صندوق النقد الدولي

تناول الدكتور جو سروع خلال مقالة له في صحيفة "الشرق الأوسط" حول الاقتصاد اللبناني وصندوق النقد الدولي .

وكتب سروع خلال مقالة تحت عنوان " لبنان والصندوق .. فرصة فريدة للإنقاذ" ، "اعتمد صندوق النقد الدولي تاريخيًا على نموذج اقتصادي (وصفة تقليدية) واحد لم تثبت فاعليته التامة في الأزمات الاقتصادية في دول عانت من المشكلات البنيوية والمتشعبة كالتي يعاني منها لبنان حاليًا.

وأضاف هذا النموذج يعتمد على مفصلين أساسيين، دور ناعم قوامه استشاري تقني بحت، ودور استشاري معزز ببرنامج مالي يتضمن الاطلاع المباشر على عمل المؤسسات والتحقق من أدائها كما ونوعا ومدى التزامها بخطة الدولة الاقتصادية وإبراز أي قصور في المواكبة والانضباط واقتراح سبل التصويب والتدابير المطلوبة.

هذا الدور يمكن تصور سياقاته ذات الأولوية مسبقا في حالة لبنان عبر التركيز على نقاط ارتكاز ملحة وتهيئ الأرضية المناسبة للمعالجات الأساسية. ويشمل الجدول الداهم، إيجاد حلول فعالة لمعضلة الكهرباء واستقلالية القضاء وإقفال المعابر غير الشرعية وضبط المنافذ الشرعية كافة واستعادة أملاك الدولة البحرية وتحصيل حقوقها المهدورة فيها ومكافحة التسيب الضريبي ومحاربة الفساد وإنشاء وتطوير شبكة أمان اجتماعي شاملة ومحصنة.

وبالانتقال إلى البعد الهيكلي الأشد وطأة والأثقل في التطبيق، يتمثل دور الصندوق لبنانيا بفرض الإصلاحات المطلوبة بدءا من إعادة التوازن إلى المالية العامة من خلال السيطرة على العجز، وزيادة نسب الضرائب المفروضة على القيمة المضافة (VAT) والبنزين، وإعادة هيكلة القطاع العام مع مراجعة أنظمة التقاعد، وتحرير سعر صرف النقد الوطني، وخفض نسبة الدين الحكومي إلى ما بين 60 و80 في المائة من الناتج المحلي ووضع الضوابط لحصره ضمن هذا الهامش.

واقعيا وحتى الأمس القريب، كانت المباحثات بين الدولة اللبنانية والصندوق أشبه بشراء وقت إضافي من قبل بعض الفرقاء الداخليين، سواء بينهم من يفصح عن مواقف علنية أو من يغلفها بلغة دبلوماسية. أما الآن، فقد فرضت الوقائع وتسارعها ضرورات التماهي مع اللجوء إلى الصندوق كخيار وحيد متاح ومع وصول البطالة إلى رقم قياسي يوازي 40 في المائة، وفقدان الليرة فعليا لنحو 60 في المائة من قيمتها الشرائية والسوقية لدى الصرافين، وتجاوز نسبة الدين 150 في المائة من الناتج المحلي، ودخول الاقتصاد في مرحلة نمو سلبي، وغياب الفرص للحصول على التمويل من مصادر خارجية.

وبالإضافة إلى هذه المعطيات الضاغطة، طرأ عامل جديد لا يقل أهمية، ويتمثل في تعليق لبنان دفع مستحقات سندات الدين الدولية في التاسع من مارس (آذار) الجاري، تزامنا مع تعيين مستشارين دوليين ماليين وقانونيين بهدف التفاوض مع الدائنين لإعادة جدولة محفظة السندات. وحصل الأمر في ظل تغيير هيكلي في هوية حاملي السندات لصالح المستثمرين الأجانب، وتحديدا حيازة حصة مؤثرة من قبل صناديق موصوفة في الأسواق المالية الدولية بأنها نسور تتصيد الطرائد وتتغذى على حساب دول تعاني من أزمات مالية ولا توفر فرصة للانقضاض عليها، بما يشمل السعي بقوة لاستصدار أحكام قضائية ملزمة. كذلك فان إعادة جدولة الدين يلزمه توفير ضمانات لإمكانية دفعه مستقبلا وهذا غير متوفر من قبل أي جهة خارجية حاليا.

 

إن مقاومة دور الصندوق أساسها أن أي برنامج كامل يشمل المعونة المالية، من شأنه أن يتيح لبعثة الصندوق الدخول إلى مؤسسات الدولة الرئيسية وفرض إصلاحات جدية. ومن المفهوم أن الإصلاح هو عدو موصوف للنفوذ والتنفيعات والفساد ومنع الدولة من استعادة سيادتها. فيما تفرض الأزمة العاتية وتداعياتها المؤلمة على معيشة المواطنين والاقتصاد الوطني، على الحكومة أن تعكس صورة مختلفة في التزام الإصلاح بخلاف سجل التهرب والتسويف الذي درجت عليه الحكومات سابقا. فهذا شرط لازم أصلاً للحصول على دعم خارجي ولتحفيز المانحين في مؤتمر "سيدر".

يبدو الآن أن هذه المقاومة قد بدأت بالتراجع وخفت حدتها ربطا بالظروف المعقدة التي بلغها البلد وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصا بعد انزلاقه إلى انهيارات أشبه بزلزال بارتدادات تواصلية عالية الدرجات. ولكن الحكم على صدقية المواقف المستجدة تعتريه شكوك حقيقية لا يمكن تبديدها إلا بعد الشروع بتنفيذ البرنامج الإنقاذي ومحطاته المتدرجة. فالدولة لم تحدد، حتى الآن، توجهات جدية وموضوعية للمعالجة. والمطلوب أن تحسم أمرها بشأن المهمة التي ستوكلها إلى صندوق النقد وحدود هذه المهمة والأهداف المرجوة منها.

ليس المطلوب، ويجب ألا نوافق على الوصفة التقليدية للصندوق. فالنموذج الذي يلائم لبنان يمكن أن يراوح بين التدخل المباشر الناعم أو التدخل عن بعد من خلال مهمة البعد الاستشاري التقني والنصح والتوجيه بما يخص الخطة الاقتصادية التي تعكف الحكومة على إعدادها حاليا وتزمع الإعلان عنها قريبا، وخصوصا لجهة تقييم صوابية رؤيتها والأسس التي تقوم عليها، وقياس فعالية آلياتها التنفيذية في تحقيق أهدافها. فضلا عن مدى مطابقة معايير الشفافية والتحقق والرقابة والمحاسبة التي تضمن الإدارة الفعالة والحصانة ضد الفساد.

كذلك من المهم للغاية، تمكين الصندوق من الاطلاع على المعطيات في كل مراحلها وتقييمها تباعا وكذلك تحديد التعديلات الكمية والنوعية التي تطرأ في مرحلة التطبيق. وأيضا مواكبة تنفيذ موازنة العام الحالي التي وافقت عليها الحكومة الحالية، ثم أغفلت عن ذكر أي جديد بشأنها لاحقا. بالإضافة إلى تنفيذ الإصلاحات الأساسية المتعلقة بالكهرباء والقطاع العام والمديونية والتهرب الضريبي وضبط المنافذ، مع تجنب تحميل أوزارها للفئات الشعبية، وبالأخص، المداخيل المتدنية التي تنوء أصلا بحمل تداعيات الانكماش الاقتصادي والتضخم والبطالة وتقلبات سعر الصرف.

بالتوازي، فإن أي عملية إنقاذ للبنان يلزمها أدوات فاعلة لتحفيز النمو وفي مقدمها إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي، وليس فقط بإعادة رسملته أو إعادة هيكلته، بل من خلال إعادة توليد جهاز متجدد يعي تماما مكامن الصواب والأخطاء في مسيرته السابقة ولماذا خسر مخزون الثقة مع عملائه وبشكل دراماتيكي وسريع، بهدف تحديد الموجبات التي تكفل استعادة هذه الثقة وإعادة بناء قدراته الإدارية والتنافسية بما تتطلبه أصول العمل المصرفي الحديث والتغيير في استراتيجياته وخطط العمل وتعزيز خدماته ومنتجاته لتلبية حاجات الاقتصاد المنتج والحاجات التمويلية لعملائه. وحكما يتطلب كل ذلك بناء هيكلية بشرية وتنظيمية وتقنية ملائمة لطبيعة المهام الجديدة.

لبنان يسابق الوقت بجسم هزيل وضيق في التنفس وندرة في الموارد الأساسية. المطلوب تغليب مصلحة الوطن على أي مصالح خاصة أو فئوية. لا مجال للتسويف والمماطلة والتحايل والسياسات القصيرة النظر. صحيح أن للمهل أهمية في صياغة الخطط والحلول، إنما الوقت هو أغلى قيمة وثمنا في تسريع المقاربات الموضوعية والمعالجات الموضوعية، وإلا فان ما نحرقه في نار الأزمة سينثر في رمادها.

قد يهمك أيضًا

مصارف لبنانية تفتح بعض فروعها لتنفيذ عمليات مُلحّة وضرورية

مصرف "BBAC" يكشف عن إجراءات مصرفية موقّتة حفاظاً على السلامة العامّة