بيروت ـ لبنان اليوم
مع بداية العام الدراسي الجديد في لبنان المؤمل انطلاقه قبل نهاية أيلول/ سبتمبر الجاري، تتصاعد المخاوف والتحذيرات من كارثة تعليمية مع الكارثة الاقتصادية والسياسية التي أضافت لبنان إلى الدول الفاشلة. وتعتزم الآلاف من العائلات اللبنانية نقل أولادها من المدارس الخاصة مدفوعة الأجر إلى المدراس الحكومية، بعدما تراجعت مدخراتهم المالية، واستحال عليهم دفع المزيد من الأقساط في وقت الصراع فيه على توفير لقمة العيش.
ولم يبق قطاع بمنأى عن تداعيات الانهيار وبينها قطاع التعليم الذي يشهد نزوحا للتلامذة من المدارس الخاصة ذات الأقساط المرتفعة إجمالاً نحو المدارس الرسمية التي يعتبر كثيرون أن التعليم فيها أقل جودة، خصوصاً في المراحل ما قبل الثانوية.
وقبل بدء معالم الأزمة الاقتصادية في أواخر العام 2019 والتي صنّفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، اعتادت العائلة اللبنانية دفع ما يعادل تسعة آلاف دولار، وفق سعر الصرف الرسمي، كأقساط مدرسية لثلاثة أبناء.
لكن مع تدهور قيمة الليرة التي خسرت أكثر من تسعين في المئة من قيمتها وتراجع قدرتها الشرائية، نقلت غالبية العوائل أبناءها إلى ثانويات رسمية ينتقلون من المدارس الخاصة إلى الرسمية لعدم قدرة أسرهم على تحمل التكاليف وبات 78 في المئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة، بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت قبل أكثر من سنتين وفاقمتها تداعيات وباء كوفيد – 19 وأزمة سياسية معقدة.
ونبّهت منظمات عدة بينها “سايف ذي تشيلدرن” إلى أن الفقر سيشكّل “عائقاً حاداً” أمام حصول الأطفال على التعليم، محذرة من “كارثة تربوية” ومن خطر انقطاع الأطفال من الفئات الأضعف نهائياً عن التعليم.
وحذرت منظّمة “أنقذوا الأطفال” (غير حكومية، مقرها بريطانيا)، من كارثة تربويّة في لبنان.
وقالت المنظمة إن الأطفال اللبنانيين من الفئات الأكثر هشاشة (مادياً) يواجهون خطرًا حقيقيًّا بالانقطاع نهائيًّا عن التعليم على وقع انهيار اقتصادي في البلاد.
وكانت الجامعات اللبنانية منذ خمسينات القرن الماضي وجهة لنسبة كبيرة من الدارسين العرب، كما كانت بيروت مركزا لتعلم الأجانب اللغة العربية.
وتفخر بيروت بوجود الجامعة الأميركية على أراضيها التي خرجت أجيالا من الطلاب العرب في مختلف الاختصاصات.
وأعلنت وزارة التربية في الثالث والعشرين من أغسطس عزمها فتح المدارس الرسمية بدءاً من السابع والعشرين من سبتمبر الحالي، رغم انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في اليوم وشح في المازوت والبنزين ما يعيق التنقل والحصول على وقود للمولدات الكهربائية.
وفرض لبنان إقفال المدارس في آذار/ مارس 2020. وتمّ اعتماد نظام التعليم عن بعد الذي تفاوتت فعاليته بين المدارس الخاصة والرسمية.
وبحسب إحصاءات وزارة التربية، انتقل أكثر من تسعين ألف تلميذ منذ العام 2019 إلى المدارس والثانويات الرسمية، بينهم قرابة 55 ألفاً العام الماضي وحده. وتتوقع الوزارة زيادة هذا العام بنسبة 14 في المئة في المرحلة الابتدائية و9 في المئة في المرحلة الثانوية.
ولمواجهة النزوح من التعليم الخاص إلى العام الذي يضم أكثر من 383 ألف تلميذ، تحاول السلطات إدارة الأزمة غير المسبوقة عبر الاعتماد على مساعدات وهبات من المجتمع الدولي والجهات المانحة.
وأعلن وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال طارق المجذوب مؤخراً عن سلسلة تقديمات بالتنسيق مع الجهات المانحة مخصصة للمدارس الرسمية التي تضم أكثر من ثلاثين في المئة من إجمالي عدد الطلاب، يشمل أبرزها تأمين الكتاب المدرسي مجاناً وتركيب ألواح الطاقة الشمسية في 122 مدرسة رسمية، على أن تستكمل في 80 مدرسة أخرى للتخفيف “من عبء توفير مادة المازوت” الضرورية للتدفئة والإنارة.
وتقول مديرة الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية هيلدا خوري لوكالة الصحافة الفرنسية إن هذا الواقع يشكّل “تحدّياً كبيراً” لكنه أيضاً “فرصة” لإصلاح المدرسة الرسمية.
وعلى وقع تراجع قدرتهما المادية، قررت رولا مراد وزوجها نقل ابنهما الأوسط من مدرسة خاصة إلى مدرسة رسمية، رغم إدراكهما الفرق في مستوى التعليم بينهما في لبنان، لكن الانهيار الاقتصادي المتمادي لم يترك لهما خياراً آخر.
وتقول رولا، وهي موظفة مياومة في وزارة المالية، لوكالة الصحافة الفرنسية من منزلها في بيروت “لطالما كان أولادي تلامذة التعليم الخاص، غير أنّ الأمور تغيّرت كثيراً”. وتضيف “لم يعد بإمكاننا أن نتحمّل هذا العبء”.
وتوضح رولا “دفعنا 250 ألف ليرة لبنانية (170 دولارا بحسب سعر الصرف الرسمي) كرسم تسجيل للسنة الدراسية الماضية (…) فيما كانت الكتب مجانية”.
وسيحذو شقيقه ريان (14 عاماً) حذوه نهاية الشهر الحالي، بعدما لم تعد العائلة قادرة على دفع قسطه في المدرسة الخاصة.
ومع تراجع قيمة دخله الشهري، استبق سامي مخلوف (55 عاماً) بدء الدراسة العام الماضي بالانتقال من بيروت إلى قريته القاع النائية في منطقة البقاع (شرق)، حيث انصرف إلى العمل في مجال الزراعة.
وسجّل أولاده الأربعة في مدرسة القرية الرسمية، موفراً على نفسه عناء دفع نحو 13 ألف دولار (وفق سعر الصرف الرسمي) كأقساط في المدرسة الخاصة.
ويوضح مخلوف أنه وجد نفسه “مجبراً على التأقلم” بعدما “قضت هذه الأزمة على الطبقة الوسطى، وصرنا الفقراء الجدد”.
وتعبر جانيت عن مخاوف كثيرة حيال العام الدراسي الجديد لابنها روي البالغ من العمر 14 عاما، أبرزها عدم قدرتها على سداد أقساط مصاريف العام الدراسي بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في بلادها.
وتضيف جانيت، التي فضلت عدم كشف اسم عائلتها، “الأقساط المدرسية ليست المشكلة الوحيدة، إذ ارتفعت أيضاً كلفة التنقل من المنزل إلى المدرسة بشكل كبير بفعل ارتفاع سعر المحروقات وفقدان مادة البنزين من الأسواق”.
ويخشى القيمون على التعليم الخاص من الأسوأ في حال استمرّ الانهيار على وقع هجرة العديد من الأساتذة والتلامذة. وبعدما أغلقت مدارس أبوابها واعتمد بعضها سياسات تقشّفيّة لتخفيف الأعباء، اضطرت أخرى إلى رفع أقساطها بنسبة تراوحت بين 30 إلى 35 في المئة.
وخسرت شبكة المدارس الكاثوليكية وحدها التي تضمّ 321 مؤسسة تربوية و185 ألف تلميذ، نحو تسعة آلاف تلميذ خلال العام الماضي، كما أغلقت 14 مدرسة.
ويقول الأمين العام السابق للمدارس الكاثوليكية في لبنان الأب بطرس عازار “إذا لم نحمِ القطاع الخاص، ستأتي نهاية التعليم ذي الجودة العالية”.
ويتحدّث نقيب المعلمين في المدارس الخاصة رودولف عبّود عن “نزيف” في الهيئة التدريسية مع هجرة “بضعة آلاف من المدرسين” من أصل نحو 43 ألف مدرس متفرّغ ومتعاقد، بعد أن تدنّت قيمة رواتبهم التي تُدفع بالليرة اللبنانية.
وتقول رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل “لم نشهد وضعاً مماثلاً من قبل”، مضيفة “حتى التعليم، ركيزة مجتمعنا، ينهار”.
ووفق خطة وزارة التربية والتعليم العالي للعام الحالي، سيتم اعتماد أربعة أيام تعليم حضوري في المدارس والثانويات الرسمية كحد أدنى، فيما يكون اليوم الخامس للتعليم عن بُعد، بسبب أزمة المحروقات التي تؤثر على انقطاع الكهرباء وحركة النقل.
إلا أن هذه الخطة تعتريها بعض الثغرات، بحسب مطلعين، خصوصا أن أزمة المحروقات ستعيق وصول الطلاب إلى المدارس، كما أن انقطاع التيار الكهربائي عن المدارس سينعكس على قدرة عملها بظروف طبيعية.
يبلغ عدد المدارس الرسميّة (الحكومية) في لبنان ألفاً و235 مدرسة، تضمّ نحو 342 ألفًا و304 طلاب، فيما يبلغ عدد المدارس الخاصّة (غير الحكوميّة) ألفًا و209 مدارس، تضمّ نحو 558 ألفًا و68 طالبا، وفق “الدوليّة للمعلومات” (شركة بحثية، مقرها بيروت).
ويقول محمد شمس الدين، الباحث في “الدوليّة للمعلومات”، إن 13 مدرسة خاصّة أغلقت أبوابها، وجرى تسريح 6 آلاف معلم العام الماضي على وقع الأزمة المتفاقمة التي يشهدها لبنان.
وقبل انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة أمام الدولار، بلغ متوسّط راتب المعلم شهريا في مدارس المرحلة الثانوية 3 ملايين ليرة (حوالي ألفي دولار)، فيما بلغت حاليا بفعل الانهيار الاقتصادي 200 دولار أو ما دون، بحسب مطلعين.
وعن الطلاب اللبنانيين الذي يرغبون في الدراسة خارج بلدهم، يقول شمس الدين “في الماضي كان يغادر لبنان بين 10 آلاف و12 ألف طالب سنويا لاستكمال دراستهم الجامعيّة في الخارج، لكن هذا العدد انخفض إلى ألفي طالب فقط تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلاد”.
ولا تخفي رئيسة “اتحاد لجان أولياء الأمور” في المدارس الخاصّة لمى الطويل قلقها حيال العام الدراسي الجديد، بقولها “خسارة أولادنا لعام دراسي ثالث ستؤثّر سلبًا على مستقبل جيل بأكمله في لبنان”.
وتضيف الطويل “غالبيّة المدارس الخاصّة بدأت تبلغ العائلات بزيادات الأقساط المدرسيّة للعام الدراسي المقبل، والتي تتراوح نسبتها بين 25 و35 في المئة، ما قد يؤدّي إلى ارتفاع نسبة التسرّب المدرسي بسبب عدم قدرة الأهالي على سدادها”.
وترى الطويل أن “70 في المئة من الأهل لن يتمكّنوا من تأمين الأقساط المدرسيّة للمدارس الخاصّة، أو شراء الكتب والمستلزمات الدراسية، فضلاً عن فقدان الحاجات اللوجستيّة كافّة في المنازل (لا كهرباء ولا إنترنت)”.
وتدقّ الطويل ناقوس الخطر حيال تدهور مستوى التعليم، قائلة “إنّنا مقدمون على كارثة تطيح بجيل كامل، إذا استمرّ المسؤولون في إهمال القطاع التربوي”.
يعمل جميل إلياس سائق باص مدرسي منذ 27 عاما، تابع لإحدى مدارس جبل لبنان، إلّا أنّ عمله توقّف مع إغلاق المدارس بسبب تفشي فايروس كورونا. يقول إلياس “عملي توقّف منذ فبراير 2020 إثر الإقفال العام بسبب ارتفاع معدلات إصابات كورونا في لبنان”.
ويضيف “في ظلّ التعليم الحضوري هذا العام، لن أستطيع أيضًا العمل، بسبب زيادة تكلفة النقل بفعل ارتفاع أسعار المحروقات وما يترتب عليها من عجز الأهالي عن دفع مصاريف تنقّل أبنائهم”.
ويوضح إلياس أن “تكلفة انتقال الطالب الّذي يسكن في النطاق الجغرافي للمدرسة، كان منذ عامين حوالي 60 ألف ليرة لبنانية في الشهر (40 دولارا). أما بعد رفع الدعم عن المحروقات، ارتفعت التكلفة إلى 400 ألف ليرة (نحو 265 دولارا)”.
ويرى أن “الأهل لن يستطيعوا دفع هذا المبلغ شهريًّا، ما يهدد العاملين في هذا القطاع بالتوقف الكامل أو خفض رواتبهم”. ويدعو إلياس سلطات بلاده إلى “دعم أصحاب الحافلات المدرسية من خلال تأمين بطاقات خاصّة لشراء المحروقات بسعر أقلّ، أو دعم قطع الغيار التي تحتاجها الحافلات”.
قد يهمك ايضا: