كتبتُ رواية عن الإنسان المختفي وراء الأسوار العقائدية والتاريخية ونظم التقاليد والأعراف السائدة التي وصلت من التفاهة إلى حيث حجبت الإنسان، فكل ما في الأمر هو أنني حاولتُ أن أمسّ وأفهم هذا الجوهر الإنساني، وكل ما عدا الجانب الإنساني للراهب "هيبا" كالمعرفة باللاهوت، بالتاريخ، حياة الأديرة، اللغة، الحيلة الفنية، الإيهام، الصور... كلها أدوات، فالغرض الأول هو اكتشاف الإنسان الذي يُسعى حاليًا لإجهاضه)، ذلك جزء مما كتبه يوسف زيدان عن روايته (عزازيل) التي حصدت جائزة البوكر للرواية العربية للعام 2008، وأثارت العديد من ردود الفعل، ولاقت الكثير من الاعتراضات، وخصوصًا من الكنيسة القبطية، ونُشرت عنها كتبٌ عدة وقراءات متعددة، لتناولها الحقبة المسيحية الأولى التي شهدتها الكنيسة الإسكندرانية، وربما كان سر الضجة التي أقيمت بشأن الرواية هو بالذات تحرشها بواحدة من التابوهات الثلاثة الأساسية، بصرف النظر عن ماهية هذا التحرش. وتتناول الرواية الحقبة الأولى لانتشار الدين المسيحي في العالم، وتحديدًا بعد اعتماد قسطنطين قيصر روما الدين المسيحي دينًا للدولة، حيث تدور الأحداث، في ظل الصراع بين الدين من جهة، والعلم والفلسفة من جهة أخرى، والذي ظلّ متأججًا لقرون عدّة، وقاد العالم لما يسمى بالعصور المظلمة، وذلك من خلال شخصية الراهب (هيبا) الذي كان شاهد عصره عبر تدوينه لمجموعة من (الرقوق) التي تحوي تجربته الإنسانية، ويبدأ تدوينها ليلة السابع والعشرين من شهر توت القبطي (أيلول) العام 147 للشهداء الموافق العام 431م، وهو العام الذي عزل فيه الأسقف نسطور من أسقفيته، ويحكي عبر هذه (الرقوق) وقائع طرد الكنيسة الاسكندرانية الفيلسوف الأفلاطوني أوريجانوس وهدم معبد (السيرابيوم)، وقتل العالمة الفيلسوفة (هيباتيا) الذي سمى الراهب (هيبا) نفسه بالجزء الأول من اسمها، وشهد مقتلها وحفظه تفصيلياً في أحد رقوقه، وهربه من الاسكندرية (بعد أن جاءها من أخميم) على أثر هذه الحادثة إلى أورشليم وتعرفه على الأسقف نسطور، ومن ثم ذهابه لشمال حلب ليستقر هناك ويقوم بتدوين رقوقه. وتحمل الوقائع التي اعتمدها زيدان في روايته الكثير من القسوة مثل وصف الراهب هيبا لمقتل أبيه الوثني على يد المسحيين المتعصبين في معبد الإله (خنوم) عند الطرف الجنوبي من جزيرة إلفنتين الواقعة قرب أسوان، حيث طعنوه بالسكاكين الصدئة وجرّوه لبوابة المعبد ليعلنوا الفرح بنصرهم، ومن الوقائع القاسية أيضاً وصف مقتل العالمة (هيباتيا) من طعنها وجرها على طرقات الاسكندرية ومن ثم سحلها (لا أعرف من أين أتوا بالحبل الخشن الذي لفوه حول معصمها، وأرخوه لمترين أو ثلاثة، ثم راحوا يجرونها به وهي معلقة من معصمها.. وهكذا عرفت يومها معنى كلمة السحل) ليتابع وصفه لتعذيبها بجرها وهي كتلة لحم لتحرق (جرّوا هيباتيا بعدما صارت قطعة، بل قطعاً، من اللحم الأحمر المهترئ... ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب، بعدما صارت جثة هامدة.. ثم.. أشعلوا النار..علا اللهب.. وتطاير الشرر), هذه الحوادث التي وثقها زيدان جاءت نتيجة تعامله مع التاريخ كمادة أولية، فارضاً مبدأ الشك فيه ضمن سياق مواد تاريخية أخرى ليتم البحث فيها وفحصها، ليعيد قراءة التاريخ من وجه نظره الخاصة... والنفس والروح اجتمعا عند (هيبا)، وقام زيدان باستحضارهما خلال مسيرة حياة الراهب، النفس جسدت عبر عزازيل وهو الاسم العبري للشيطان أو ابليس، فرغم أن الشخصية الأساسية في الرواية هي (الراهب هيبا) إلا أن الشخصية المحركة للأحداث هو عزازيل الذي يظهر لهيبا في أوقات متفرقة يحاوره (اكتب يا هيبا، أريدك أن تكتب، اكتب كأنك تعترف، وأكمل ما كنتَ تحكيه) ليحرضه على الكتابة، فبناء الشخصية الأساسية (الراهب هيبا) اعتمد على (عزازيل) الذي يمثل الجانب الآخر من الإنسان (نعم يا هيبا، عزازيل الذي يأتيك منك وفيك) وحتى عند غيابه يبقى موجوداً (غاب عزازيل بداخلي وشعرت بالفراغ يلفني، توسدت فراغي ونمت في نومي)، وبالمقابل اهتم زيدان بالجانب الإنساني (الروحي) عبر علاقة هيبا بثلاث نساء هن أوكتافيا الاسكندرية خادمة التاجر الصقلي وهيباتيا العالمة، ثم منشدة الكورال الكنسي مارتا، حيث تتراوح علاقته بهذه الشخصيات بين الحب والرغبة والإعجاب، فعلاقته مع أوكتافيا الوثنية صبت في مصلحة الرواية عبر الحوارات والمفارقات التي صادفت البطل، فيما علاقة الحب بالمنشدة مارتا ووصفه لمشاهد العشق والجنس أغنت البنية السردية، ومنحت الرواية إيقاعاً جديداً، ولكن الذي يسجل على زيدان هو تصويره للمرأة على أنها وجه آخر لعزازيل، خاصة عبر شخصية الراهب (فرّيسي الأقنوم). وخوض زيدان في المسلمات اللاهوتية الحالية والتي اختلف عليها سابقًا أساقفة المنطقة، وجسدها بالصراع بين أسقف القسطنطينية نسطور وأسقف الاسكندرية كيرلس عامود الدين، بالإضافة لبحث الراهب هيبا عن أصل الدين عند الأسينيين على ضفاف البحر الميت ولقائه الراهب خريطون، كان محفوفًا بالمخاطر، حيث حمل الكثير من الاعتراضات وصلت لحد اتهامه بتشويه التاريخ المصري، حيث أعلن سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة الأرثوذكسية الأنبا بيشوي: "تزييف حقبة من تاريخ مصر هو جريمة في حق مصر، فالتاريخ الذي زيفه زيدان هو جزء من تاريخ المصريين كلهم في فترة زمنية قرابة الــ640 عامًا قبل دخول العرب مصر، وليس تاريخ الأقباط المسيحيين وحدهم"، فيما رأى المطران يوحنا جريجريوس: إن يوسف زيدان اقتحم حياة الأديرة, ورسم بريشة راهب أحداثاً كنسية حدثت بالفعل كان لها أثر عظيم في تاريخ الكنيسة القبطية. كما أعلن "المطران يوحنا إبراهيم: الرواية مزيج ما بين بحث لاهوتي وبحث تاريخي أكثر ما تكون من رواية". ويُعَد هذا الصراع الذي ناقشه زيدان بروايته أحد أهم أركان عمله الروائي فالرقوق التسعة والعشرون التي كتبها زيدان حملت الكثير من القضايا الخلافية والجدلية في تاريخ الديانة المسيحية، خاصة فيما يتعلق بإلوهية المسيح وقدسية الأقانيم الثلاثة، ولكن الرق الثلاثين والأخير (قانون الإيمان) جسّد حسماً للجدل الذي دار حينها ورغم أنه لم يؤيده ويباركه أو ينفيه ويدحضه، ولكننا نقرأ فيما بين السطور أن هذا الرق كان حاسماً للجدال ومنهياً له فنقرأ فيه: (نعظمك يا أم النور الحقيقي، نمجدك أيتها العذراء القديسة، يا والدة الإله، يا ثيوتوكوس، لأنك ولدت مخلصنا، فأتى وخلص نفوسنا. المجد لك، يا سيدنا وملكنا المسيح، فخر الرسل، إكليل الشهداء وتهليل الصديقين، ثبات الكنائس، غافر الخطايا. ندعو ونبشر بالثالوث المقدس، لاهوت واحد نسجد له ونمجده. يا رب ارحم. يا رب بارك. آمين). وسجّل دخول زيدان لهذا النوع من الأعمال الروائية في تاريخ الأدب العربي خرقًا لقدسية المسلمات، وكرّس مفهوم الإبداع المستقل عن المرجعة التاريخية أو الدينية، أثار هذا العمل إشكالية العلاقة بين الإبداع والأيديولوجيا بحيث لم يترك مجالاً للاتفاق حول ماهية هذا العمل الذي قدمه، هل هو من نوع الدراسات الدينية التوثيقية؟، أم أنه رؤية إبداعية خالصة؟. وبنى زيدان الرواية بحرفة إبداعية واطلاع كبير على التاريخ مازجًا بين الخيال والتاريخ ضمن حبكة محكمة، حيث بدأت الرواية من حيث انتهت، لتتداخل شخصية الكاتب مع شخصية هيبا في لحظات وتفترق عنها في لحظات أخرى، وتفسح المجال للخيال ضمن سياق المتن الروائي، حملت الرواية العديد من المنولوجات الداخلية التي كتبت بطريقة لغوية متميزة لم تعتمد الإثارة بقدر ما اعتمدت الحبكة، وجاءت الخدعة التي اعتمدها الكاتب بالتواري خلف اسم المترجم الذي وقّّع باسمه في مقدمه الرواية ليضفي صفة الحقيقة على الرواية، وتوحي للقارئ بأنه بصدد عمل يعتمد الوقائع الحقيقية والموجودة، ولكنه أشار في مقدمته إلى أن شخصيته الأساسية (هيبا) قد لا تكون حقيقية ليكشف خدعته التي استخدمها ولكن بطريقة مبطنة، رواية يوسف زيدان (عزازيل) اعتمدت التكوين الفني والمعرفي معاً، ليس كما اعتمدت رواية أخرى على أحد الجانبين على حساب الآخر كرواية (شفرة دافنشي) لدان براون والتي شبهها الكثيرون برواية زيدان، ولكنه رفض هذا التشبيه بقوله: أرفض أن تكون عزازيل مشابهةً لـ (شيفرة دافنشي)، فحين ينشغل رجال الدين بالأدب…فمن حقنا إصدار الفتوى. طبعتها الأولى كانت في كانون الثاني/ يناير 2008 عن دار الشروق، وطبع منها حتى الآن 16 طبعة، وتتألف من380 صفحة من القطع المتوسط فيها 31 فصلاً (رقًا) ولكل منها عنوان. وهي الرواية الثانية لزيدان بعد (ظل الأفعى) التي ناقشت قداسة الأنوثة ودور الأنثى في مراحل مبكرة من التاريخ البشري، قبل أن تتحول المجتمعات الإنسانية إلى السلطة الذكورية، أما العمل الثالث لزيدان فهو النبطي.