وزير المالية علي حسن خليل

الحكومة مستمرة بسياسة الكيل بمكيالين. تسلب الموظفين حقوقهم وبعضاً من رواتبهم لتقليص عجز الموازنة، ثم تسعى، خلافاً للدستور، إلى إعفاء الشركات الكبرى من جزء من الضرائب المستحقة عليها. في المحاولة الأولى كان المجلس الدستوري في المرصاد، فأبطل المادة المتعلقة بالتسوية من موازنة 2018. وفي المحاولة الثانية، وضع وزير المالية على طاولة مجلس الوزراء مشروع قانون بالمضمون نفسه، مؤكداً أن أولوية الحكومة تبقى حماية المصارف والشركات الكبرى.في 14 أيار 2018، أصدر المجلس الدستوري قراره بشأن الطعن في قانون موازنة 2018، مبطلاً سبع مواد، من بينها المادة 26 التي تتعلق بتسوية أوضاع المكلّفين المتخلّفين عن تسديد ضريبة الدخل.

لم تمر التسوية في ذلك الحين، لكن بعد عام بالتمام والكمال، يسعى وزير المالية علي حسن خليل إلى تمريرها مجدداً، من خلال تقديمه مشروع قانون إلى مجلس الوزراء بالمضمون نفسه (مع شمول شركات الأوفشور والهولدينغ)، ويرمي إلى إعفاء المكلّفين المتخلّفين عن الدفع من جزء من الضرائب الواجبة عليهم. أما الهدف المعلن، فهو رفد الخزينة العامة بالأموال الناتجة عن تطبيق هذه التسوية، علماً بأن الحجة نفسها سيقت لتمرير مادة في الموازنة تنص على إعفاء 14 شركة كبرى من 85 في المئة من غرامات التحقق والتحصيل.في المشروع المقدم، لم يراع وزير المالية قرار المجلس الدستوري، إلا في الشق المتعلق بوجوب فصل المادة المتعلقة بالتسوية عن الموازنة، انطلاقاً من أن «لا علاقة لها بها، لا لجهة تقدير النفقات والواردات ولا لجهة تنفيذ الموازنة ولا لجهة مبدأ سنوية الموازنة».

لكن هذه الملاحظة التي مرت عرضاً في قرار المجلس، ليست هي التي أدت إلى إبطال التسوية. السبب الرئيسي يتعلق بمخالفتها للدستور. فالنص المكرر في مشروع القانون الذي رفع إلى مجلس الوزراء «لا يتقيد بمبدأ المساواة في الحقوق الواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل وفق ما جاء في الفقرة ج من مقدمة الدستور وفي المادة السابعة منه»، إذ إنه يعفي مكلفين تخلفوا عن تسديد الضرائب المفروضة عليهم بموجب القانون من جزء من هذه الضرائب، بينما سدّد مكلّفون آخرون الضرائب الواجبة عليهم بكاملها، التزاماً بتنفيذ القانون! وأبعد من ذلك، ذهب المجلس إلى اعتبار أن التسوية لم تُميّز بين اللبنانيين فحسب، بل كان التمييز لمصلحة المتخلّفين عن القيام بواجباتهم.

يتغاضى وزير المالية عن كل هذه الملاحظات الدستورية في مشروعه، داعياً إلى إعفاء المتخلّفين عن الدفع من جزء من الضريبة، فيما موطنون في موقع قانوني مماثل لهم يلتزمون بتسديد ما عليهم ضمن المهل المحددة. كذلك يتغاضى وزير المالية، المنتمي إلى كتلة التنمية والتحرير، عن موقف سبق أن أعلنه رئيسها الرئيس نبيه بري، في جلسة إقرار الموازنة الأخيرة. حينها أعلن بري اعتراض الكتلة على التسوية «لأنها لا تساوي بين المواطنين».

وإضافة إلى ضرب هذه التسوية لمبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية، يذهب المجلس الدستوري إلى اعتبارها «تشجيعاً للمواطنين على التخلف عن تسديد الضرائب الواجبة عليهم، وحمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي على التهرب من التسديد أملاً بصدور قوانين إعفاء ضريبي لاحقاً». وهو ما يمكن أن يسهم في إحداث فوضى ضريبية تؤدي لاحقاً إلى خفض الإيرادات لا زيادتها.هذه النقطة تضمنها قرار «الدستوري» أيضاًَ، وهي تنسف حجة تمرير التسوية، أي تحصيل الأموال للخزينة، فالمجلس اعتبر أن التسوية «تؤدي إلى التفريط بالمال العام، وبالتالي زيادة العجز في الموازنة العامة، في وقت تزاد في الضرائب والرسوم على سائر المواطنين بحجة تغذية الموازنة وتخفيض العجز المتنامي فيها».

الأمر نفسه يتكرر اليوم. ففيما تُحشى الموازنة بمواد تزيد الضرائب والأعباء على المواطنين عموماً والموظفين خصوصاً، بحجة الوضع الصعب الذي يتطلب إجراءات استثنائية، يتم تضمين الموازنة مادة تعفي 14 من كبار المكلفين (مصارف وشركات عقارية وتجارية) من 85 في المئة من الغرامات المستحقة عليهم نتيجة تخلفهم عن دفع الضريبة، والتي تصل قيمة غراماتها إلى 100 مليون دولار، ثم يأتي مشروع قانون التسوية المقدم من خليل ليحمّل الخزينة خسائر إضافية، وأيضاً بحجة حث المتخلّفين على الدفع، انطلاقاً من أن أي مبلغ يمكن تحصيله من التسوية أفضل من عدم تحصيل شيء.

في هذا السياق، يسأل الخبير الضريبي أمين صالح: «هل أنتم واثقون من أن هذه التسوية تحصّل ضرائب أكثر؟»، ليجيب بنفسه مستعيداً تجربة تسوية عام 2003. في ذلك العام، أقرت تسوية للمتخلّفين عن دفع الضرائب للغاية نفسها، أي تحسين الواردات، فكانت النتيجة أن تراجعت الإيرادات الضريبية بعدها، إذ إن واردات ذلك العام ارتفعت عن العام 2002 بمعدل 15.6 في المئة فقط، فيما كانت هذه العائدات قد ارتفعت بين عامي 2001 و2002 بنسبة 25 في المئة (من 5344 مليار ليرة إلى 6178 مليارات). والأمر نفسه حصل عندما أقرّت تسوية ضريبية في عام 1993، إذ إن الأعوام التي تلت لم تشهد أي زيادة في الواردات بشكل ثابت.

وعليه، يبدي صالح اقتناعه بأن «التسوية لا تؤدي إلى زيادة عائدات الضريبة، بل تشجّع على الاستمرار في التهرب وتشجيع الملتزمين على عدم التصريح عن ضرائبهم، وبالتالي تؤدي إلى التفريط بالمال العام.وهذا أقل ما يقال به أنه إساءة أمانة تزيد عجز الموازنة ولا تخفّضه لأنها تسهم في حرمان الخزينة من إيرادات ضريبية يفترض أن تحصلها، إضافة إلى حرمانها من الغرامات المحددة في المواد من 105 إلى 150 من قانون الإجراءات الضريبية».في المقابل، يسأل صالح، لماذا لا يكون البديل بإصدار وزير المالية بيانات اسمية بالمتخلفين عن دفع الضرائب؟ ويعتبر أن عدم القيام بذلك يشكّل تقصيراً في حماية المال العام، وحكماً لا تعوّضه الإعفاءات.

تسوية خاصة للمصارف

تتناول التسوية الضريبية، بحسب مشروع القانون:

– أعمال السنوات 2014 لغاية 2017 ضمناً للمكلّفين المسجلين (كانت في المادة الملغاة من قبل المجلس الدستوري ما بين 2013 و2016).

– أعمال السنوات 2012 لغاية 2017 ضمناً للمكلّفين المكتومين (كانت من 2011 إلى 2016 في المادة الملغاة).

– المؤسسات التي تتمتع بإعفاءات دائمة من ضريبة الدخل على الأرباح، وذلك بالنسبة إلى المبالغ الخاضعة لضريبة الرواتب والأجور التي يتقاضاها مستخدموها وكذلك بالنسبة إلى المبالغ الخاضعة لأحكام المواد 41 و42 و43 من قانون ضريبة الدخل. ويتبين أن التسوية لا تطال هذه الفئات بشكل متساو. فعلى سبيل المثال، ينص المشروع في الفقرة المتعلقة بالمكلفين الذين تم التدقيق في أعمالهم (المادة الرابعة) على أن تحدد قيمة التسوية بضرب رقم الأعمال المصرّح به قبل صدور القانون عن أعمال كل سنة تشملها التسوية بـ0.5 في المئة للمؤسسات الصناعية و1 في المئة للمؤسسات التجارية والخدماتية.

لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى المصارف. هنا لا يؤخذ رقم الأعمال بعين الاعتبار، بل تحدد قيمة التسوية السنوية بحسب الناتج الصافي (أي بعد حسم الفوائد المدفوعة من مجموع الإيرادات المصرّح عنها)، فيدفع المصرف من هذا الناتج نسبة 5 في المئة، بدلاً من أن يدفع أسوة بغيره نسبة من حجم أعماله.كذلك، فإن شمول التسوية للضريبة على الأجور لا تبدو مبررة، فأصحاب هذه المؤسسات الخاضعة لهذه الضريبة سبق أن حصّلوها من موظفيهم وهم تخلفوا عن دفعها إلى الإدارة الضريبية، فلماذا يعفون من دفع ما سبق أن حصّلوه؟

قد يهمك أيضا

"المال" اللبنانية تبرهن مجددًا على جدّيتها في ضبط عجز الموازنة وتنمية الواردات

ضبط عجز الموازنة اللبنانية بين التشكيكات المؤسساتية والجدية الحكومية