الدكتورة أماني فؤاد

لا تكف الدكتورة أماني فؤاد، أستاذة النقد الأدبي الحديث، في كتاباتها المتنوعة عن إعلانها التمرد على كل ما يكبل حرية الإنسان في نشدانه العدل وحقه في الحياة، تقف في صف المرأة ضد التعسف والقهر، وترى أن ذلك انحياز للإنسانية، كما تنحاز لقيم الحداثة والتنوير والتجريب في مقارباتها النقدية المتميزة، واستجلاء علاقة الإبداع بالمجتمع، وهو ما ظهر جلياً في مؤلفاتها ومنها «المرأة... ميراث من القهر»، «في نقد تراث أبي حيان التوحيدي ونقده»، «المجاوزة في تيار الحداثة بمصر بعد السبعينات»... هنا تتحدّث عن عالمها النقدي، بمناسبة صدور كتابها الجديد «قضايا التنوير... الخصوصية المصرية».

وقالت الدكتورة أماني فؤاد في حديث لـ "الشرق الأوسط"، إن المثقف الحر عملة نادرة للغاية، ولذا نعاني كمجتمعات عربية من أزمة النخبة من دون أي مبالغة، ونادراً ما نجد المثقف الذي يستطيع الاستغناء عن ضرورات الحياة بسبب مواقفه، أو وقوفه على يسار أي سلطة، حيث السياق الحياتي العام لا يشجعه ولا يدعمه، فإن لم يكن هناك إرهاب الخطاب الديني المتطرف، هناك القيود على حرية التعبير، وأقسى من هذه الجهات أحياناً سلطة المجتمع التي تقمع المثقف، وهي رغم عدم وضوحها في شكل مؤسسي محدد، فإنها شديدة القسوة في آثارها على المثقف والمبدع.

وأوضحت أن المثقف يحتاج لقوة فولاذية ليتناسى كل متطلبات الحياة حوله، لينتصر لقناعاته ورؤاه في الوجود، كل مثقف تراوده رغبة الحياة الكريمة في ظل ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة وضغوط بلا نهاية، يراوده حلم التمتع بالمناصب وما تهبه من سلطة، يحلم بانتشار رؤاه على نطاق إعلامي واسع. لكن هناك دائماً قلة لا يتنازلون عن رسالتهم التي يهبون حياتهم لها، ويترفعون عن كل شيء من أجل مبدأ ما.

وأضافت أنه: "لا يمكن لأي سلطة أن تصنع مثقفاً أصيلاً ومتحرراً، حيث إن المثقف ينبغي أن يكون خارج حاضنة أي سلطة، وبينه وبينها مسافة، فتهميش السلطة للمثقف وتصويره أنه خارج سياق الواقع، وفي الأبراج العالية العاجية، أو متحرراً في تناوله للحياة، يؤثر على مصداقيته أمام الطبقات العريضة، ومن صفات هذا النموذج الذي يصدرونه للمثقف يترسخ فعل استبعاده، أو السخرية من مقولاته، والتشكيك فيها. المعادلة الوحيدة لحضور المثقف في مشهد سياقنا العام في العالم العربي أن تأتي سلطة سياسية وتؤمن بالثقافة وبمقولات المثقف وتثق فيه، أو تحتاجه، وهي معادلة شديدة الصعوبة حيث لا يستمر الرضا بينهما كثيراً. يحتاج الفكر والإبداع وحرية الرأي لقوة تؤمن بها وتدعمها لتنمو وتسير على أرض الواقع. وهذا ما يحدث في المجتمعات الديمقراطية، حيث تدعم الأغلبية المثقف وتهبه قوة التأثير".

وأشارت إلى أنها لا تشعر بالتجاهل من الوسط الثقافي، وتشارك في فعالياته بالقدر المناسب لها، لكنها تفضل الوجود بقدر، لاستمرار بقاء قلمها حراً بلا مجاملات، قائلة: "كما أنني لم أؤمن قط بالثقافة «التيك أواي»، ولا ادعاء الثقافة والاستحواذ على قشورها وأشكالها الخارجية، سواء في اللغة المحملة بالمصطلحات الأجنبية، أو مقعرة التراكيب دون أن تحمل مضموناً، ولا في التجمعات والندوات التي بلا تفاعل حقيقي مع الناس. ودائماً ما أصابني الشك في إيقاعي وبطء إنجازي للمهام، وتساءلت متى يجد المثقفون والكُتاب الوقت للقراءة والكتابة، وهم يجدون كل تلك الأوقات في المقاهي الثقافية".

وتابعت: "ليس هناك موقف على الإطلاق، من منتديات وتجمعات وسط القاهرة الثقافية لكنني أشعر أن العمل، والقراءة والكتابة الدورية للمقالات والتدريس في الأكاديمية يلتهم الوقت كله، حتى أنني أُحرم أحياناً من أشياء أفضلها كالسينما، أو الجلوس أمام البحر للتأمل، لذا أفضل أن أشترك فقط في مناقشة ما أشعر بقيمته وتميزه من أعمال، وأعتذر عن كثير من الفعاليات، لكنني أيضاً لا أغفل ما أسميه ثقافة السماع من الآخرين، واكتساب خلاصات تجاربهم والتي عادة ما تكون مثيرة وثرية، ولقد نعمت باكتساب بعض هذه الثقافة من بعض الصالونات الأدبية التي اشتركت فيها، كما أن هناك ثقافة المشاهدة أيضاً وهي التي أحرص عليها من خلال رحلاتي الخارجية، وفي مصر أيضًا". وبخصوص سؤال لماذا بقينا أسرى لثقافة القشور والفهم السطحي المتسلف للدين ولم نتجه بقوة للعلم القائم على التجريب، أجابت قائلة: "إجابة هذا السؤال على محورين، الأول: عندما أطرح السؤال فأنا أدعو الجميع للتفكير، وأثير أذهان من يقرأون لي أو يستمعون، هي محاولة لإلقاء الأحجار في المياه الراكدة".

وأضافت أنّ المحور الثاني: "طالما تحدثت وكتبت عن أسباب بقاء ثقافتنا مسطحة، فنحن لا نمر ببوابات الزمن المتطور، وأحسب أن الأسباب تتلخص في: افتقارنا للحريات نتيجة للحكم المطلق الذي توالى على منطقتنا، ولسطوة السلطة الدينية التي تحارب كل صاحب اجتهاد أو رؤية مغايرة لموروثهم، وتقف في مواجهة كل إبداع يخرج عن رؤاهم منخفضة الأسقف للغاية. كما أن حياة المثقفين وأصحاب الفكر والمبدعين صعبة، فبجانب متطلبات الحياة، يواجهون التضييق والقمع من جهات مختلفة، سواء سياسية أو دينية أو مجتمعية، أيضاً نحن مجتمعات لا تتمتع بنظم تعليم تتمكن من استنفار كل قوانا على الإبداع والتفكير خارج القولبة والمحفوظ والمكرر، وترسيخ مفهوم السمع والطاعة".

وبالنسبة لاستدعاء التنويريين إلى معركة تجديد الخطاب الديني، قالت: "لو أردنا تنويراً حقيقياً لا بد أن يتم فصل الدين عن الدولة، الدين علاقة خاصة بين الفرد وربه، دولة المواطنة لا دين لها إلا بحكم عدد أديان مواطنيها، على الدولة فقط أن تكفل حرية كل طائفة في ممارسة شعائرها. ربط السياسة وشؤون الدول المتغيرة بالدين يصيب السياسة والدين كليهما بالاحتقانات والنزاعات، فالتنوير الذي أعنيه بمعنى: نشر أنوار العقل وتأملاته وبحوثه وتجاربه التي تشتغل على مختلف مناحي الحياة العامة وقضاياها؛ لتكوين وعي جمعي يحترم الحريات، ويُقدر حقوق الإنسان خاصة حقوق المرأة، يؤمن بقبول الآخر والتفاعل معه وعدم الاستعلاء عليه، يرفض التعصب والعنف الطائفي، يؤمن بالديمقراطية والمواطنة، يحترم العقل وحقائق العلم، يواجه الخرافات والجهل والتواكل، يؤصل للقيم الإنسانية السامية، ويحتفي بالإبداع الحقيقي في كل المجالات، ويدرك قيمة الفنون الجمالية وتأثيرها على ترقية الإنسان وتهذيب غرائزه".

وتابعت أنه لا يوجد ما يسمى قراءة وسطية، حيث يفرض المنطق والتناول العقلي للقضايا قدراً من الوضوح والاتساق مع ما نتناول، والوصول به لأوضح صورة مجردة، تكشف الهيكل الأساسي للأشياء، ومع اعتذاري عن هذا الوصف لكن من يختار الوسطية يحمل قدراً لا بأس به من الجبن، حيث يترك لذاته مساحة الانسحاب عند أي مواجهة.

ولفتت إلى أنها لا تنحاز للمرأة ولكنها تنحاز للإنسانية التي تشكل المرأة نصفها، بل النصف الأكثر تأثيراً في التكوين الإنساني بصفة عامة، المرأة هي الأم التي عادة ما تتولى تنشئة الطفل في أعوامه الأولى التي تؤثر في حياته كلها فيما بعد. ولا يقل هذا المحور عن الانحياز للعلم والعدل وحقوق الإنسان التي اجتمعت عليها كل الحضارات المتطورة والمتقدمة... ألا تلاحظين معي أن أغلب الحاصلات على نوبل لهذا العام عالمات في الكيمياء والسياسة ومبدعات في الأدب.

وأضافت :"مازلنا في مجتمعاتنا نتحدث في مساحات غادرها الإنسان المتطور منذ قرنين أو ثلاثة وهو ما لا يشكل أي إضافة لنا، بل يشكل عواراً في طريقة رؤيتنا للأمور، فالمرأة ليست عورة ولا ناقصة عقل ودين، كما أنها على الطرف الآخر ليست سلعة ومن غير الوارد أن تتعرض لكل العنف الذي تتعرض له".

وأشارت إلى أنها دائماً ما آمنت أن مهمة الناقد الأولى إبراز المواهب والقدرات الإبداعية المتميزة من الشباب الذين لم تركز عليهم الأضواء من قبل، قائلة: "أصنع هذا حتى الآن، حتى أنني على خلاف التقاليد الأكاديمية في جامعاتنا أقرر لطلبتي أعمال الشباب التي تنال جائزة الدولة التشجيعية في الرواية كل عام، كما أنني أجد متعة كبرى في التعرف على العوالم الجديدة التي لم تكتشف بعد قدراتها، ولقد ضم كتاب «الرواية وتحرير المجتمع» سبع عشرة دراسة نقدية موسعة لروايات متميزة معظمها للشباب، وكانت قيمة النص الأدبية وتمثيله للظاهرة النقدية التي أتحدث حولها هي الفيصل، وكنت أتناول في هذا الكتاب أشكال الكتابة الروائية الجديدة للشباب وأسئلتها المهيمنة، وفي الكتاب النقدي القادم، وهو تحت الإعداد أتناول أيضاً أعمال لشابات مبدعات وشباب بصورة نقدية مختلفة وفقاً لظواهر جديدة يدور حولها الكتاب".

وتابعت أن التراث مرّ بمراحل زمنية واسعة الآفاق، وامتلأت تلك المساحات الزمنية التي أصبحت بيننا وبينه بمنجز نقدي غربي بكل أشكاله وتياراته ومذاهبه، وحين نضيف الآن أي إضافة فستمثل تراكماً يضاف إلى ما صنعه الآخرون، الذي هو منتج حضاري عالمي يشمل عطاءات البشرية، ولا يختص بعربي أو غربي

قد يهمك أيضًا: 

 رحيل اللغوي الفرنسي آلان ري المشرف على قاموس "لو روبير"

تطويّر الثقافة يتطلبُ مراقبّة الإعلام والخطاب الديّني