الحكومة اللبنانية

وجه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان رسالة إلى اللبنانيين عموما والمسلمين خصوصا، هنأهم فيها بحلول شهر رمضان المبارك، جاء فيها: "لأنه دعوة الله لأعظم شهوره، وأكبر رحماته وجوائزه، يتهيأ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان المبارك، شهر البركات والفضائل، شهر الرحمة والدعاء والاستغفار، شهر التصالح مع الله والأوبة إليه تبارك وتعالى، بنفوس نظيفة، وقلوب مطهرة، لا غل فيها ولا حقد، متعبدة مطمئنة، رافعة أكف الضراعة للخالق جل وعلا، راجية الاستجابة والقبول، فهو نعم المسؤول والمستجار. فلنكن في رحاب هذا الشهر الفضيل عبادا صالحين، مؤمنين طائعين، نابذين أشكال الحرام وأنواع المعاصي، متقربين لله بالتقوى، طاردين الشر من أنفسنا، متحررين من النزوات والشهوات، متواصين بالحق، ومتواصين بالصبر، قارئين للقرآن ملتزمين به متدبرين فيه، آمرين بالمعروف عاملين به، ناهين عن المنكر تاركين له، واصلين للأرحام، قريبين من كل مسكين ومحتاج، مبتعدين عن كل نميمة ونفاق وغيبة، متسلحين بقوة الإيمان في مواجهة الأهواء ومغريات الدنيا ونزواتها، لا تلهينا عن طاعة الله لذة، ولا تشغلنا عن ذكره معصية، (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون).

فها نحن اليوم نعيش هذا الانشغال عن ذكر الله، والانغماس في معصيته، وما نشهده على مستوى العالم من حروب وعداوات وأوبئة ينذر بانهيارات اقتصادية، وانحطاطات قيمية وأخلاقية وفساد وإفساد في الأرض، يؤكد التيه في الرذائل، والغلو في الظلم والاستبداد، والصلف في سياسات الهيمنة والتسلط والاستئثار، على قاعدة الأقوياء يقتلون الضعفاء، والأغنياء يستعبدون الفقراء، وهذا ما يتطابق وواقعنا نحن اللبنانيين، الذين نعاني كل أنواع المآسي، ونعيش أسوأ حالات البؤس والفقر والشقاء، جراء نظام تأسس على الطائفية البغيضة، وراح يقسم الناس طبقا لمصالح هذا وذاك، متجاهلا أن الوطن هو الأولى، والمقدم على أي طائفة أو مذهب أو فريق. هذا النظام انهار، ولم يعد صالحا لقيامة وطن ولبناء دولة، طالما ذهنية الحصص هي التي تتحكم وتدير الدولة وترسم سياساتها المالية والاقتصادية والاجتماعية.

إن دولة الطوائف ودولة الأمراء والزعماء والإقطاع أيها اللبنانيون، هي دولة فساد وتبديد الثروات، هي دولة تضييع الحقوق، المجتمعية والفردية، هي دولة "اعطيني لأعطيك" على حساب الوطن والمواطن. وما عشناه على مدى سنوات ولا نزال هو وفق هذه القاعدة التي أفلست البلد، وأثقلته بالديون، ونهبت تعب الناس بسياسات مافياوية دبرتها وحاكتها زمر سياسية واقتصادية ومصرفية، لا تخجل ولا تستحي ولا تخاف الله، ولا تزال تستغبي اللبنانيين وتعدهم بالإصلاح، وبمكافحة الفساد وبمحاسبة الفاسدين وباسترداد الأموال المنهوبة، فيما الواقع يؤكد العكس، ويكشف صراعا عميقا ومستفحلا على السلطة، بدل التنافس والتسابق على قيامة وطن، بما يعنيه من حاكم مسؤول، ومواطن كفوء.

لقد ثبت للعيان بالبرهان والأدلة القاطعة أن هذا النظام قد فشل بمندرجاته ومتفرعاته، وكل محاولات الترقيع والتجميل لم تعد تنفع، فالنتائج كارثية، وواقع البلد والناس فضح عورات الجميع وسوءات سياساتهم وإداراتهم، مما يؤكد الحاجة المسيسة لإيجاد صيغة حكم بديلة، تنهي هذه الحقبة من النفاق السياسي وهذا النهج في التصنع الوطني والاستبطان الطائفي، فالبلد لم يعد يحتمل، وربما فقد أهليته للقيام من جديد ما لم نسارع جميعا إلى إنقاذه والانخراط معا في مسيرة بناء الدولة المدنية بسلطاتها ومؤسساتها وإداراتها، على أسس الكفاءة والأهلية، وخارج كل القيود الطائفية والمذهبية، وبعيدا عن منطق المناصفة أو المثالثة أو المرابعة، فاللبنانيون سواسية في الحقوق والواجبات، وأبناء وطن واحد، ولا يعنيهم من السلطة لا اسمها ولا شكلها ولا لونها، بل يريدون سلطة تعمل من أجل الوطن وتكون في خدمة أبنائه، تثيب وتعاقب، وتساوي بين اللبنانيين من دون 6 و 6 مكرر، هذه المعادلة التي صنفت اللبنانيين، وغذت الطائفية، وبذرت روح الشقاق والفتن، وكرست الانقسام يجب أن نتخلص منها، وأن نلغيها من النفوس والنصوص، إذا كنا نريد بلدا متطورا، تحترم فيه القيم الإنسانية والأخلاقية والمجتمعية، ويكون نموذجا يحتذى في الإبداع والتأثير بين الشعوب والأمم.

لا شك أنها مهمة شاقة أيها الإخوة، وعصية على البلوغ، لكنها ليست مستحيلة، إذا ما توفرت الإرادة، وتضافرت الجهود، وكسرت القيود الوهمية والتخويفات المصطنعة التي تروج لها العقليات المتصهينة والمتآمرة على كيانية هذا البلد ووحدته واستمراره كواحة تتفاعل فيها الديانات، وتتمازج فيها الحضارات والثقافات.

من هنا، ومن رحاب هذا الشهر الفضيل، ندعو هذه الحكومة إلى ذهنية جديدة، ونهج متميز، يؤسس لنقلة نوعية في ممارسة السلطة وإدارة شؤون الدولة على النحو الذي يكسبها ثقة الداخل والخارج، ويؤشر إلى أن هذه الحكومة المطوقة بشتى أنواع الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية، وعلى رأسها جائحة كورونا، مصممة على وضع الدولة ومؤسساتها على السكة الصحيحة، وعازمة على انتشالها من هذا التخبط الذي أطاح بآمال اللبنانيين، وسود طموحاتهم، ومصرة على محاسبة كل من أفسد وارتكب وتطاول على المال العام، من خلال إصلاحات حقيقية لا كلامية، وإجراءات حازمة وحاسمة لا محاباة فيها، ولا استرضاء لأحد، بل تأكيد على المصلحة العليا، وتثبيت لحقوق الناس التي ضيعتها سياسة الصفقات والهندسات وتقسيم المغانم، دون أن تنسى هذه الحكومة أن هدر الوقت ليس لصالحها، فالمرحلة دقيقة ومصيرية وتستدعي مواقف سريعة وجريئة، وخططا واضحة، وبرامج شفافة، ومواقف تبين الحقائق، وتحدد الأهداف، بعيدا عن العشوائية والاستنسابية، وبخاصة الحسابات السلطوية والطائفية. ولهذا نحذر هذه الحكومة من الدخول في البازارات السياسية والانزلاق إلى لعبة المصالح في القضاء والتعيينات وإعادة ترميم المؤسسات، فالمسؤولية كبيرة، وعدم الالتزام بمعايير الكفاءة والجدارة ونظافة الكف والعفة في كل المواقع والمراكز يعني نحن أمام الانهيار الكبير الذي لا قيامة بعده، فالمزاح ممنوع، وثقافة تدوير الزوايا لصالح هذا وكرمى لذاك لم تعد مستساغة ولا مقبولة. وعلى من يعنيهم الأمر، أن يتنبهوا للمخاطر المحدقة، وللفوضى الهدامة التي تدفع بالبلد إلى المصير المجهول.

من هنا نطالب الجميع بالتهدئة والعقلنة وباعتماد الحكمة سبيلا للتواصل والتعاون على تقطيع هذه المرحلة التي فيها الكثير من التحديات والتداعيات، وتتطلب المزيد من الوعي والجهود المضاعفة، والوقوف إلى جانب الحكومة ومؤازرتها في مواجهة الابتلاءات التي أصابت اللبنانيين جميعا، وأفقدتهم الثقة بكل المعالجات والتوجهات التي لا زالت دون المستوى، ولا تؤشر إلى أن الخروج من المحنة قد يكون ممكنا.

إنه شهر الله الفضيل، فلا يفوتنكم أيها المسلمون وأنتم في ضيافته، فاتقوا الله وتراحموا وتحابوا وتصدقوا، واستغفروا الله وتوبوا إليه، وكفوا عما أنتم فيه من خلاف واختلاف، واتحدوا في الله، وكونوا في سبيله كالبنيان المرصوص في مواجهة كل من يريد ببلدنا وبناسه شرا. فالشهر شهر عظيم، وباب إلى رب كريم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيده على لبنان واللبنانيين بالخير واليمن والبركات".