مُقتنعة أيضًا أنّ المصارف لن تُنفّذ الشق المطلوب منها، لجهة توفير ما لا يقلّ عن مليار دولار أميركي وضخّها في السوق للمُساهمة في تأمين الإستقرار، لأنّها ترفض إستهلاك ما تملكه من دولارات، لبلّ هي تعمل على شراء الدولارات من السُوق، بدلاً من بيعها. وسأل هؤلاء الخبراء عن كيفيّة إقناع أي مودع يتوجّه إلى المصرف لسحب ألف دولار من ودائعه المحجوزة والمسروقة، بأنّ قيمتها هي ثلاثة ملايين وتسعمئة ألف ليرة لبنانية فقط(2)، بينما إذا أراد أن يشتري ألف دولار من المصرف عليه أن يدفع نحو ثلاثة أضعاف هذا المبلغ!. وتابع هؤلاء الخبراء أنّ تحديد سعر صرف الدولار منخفض وغير واقعي للدولار، سيؤدّي إلى قيام المصارف والصيارفة بشراء الدولار وفق السعر المُحدّد، بالتزامن مع رفض بيعه وفق هذا السعر، تمامًا كما حصل عند تحديد سعر الصرف عند 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد! وذكّر هؤلاء الخبراء غير المُتفائلين، بأنّه سبق لمصرف لبنان أن أنشأ في صيف العام 2019، هيئة للأسواق الماليّة لحلّ مُشكلة الإقتصاد ينصّ على إنشاء منصّة إلكترونيّة، جرى إدراج مجموعة واسعة من "الأدوات الماليّة" عليها، أبرزها العملات، والأسهم، والمعادن، والعُقود، لكنّها فشلت في تغيير المنحى التراجعي الكارثي للإقتصاد اللبناني.
في الخلاصة، إنّ من شأن أيّ تطوّر سياسي إيجابي أن ينعكس إيجابًا على سعر صرف الدولار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أيّ أجراء مالي إيجابي على غرار إنشاء منصّة إلكترونيّة لضبط التلاعب بالتزامن مع إشاعة أجواء متفائلة بشكل يدفع الكثيرين إلى بيع دولاراتهم لتحقيق مكاسب ماليّة قبل تراجع قيمتها. لكنّ هذه الإجراءات ليست مبنيّة على أرضيّة متينة، وهي عرضة للإنهيار خلال فترة زمنيّة قصيرة، بمجرّد إنسداد الأفق السياسي مُجدّدًا، وتلمّس فشل إجراء مصرف لبنان الجديد ميدانيًا!.
قد يهمك ايضا:
القاضية عون أرجأت جلسة الاستماع الى سلامة الى موعد لاحق الاسبوع المقبل