موسكو ـ ريتا مهنا
يواجه الاقتصاد الروسي تحديات خطيرة تهدد معظم الإنجازات المحققة منذ صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم قبل 15عامًا، وتضع العقوبات الغربية المفروضة على خلفية ضم القرم وتراجع أسعار النفط، الكرملين والحكومة أمام خيارات صعبة للمضي في الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد والتي طالما كررها بوتين وأعضاء حكومته منذ بدء الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.
وخالف أحدث مؤشرات الاقتصاد الروسي نبرة التصريحات المتفائلة لبوتين أمام المشاركين في منتدى "سان بطرسبورغ" الاقتصادي نهاية الشهر الماضي، والتي أكد فيها أن اقتصاد بلاده تجاوز المرحلة الصعبة.
وكشفت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية أن الناتج المحلي واصل تراجعه خلال أيار/مايو الماضي بوتيرة أسرع من الأشهر السابقة، بنسبة بلغت 4.9 في المائة مقارنة بنحو 4.2 في نيسان/أبريل و3.2 و1.6 في المائة في آذار/مارس وشباط/فبراير على التوالي، ويرى خبراء أن هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية المفروضة على خلفية ضم القرم والتدخل في شرق أوكرانيا أعادت الاقتصاد الروسي نحو 10 سنوات إلى الوراء، وستحرم البلد من نتائج النمو في العقد الأول من القرن الحالي.
وفيما دقت دراسات نواقيس الخطر محذرة من مصير مشابه لليونان في حال عدم تبني إصلاحات اقتصادية وسياسية شاملة، دعا وزير المال الروسي السابق أليكسي كودرين الرئيس بوتين إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة وتبني إصلاحات شاملة وصعبة، بعدما ناشده منذ أشهر استغلال شعبيته الطاغية لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد.
وخلصت مجموعة عمل من وزارة المال أخيرَا إلى أن متوسط نمو الاقتصاد الوطني ما بين عامي 2013 و2017 لن يتجاوز 0.7 في المائة، أي أقل بعشر أضعاف من النمو المحقق بين عامي 2003 و2007 والبالغ 7.5 في المائة، وأشارت دراسة الاقتصاديين إلى أن الفرق بين واقع النمو والمخططات الاقتصادية الحكومية أقل بنحو النصف، ما يعني أن روسيا تخسر سنوياً ما بين 3 و4.5 في المائة من حجم اقتصادها.
ولفتت إلى أن الحكومة ذهبت بعيدًا في تفاؤلها في شأن النمو وقطعت على نفسها التزامات ثقيلة، فرفعت المعاشات والرواتب ومخصصات التقاعد من دون أن تأخذ في الاعتبار واقع الأزمة الاقتصادية عام 2009 أو الأزمة الحالية، وأكد خبراء أن معاشات الموظفين الحكوميين زادت في الأعوام الـ10 الأخيرة بنحو ضعف معدلات نمو واردات الموازنة، ما تسبب في نشوء فجوة كبيرة بين التزامات الحكومة وإمكاناتها في التمويل.
وحذروا في حال عدم تبني الحكومة مجموعة من "الإجراءات البناءة مثل تجميد زيادة المعاشات للعاملين في القطاع الحكومي، ورفع المعاشات التقاعدية بمعدلات أقل، وفي حال مراكمة مزيد من الالتزامات من دون الموازنة مع الدخل، من أن تواجه روسيا مصيراً مشابهاً لليونان"، وحض الخبراء الحكومة على تقليص القطاع الحكومي، والتخلي عن النفقات غير الضرورية، ورفع فاعلية العمل، والتركيز على الدعم الاجتماعي الموجه.
وبات لزامًا على الحكومة الروسية البحث عن حل لمشكلات الموازنة والتذبذب الكبير في حجم وارداتها لاعتمادها الشديد على صادرات النفط والخامات، وتجمع روسيا بين خاصتين سيئتين للدول المعتمدة على تصدير الخامات، والاقتصادات النامية، فالاعتماد المفرط على النفط والغاز من أبرز مشكلات الاقتصاد الروسي، وعلى رغم الأحاديث والمخططات المتكررة عن محاولات تنويع موارد الاقتصاد، فإن مساهمة النفط والغاز ارتفعت إلى نحو 68 في المائة من واردات الموازنة بعدما كانت لا تتجاوز 48 في المائة عام 2000 عند تولي بوتين السلطة.
ومن الطبيعي أن يتأثر الاقتصاد الروسي بأسعار النفط بشدة، وكحال الدول المعتمدة على تصدير الخامات فإن واردات الموازنة الروسية تتذبذب صعوداً وهبوطاً بنحو الربع تبعاً لتغير أسعار النفط في الأسواق العالمية، أما النقطة السيئة الثانية فتتمثل في أن روسيا تجد صعوبة في الحصول على القروض اللازمة لتغطية العجز في موازنتها، وكشفت دراسات أن أسعار الفائدة تزداد عندما تكون روسيا في حاجة إليها مع تراجع أسعار الخامات، ويزداد الوضع سوءاً مع الأزمة الأوكرانية والعقوبات، بعدما تأثرت سابقاً بالأزمة العالمية.
وكانت دراسات سابقة أظهرت تراجع حجم القروض في حال تراجعت أسعار النفط، ما يعني صعوبة تعويض نقص الواردات، وفي الوقت ذاته فإن الحكومة لا ترغب في تقليص النفقات خوفًا من توترات سياسية.
وخلص تقرير خبراء وزارة المال إلى أن الحل الوحيد يتمثل في توفير الفائض من واردات النفط والغاز لاستغلاله أثناء الأزمات وتراجع أسعار الطاقة، ورفع موجودات صندوقي الاستقرار والرفاه الوطني السياديين إلى نحو 30 في المائة من الناتج مقارنة بثمانية في المائة حاليا، واقترح التقرير تشديد قواعد الموازنة، وربطها بمتوسط سعر النفط خلال الأعوام الـ31 الأخيرة بدلاً من الأعوام الـ10 الأخيرة، داعياً الحكومة إلى عدم استخدام أكثر من ثلث موجودات صندوق الاحتياط سنوياً.
أما الانتقادات الأكثر حدة فأطلقها كودرين مع هبوط متوسط معدلات النمو إلى 1.9 في المائة بين عامي 2010 و2015، وتوقعات بتراجعه إلى 1.4 في المائة خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهي معدلات أقل من نظيراتها العالمية بنحو النصف، واعتبر أن انكماش الاقتصاد الروسي سيؤدي إلى تراجع حصة روسيا في الاقتصاد العالمي، وجاذبيتها الاستثمارية، وإمكاناتها التقنية، وأن الأوضاع لن تتحسن بتخفيف السياسة المالية والنقدية، أو تنفيذ مشاريع لتطوير البنية التحتية، كما حض الحكومة على الشروع بإصلاحات لتجنب معدلات نمو منخفضة.
وأظهرت تقديرات مؤسسات بحثية أن الاقتصاد الروسي حُرم من 1.5 في المائة من النمو بسبب العقوبات الغربية عقب ضم القرم، ولكن المشكلات الحقيقية ظهرت بوضوح عام 2013، عندما لم يتجاوز النمو 1.3 في المائة على رغم أن متوسط أسعار النفط بلغ 107 دولارات للبرميل، وعزا خبراء ومؤسسات بحوث انخفاض معدلات النمو إلى غياب الإصلاحات الهيكلية، وعدم فعالية نموذج النمو القديم المعتمد على زيادة الطلب من دون تحسين نوع المنتجات، ومن أجل تحقيق نمو مستدام، بات ملحاً التركيز على توطين صناعات قادرة على التنافس معتمدة على التقنيات الحديثة، وزيادة الاستثمارات في التقنيات، والتركيز على تطوير قطاعات الاقتصاد الحقيقي ودعمها بالأموال اللازمة.
وشدد خبراء اقتصاد، بينهم كودرين، على ضرورة تقليص حجم حصة الحكومة في الاقتصاد، ما يفتح المجال أمام المنافسة وإدخال التقنيات الحديثة، فيما اعتبر آخرون أن الاقتصاد الروسي في الأعوام الأخيرة بات أشبه بالاقتصاد السوفياتي لجهة انخفاض إنتاجية العمل، وعدم توافر القروض والاستثمارات لتطوير الصناعات، وشدة الاعتماد على النفط والغاز والخامات، وتراجع المنافسة أمام هيمنة شركات الحكومة القابضة، وعلى رغم الحديث عن هذه القضايا كثيراً، فإن تدخلات الحكومة ازدادت مع إجبار المؤسسات الإنتاجية على تحديد الأسعار وعدم رفعها من أجل ضبط التضخم، ويطالب خبراء بخفض النفقات الدفاعية إلى نحو ثلاثة في المائة من الناتج المحلي بعدما تجاوزت 4.8 في المائة، وتحويل المبالغ إلى قطاعات التعليم والصحة.
ومن بين الإصلاحات السياسية زيادة الصلاحيات الممنوحة للمقاطعات والجمهوريات المنضوية في الاتحاد الروسي. ومن المشكلات الأخرى التي يجب على صناع السياسة الروسية إيجاد حلول لها ضعف المؤسسات وعدم حماية الملكية، والفساد والضغوط الكبيرة على قطاع الأعمال، وحل قضية رفع سن التقاعد وحسم النقاش المستمر منذ بضعة أعوام، كما عليها تبني خيارات صعبة، فمن جهة لا تستطيع الاستمرار في زيادة المعاشات التقاعدية بنسبة تساوي التضخم وارتفاع الأسعار لأنها ترهق الموازنة، ولكن في الوقت ذاته فإن عدم التعويض للمتقاعدين سيرمي بمعظمهم إلى أتون الفقر.
ومنذ أيام، طرحت وزارة المال مشروعًا لتعديل المعاشات التقاعدية بنحو 14 في المائة في موازنة 2016-2018، ولكن المشروع ووجه باعتراضات لأن التضخم المتوقع في السنوات الثلاث سيتجاوز 27 في المائة، واعتبر خبراء أن الحكومة تأخرت كثيراً في حل أزمة المعاشات التقاعدية، ومن الأفضل البدء برفع سن التقاعد بمعدل ستة أشهر سنويًا لتحقيق بعض التوازن في الأعوام المقبلة لأن البديل هو زيادة الإنفاق على المتقاعدين على حساب تمويل قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم. وأظهرت إحصاءات أن حجم القوى العاملة في روسيا يتقلص بنحو 900 ألف شخص سنويًا.
ولعل من المبكر الحديث عن أوضاع مأسوية للاقتصاد الروسي تشبه أوضاع اليونان، فعجز الموازنة والدين العام ضمن حدود معقولة، ولكن المؤكد أن الاستمرار من دون إصلاحات هيكلية للمشكلات الاقتصادية والسياسية يعني تسجيل معدلات نمو أقل كثيراً من نظيراتها العالمية، وتراجع حصة روسيا في الاقتصاد العالمي بعد النهوض الكبير في وزنها الاقتصادي في فترتي رئاسة بوتين الأولى والثانية.
ويبدو أن بوتين مطالب أكثر من أي وقت مضى بالانتقال من طرح شعارات الإصلاح إلى تنفيذها، وربما عليه استغلال شعبيته الجارفة التي تناهز 90 في المائة والإصغاء إلى "صديقه" كودرين بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، أو مباشرة إصلاحات هيكلية مؤلمة لكنها ضرورية في حال رغب في الحفاظ على إنجازاته السابقة والبناء عليها.