يدخل الكاتب المصري الجدلي يوسف زيدان في روايته الثالثة عالم الأنباط، ليقدم وجه نظر خاصة عن علاقتهم مع العرب والبيزنطيين الروم والفرس، وعن الفتح العربي لمصر، وكما أثارت روايته (عزازيل) الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية والاجتماعية والدينية، عبر تطرقها إلى خلاف المذهب المسيحي بشأن ألوهية المسيح، تثير روايته الجديدة (النبطي) الجدل بشأن حقيقة الوثيقة التاريخية التي اعتمدها زيدان في بناء حبكته الروائية. ويقسم (زيدان) روايته إلى ثلاثة حيوات (الحيوةُ الأولى شهر الأفراح، الحيوةُ الثانية صدمة الصحراء، الحيوةُ الثالثة أم البنين)، تعيشها بطلة الرواية (مارية) المسيحية المصرية بداية من شرق الدلتا، وصولاً إلى الجزيرة العربية، بعد زواجها من أحد العرب الأنباط. (مارية) التي تجاوزت سن الثامنة عشرة ولم تتزوج، تقبل من دون تردد بالزوج العربي النبطي الذي يأتي لخطبتها، بعد أن حولتها الحياة من فتاة مرحة إلى فتاة مسلوبة الروح. عندما يأتي الخطاب العرب تقع عينا (مارية) على شاب وسيم، يغض البصر، تفوح من رائحة العطر يسمى (النبطي) وتتمنى أن يكون خاطبها، ولكنها تتفاجأ بأن أخوه الأكبر (سلامة) ذو الحول الطفيف هو خاطبها، لتضطر مرغمة إلى القبول به. ويبدأ شهر الأفراح بمغادرة العرب الديار المصرية لتكملة تجارتهم على أن يعودوا بعد شهر لأخذ العروس، لتتوارد الأخبار عن عزم الفرس الخروج من البلاد، وأنهم سيمرون في كل كَفر وقرية ليخربوها قبل خروجهم، ليدخل (هرقل) وجنوده ليحلوا محلهم، فيسود الخوف في (الكَفر) ويتحول شهر الأفراح إلى شهر الترقب والخوف. ويعود العرب قبل موعدهم لأخذ العروس، ويؤكدون لأهل الكَفر أن هرقل اتفق مع ملك الفرس (كسرى) على الخروج من البلاد بسلام، ليضمن الروم لأنفسهم الضرائب من الأكفار والبلدات المصرية. وتقطع خلالها (مارية) الصحراء من الدلتا إلى الجزيرة العربية (جنوب البتراء) وتتعرف عبر هذه الرحلة على أخو زوجها (الهودي) الذي اختار اليهودية ديناً له، ولكن اليهود لم يقبلوه في دينهم تماما لأن أمه (أم البنين) ليست يهودية، وعلى (النبطي) الذي يدعي أن الوحي يأتيه ولكن يا ينشره بين الناس، وزوجها (سلامة) المسيحي، إضافة إلى (عميرو) ابن الهودي الذي يؤنسها خلال الرحلة ويتحدث معها. وتبدأ شخصية (النبطي) في الاتضاح بعد أن تسمع (مارية) كلامه مع (عميرو) وهو يتحدث عن الأنباط (أول من عرف الشعر والبلاغة، أول من اتخذوا الجبال بيوتًا)، كما يتحدث (سلامة) عن أخوه (النبطي) بأنه كان مدللاً، وأن والده كان يعلمه من دون باقي أولاده وناديه (النبطي)، وعندما كبر أصبح يعتلي جبال سيناء ليرى الآله على حد قوله. ولكن (النبطي) يشرح لـ(مارية) عن اللات التي جاءت بـ(ايل) من دون زوج، فيما يعرف لها (الهودي) عن الأنباط بقوله: الأنباط هم جماعة من العرب قديمة جدًا سموا بذلك لأنهم تفننوا في استخراج الماء وإنباطه من الأرض الجرداء، ومهروا في تخزين النازل منه في السيول، كانت لهم في الماضي مملكة كبيرة وملوك كثيرون، وكانوا يسكنون البادية التي بين الشام والجزيرة، عاصمة مملكتهم وقصبة بلادهم، هي الموضع التي نسكن اليوم فيه وفيه سوف تسكنين. وتبدأ بوصول (مارية) إلى ديار زوجها، لتغير (أم البنين) اسمها من (مارية) إلى (ماوية)، لنرى حياة (الأنباط) بداية من تراحلهم وتجارتهم، مروراً بطريقة معاملتهم الخاصة للمرأة التي تمثلها (أم النيني) التي يحترمها الجميع، ويعرج على الاستقلالية المالية لها، وانتهاءً بالقصص والأحداث التي تجري معهم. ومع انتشار الإسلام يدخل العديد من الأنباط في دين الإسلام منهم (سلامة) فيما يبقى (الهودي) على دينه، والنبطي على أفكاره، ويزور عمر بن العاص وزوجته (رانطة) ديار الأنباط يتفق معهم على الارتحال إلى مصر في جماعات صغيرة كي لا يلفتوا الأنظار لمساعدة المسلمين عند غزوهم لمصر في وقت لاحق. (ماوية) وزوجها (سلامة) آخر المغادرين للديار النبطية، ولكنها تحزن كثيراً لأن (النبطي) يرفض الارتحال معهم ويفضل البقاء، ويبرز ذلك الحزن في قولها: كان النبطي مُبتغاي من المبتدأ وحُلمي الذي لم يكتمل إلى المنتهى.. ما لي دوماً مستسلمةً لما يأتيني من خارجي، فيستلبُني .. أحَجَرٌ أنا، حتى لا يحركني الهوى، وتقودني أمنيتي الوحيدة؟، هل أغافلهم وهم أصلاً غافلون، فأعود إليه.. لأبقى معه ومعاً نموت ثم نولد من جديد.. هُدهُدَين؟. وأضفى الموضوع الذي اختاره زيدان لبناء الرواية على الجزأين (الأول والثاني) الكثير من رتابة في السرد، فحاجته لتحميل شخصياته الجزء التوثيقي من الرواية عبر المعلومات التاريخية والمكانية والتفاصيل الإنسانية للمرحلة التاريخية التي يتحدث عنها، ضرورة حتمية لاكتمال الصورة لدى القارئ، ولكن هذه الرتابة تحولت إلى تشكيلات فنية زخمة بالتفاصيل الحياتية والتي أضفت على الرواية رونقاً خاصاً، فانحسرت الجزء الوثائقي واتسع الجزء الفني والأدبي في سرده. لعل أكثر الأحداث جاذبية في رواية زيدان العائلة النبطية (عائلة أم البنين) المتنوعة ثقافيًا ودينياً، فنشاهد اليهودي أخًا للمسيحي والمسلم، وهم أولاد لنطبية تؤمن باللات، هذا التنوع الذي استخدمه الكاتب بمهارة ليعكس التاريخ من جهة وعلاقة الأديان والثقافات في ما بينها، وليقدم مرآة للحاضر، فنرى الصراعات الداخلية داخل العائلة على جميع المستويات (الفكرية والثقافية والحياتية). وانقسمت شخصيات الرواية إلى ثلاثة أنواع الأولى (المرجعية) والتي حمل التاريخ وأعادت سرده مثل (سلامة، النبطي، الهودي)، والثاني (الفنية) والتي بني عليها الحدث الدرامي مثل (أم البنين، ليلى، سارة، أم مارية)، والثالثة (تاريخية) استحضرها الكاتب لتقوم بتبرير أفعال أبطاله بداية من اعتناق الإسلام وانتهاءً بالارتحال إلى مصر ومن هذه الشخصيات (عمرو بن العاص، فروة ابن عمرو الجذامي، حاطب ابن أبي بلتعة). وكانت عناية الكاتب بالحوار ولغته جلية، حتى إنه أورد بعض الأجزاء التي كتبت على شكل الشعر، وذلك يعود إلى الزخم المعرفي الكبير الذي يقدمه على لسان الشخصيات (المرجعية) والذي تلافى حدته وجموده باستخدام لغة الحوار (السهل الممتنع) باعتماد الشعر في أحيان واعتماد اللغة البسيطة في أحياناً أخرى، فما كان للحوارات الحياتية والتي شارك فيها معظم شخوص الوراية وخاصة (الفنية) بعيدة عن التكليف والتصنع. واستطاع زيدان عبر رواية (النبطي) تحويل مجموعة من الأخبار التاريخية والقصاصات والأساطير إلى عمل روائية أدبي ممتع في مجمله، وقدم وجه نظر خاص لمرحلة تاريخية سقطت من كتب التاريخ وتناسها مؤرخوه. والجدير بالذكر أن رواية (النطبي) هي الثالثة لزيدان بعد (عزازيل) التي حازت على جائزة البوكر العربية 2010، ورواية (ظل أفعى).