الجزائر ـ حسين أبوصالح
يصنع الشاعر الجزائري بغداد السايح أسلوبًا متفردًا على شاكلة المتنبي و مفدي زكريا من خلال مجموعته" قناديل منسية"، التي يحلق فيها كالنورس بين ربوع الكلمات و الوطن في تزاوج ساحر، و قد كان لـ"العرب اليوم" لقاء فسيح معه أوضح فيه الغاية التي أراد أن يمررها من خلال هذا العمل المتميز الذي تظهر رسالته من أول الولوج إلى العنوان فالأرض المنسية من أبنائها، و هم يصارعون الحياة لها قناديل حبّ و حريّة تتمثّل في شخصيات بطولية يُضيئها زيت التاريخ و نار المحن، فكل شبر من بلاد الإنسانية يعبق بنفوس تركت أثرًا طيبًا يحترمه الوجدان، لذا يجب أن نمسك بالهويّة الزمكانية من خلال حبال التواصل بين أجيال مختلفة نقشت على جدار الخلود بصمات العزة و الشهامة و القيم الجمالية لتكون رؤى المستقبل جسورا تمتدّ من ماضينا. و أكد من خلال اللقاء بأنه اختيار نمط القصيدة العمودي في زمن الشعر الحر لأن الشعر له مكوناته الخاصة التي تعرّفه متمثلة في عموده و بحره و قافيته و غيرها، فملح الطعام إذا فقد عنصر الصوديوم و حلّ محلّه عنصر الهيدروجين سيصير حمضًا، هكذا الشعر يفقد ماهيته بمجرد اختلال ضابط من ضوابطه، أما تلك المكوّنات فالقول أنها تضعف القريحة و تُكبّل الشاعر مجرد وهم ما دام الشاعر الفذ أكبر من أن توضع في يديه قيود لأنه بمهاراته الفنية يجعل منها أساور متى تعامل مع الحداثة و ما بعدها بذكاء يقتضي تجاوز الجدلية من الشكل إلى المضمون، و لم يكن المتنبي و لا ذو القروح عاجزين عن خوض غمار القصيدتين التفعيلية و النثرية رغم ملامستهما للحداثة بمعناها الحقيقي. و في ظل طغيان عالم الرواية على عوالم الشعر حيث رأى النقاد أن هذا العصر هو زمن الرواية، في مقابل فقر الشعرفي العصر الحالي فعلق بغداد قائلاً" الشعر لن يكون أدبًا فقيرًا فهو أغنى بتواجده في مختلف الفنون سواء كان غنائيًا أو مسرحيًا أو حتى حين نكون بصدد الرواية المشعرنة، وربما ساعد الرواية ميل النشر إليها على حساب الشعر غير أن الشعر إنشاد و إلقاء فهو لا يعتمد على القراءة وحدها و إنما يتوغّل داخل كيانات متعددة بما فيها الرواية و بهذا يحقق انتصاراته، فالشعر كائن جميل لا يعيش على الورق فقط بل نجده في نظراتنا الحانية و ابتساماتنا الزاهية و في زهور تدغدغها نسائم الصباح و في رقصات المطر أيضًا". و على صعيد آخر قال بغداد "إن الملتقيات الأدبية في الجزائر لا تصنع مشروعًا ثقافيًا جادّا ما لم تخرج الأديب من قوقعته إلى قاعة العمليات حيث الدرس و النقد.. صحيح أن الأديب يبحث عن مجد ذاتي و لكن إذا تكاثفت الجهود بين الأكاديميين و الناشرين و المبدعين سيكون المشروع الثقافي جماعيًا ناجحًا وهذا في إطار سياسة تعمل على إعادة الاعتبار للأدب الرفيع و تجسيده في الحياة اليومية من خلال الكتاب المدرسي مثلاً و الذي نراه خاليا من نصوص جزائرية راقية، أظنّ أن الأنانية و أساليب المجاملة و القطيعة بين الأجيال الأدبية سبّب غياب رؤية إستراتيجية لهذا المشروع فلا يمكن أن نشاهده ما دامت الرداءة تجد الوسط الملائم لانتشارها فحين توكل الأمور إلى غير أهلها تحلّ الكارثة". و أضاف بغداد "أعتقد أن الأدباء هم من يهمّشون بعضهم البعض لأنهم دخلوا حالة اليأس من الواقع و تركوا الجاهل يسير بالثقافة إلى الهاوية.. لا يخفى على أحد أن جمهور الشعر و الأدب موجود لكن الوصول إليه يتطلب منابر محترمة تحظى بالتبجيل و التغطيات الإعلامية اللائقة فأيّ نشاط ثقافي يفتقد لحنكة سيكون مصيره الفشل، و يبقى الأمل أن يأتي جيل يرى الثقافة أوسع من هزّ البطون و شدّ العيون و عشق المجون و نشر الجنون". هذا وقد قدم رؤيته عن الجيل الجديد في الجزائر قائلاً "الجيل الجديد يحمل رؤى موضوعية ما دامت لديه قابلية التواصل مع الأجيال الأخرى، فهو و إن لم يجد مدارس أدبية حقيقية يستند إليها يبقى وفيّا لبصمة الإبداع الجزائري يحترم من سبقوه إلى لسعة القريحة لكن الحكم على معالمه و توجهاته يظلّ سابقا لأوانه باعتبار التجربة حديثة و سريعة مقارنة بنقد قديم و بطيء، أما إذا كان يمكنه الارتقاء بالأدب الجزائري إلى العالمية فالأكيد أن لجيلي ميزة تساعده على ذلك باعتبار كتاباته إنسانية تنسلّ من القومية الزائفة و تتحرر من الوطنية الساذجة متجاوزة الحدود الفكرية الضيّقة إلى روافد تتسع لثقافات الآخرين". أما عن ظاهرة رفض النقد عند الجيل الجديد من الأدب، و كيفية الاستفادة من الوسائل التكنولوجية كالمواقع الاجتماعية و تحويل تلك الوسائل في الاتجاه الإيجابي خاصة وأنه بدأ التخطيط لظهور الرواية الالكترونية قال " إن هذه الوسائل و إن نفضت الغبار عن نصوص أدبية مغمورة و جعلت النقد و الأدب يقتربان تبقى عالمًا افتراضيًا لا يقدّم الكثير للإبداع ما دامت الاستعجالية سمة تغلب عليه في التواصل، و لا ينجح الأدب إلا بنقد يجتمعان على أرض الواقع في ظروف مناسبة تخدم الإبداع المشترك بعيدا عن الجري وراء الشهرة الفارغة و الدعايات التافهة، و لا أرى أي وسيلة تقهر الكتاب و هو يشعّ في الأيادي سبيكة ذهبية بمحتواه لا بالتنميق المنتشر في الوسائط الالكترونية". هذا وقد كشف بغداد لـ"العرب اليوم" عن أعماله المقبلة قريبًا و عن إن كان في نيته كتابة رواية أم لا؟ قال بغداد "سأنهي يومياتي الشعرية لعامنا هذا و الموسومة بمذكرة نورس مغناوي كما أن لي مجموعة شعرية جديدة تلوح في أفق الإبداع نجمة قد تشي بالكثير من الضوء الشعريّ. و بخصوص الرواية و القصة أجدني محاولا فيهما فلم أتمكن بعد من الدخول إلى قلاعهما لأن القصيدة ضرّة غيورة تمنعني أن أحتضن الرواية في الليالي الحالمة أو أن أرتشف قهوتي مع قصة ما". و في الختام أعرب بغداد عن أسفه الشديد عن ما تمر به المنطقة العربية من أزمات حيث قال " مع الأسف واقعنا العربي لا يجعلنا نتفاعل بالطريقة التي نريدها فلا زلنا نقمع الأصوات التي تعارض التوجه العام للسلطان و نلغي إرادة الفكر.. الكثيرون هاجموا الربيع العربي و اعتبروه شتاء باردًا لم يجلب إلا الطوفان في حين تناسوا أن تلك الشعوب الثائرة عاشت صيفا حارقا يموت فيه الفرد ظامئا دون ماء كرامة.. من هنا وجدتني أضيء قناديلي و أخرجها من غرف النسيان باعتبار أن القصيدة لها ضوء يتسع لوطن كبير تهدّده التناقضات فالإبداع سلاح نهربّه عبر حدود الفكر و الجغرافيا و الغاية واحدة هي محاربة الاستبداد فلا عدوّ للمستبد كالقلم".