معرض "مدد .. مدد"

في ذلك العالم المليء بالصعوبات التي تفرضها طبيعة الحياة الجافة يبحث كل منا عن العون أو المدد، تلك الكلمة التي ارتبطت مع الوقت بعالم الأولياء والصوفية بل ودخلت بقوة في الثقافة الشعبية المرتبطة بالموالد في مصر ومنها إلى عالم الموسيقى والأغاني والفن التشكيلي الذي صور كثيرا من الموضوعات المرتبطة بالصوفية  والروحانيات.

فالفنان سيد سعد الدين المعجونة أعماله بروح الثقافة المصرية والشعبية وكذلك الذي تجد في كثير من أعماله ما يعبر عن الروحانيات يقول إننا دائما ما نتبرك بكلمة "مدد" على أساس أنها مدد من الله .. أحيانا نطلب شفاعة سيدنا رسول الله .. شفاعة للضعفاء المحتاجين لعطف الله.

جاء ذلك على هامش معرض "مدد.. مدد" "الذي افتتحه غاليري خان المغربي مؤخرا بمشاركة كل من الفنان سيد سعد الدين والفنانة إيفلين عشم الله والفنان أحمد عسقلاني.. ليقدم كل منهم مجموعة من الأعمال تعد بمثابة قراءة مكثفة تعكس مراحل مختلفة في مشوارهم الفني.

إلا أن السمة الغالبة التي تربط بينهم هو انتماء كل منهم لثقافة مصر البكر البعيدة عن المدينة والتي انعكست في أعمالهم ربما لتكتسب المدد بعدا آخر مرتبطا بالتمسك بالجذور والأصل في ظل مد العولمة والتغريب والابتعاد عن الهوية .. حيث ولدت الفنانة إيفلين في دسوق بكفر الشيخ، وتشربت برموز الثقافة الشعبية كالكف والعروسة الورق والعين ولمبة الجاز وغيرها والتي تظهر جلية في تفاصيل أعمالها، إضافة إلى الوجوه المصرية الخالصة التي تميزها عن غيرها.. فكل لوحة عالم ثري محتشد بالحكايات التي ترويها بعدة طرق وبتداخل من الخامات التي وظفتها بحنكة في عوالمها الثرية.. 

أما الفنان سيد سعد الدين ابن قنا فلطالما قدم روح تلك البيئة التي نشأ بها بل وقدم توثيقا فنيا لطبيعة الحياة المصرية ومنها الألعاب الشعبية كالطوق والحجلة وكذلك التحطيب وأيضا الموسيقي الشعبية كعازفي الدفوف والربابة وغيرها في كثير من الأعمال الفنية التي اتسمت بالرسوخ والفخامة والتي قال عنها الناقد صبحي الشاروني لوحاته لا تمثل مجرد انطباعات عن البيئة وإنما هي دراسات أيضا للتراث الشعبي في مصر وفي تشكيلاته المختلفة .. تحليل تتجلي فيه قوة البناء ورسوخه بإحساس المثال المتمكن مما يشيع في لوحاته جواً من التعبد والصوفية

إلا أن للجانب الروحاني الذي ظهر بقوة في عدد من أعمال سيد سعد الدين حكاية تمس الوجدان حيث فقد ابنته ذات الثمانية عشر ربيعا أمام عينيه عام 1998 بسبب خطأ طبي. وقد تجلت حالة الحزن التي سيطرت عليه  في  أكثر من 40 لوحة عن الروحانيات.. تلك الروح التي صعدت إلي بارئها بدون جرم.. وربما تحولت تلك الروح في أعماله إلى رموز متماسة  مع السماء .. مثل الحمام الذي يعتبره رمزا للأرواح الهائمة التي تسبح في ملكوت الله، كذلك أصبحت أشجار النخيل تصل بين السماء والأرض، وإن كان سيد سعد يستمد مادته من الواقع إلي أنها تتحول إلي ما يشبه الحلم من خلال وجدان تضفر فيه الشجن بالروحانية والألم بتلمس الأمل من مناجاة الله والاستماع إلي القرآن الكريم كما في لوحتي المقرئ والكتاب.

أما الفنان الشاب أحمد عسقلاني فينتمي لقرية القنوية بنجع حمادي، وهو نحات شاب استطاع أن يقدم رؤى نحتية مختلفة متشربة من بيئته بداية من الثقافة الفرعونية التي نجدها مثلا في نماذج كالكاتب المصري الذي قدمه رؤية معاصرة، إضافة إلي عدد من التجارب الأخرى التي تحمل طابعا مصريا صميما من بينها استخدامه لخامة الخوص في منحوتاته.. تلك الخامة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بثقافة البسطاء وبالحرف اليدوية المصرية، بخلاف تجربته التي تحمل أسلوبه الفني المتمثل في الأجساد والأرجل والأقدام الضخمة والرؤوس الصغيرة جداً .. والتي تعبر عن فلسفة مهمة تتمثل في أهمية العقل الذي ميز الله به الإنسان، واختيار البعض محو ما هو مُفضل في مقابل القوة الجسدية أو النفوذ.

كذلك فإن أبطال عسقلاني وشخوصه كثيرا ما تتضمن حيوانات يرتبط كثير منها بالموروث الشعبي المصري، فالقطط ترتبط بالأساطير والخرافات عند المصريين، أما الحمار الذي يُعد من الحيوانات المفضلة عند عسقلاني فيقول عنه : إن له  تركيبة خاصة وله محبة وقرب من المصري في صفاته فهو ذكي وصبور ومطاوع وحمول إلي أبعد الحدود.

وربما كان واحدا من المشاهد اللطيفة في معرض مدد.. مدد هو الاحتفاء بالحمار من خلال منحوتة للفنان أحمد عسقلاني ولوحة زيتية للفنان سيد سعد الدين الذي قدمه كبطل وحيد في تلك اللوحة، وكان قد قدمه أيضا في العديد من أعماله الأخرى التي ارتبطت بالفلاح المصري وبقيمة العمل التي لطالما احتفي بيها سعد الدين في أعماله.